الأربعاء، 7 مايو 2025

• البكاء والحنين في معلقة امرئ القيس وبناء الصوت الفردي

"قِفا نَبكِ" وصوت الشاعر الفرد: دراسة في افتتاحيات المعلقات وبناء الذات الشعرية عند امرئ القيس

تُعدّ معلقة امرئ القيس، التي تستهل بالبيت الشهير:
"
قِفَا نَبكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ ومَنْزِلِ"،
نقطة تحوّل مفصلية في بنية الافتتاحيات الشعرية الجاهلية، إذ أسّست لنموذج تعبيري قائم على استدعاء الذكرى والانفعالات الفردية، واحتلت مكانة ريادية في بناء الصوت الشعري الذاتي، بما تحمله من مشاعر الحنين، وملامح الألم، واشتداد التعلق بالماضي.

تمهيد: في معنى "قفا نبكِ"

تتبدى عظمة بيت الافتتاح لا في سبكه اللفظي فحسب، بل في ما يستبطنه من تحوّل في وعي الشاعر الجاهلي. فنداء "قِفا" إلى مخاطبَيْن غائبَيْن –غالبًا ما يُفسّران بأنهما الصاحبان اللذان يرافقان الشاعر في رحلته– لا يقف عند حدّ البلاغة، بل هو إشراك للآخر في تجربة وجدانية خالصة، واعتراف ضمني بعجز الشاعر عن حمل ثقل الذكرى وحده. أما فعل "نبكِ"، فهو فعل اختراق وجداني لما اعتاده عرب الجاهلية من ستر المشاعر، وكتمان الأحاسيس. بكاء الرجل عند أطلال الأحبة لم يكن لحظة ضعف، بل إعلانًا فنيًّا عن الذات بوصفها كيانًا حساسًا متذكّرًا، يتجاوز صورة الفارس الصلب إلى ملامح الإنسان المتألم.

البكاء على الأطلال: من التقاليد إلى التفرد

عرفت معظم المعلقات افتتاحًا طلاليًا، يشير فيه الشاعر إلى بقايا ديار الأحبة، ويستعرض ما حلّ بها من خراب بعد الترحال. غير أن ما يميز امرأ القيس، أنه لا يكتفي بالوقوف عند أنقاض المنازل، بل يجعل من الوقفة فعلًا دراميًّا، مشحونًا بالعاطفة والحنين. ففي حين نجد طرفة بن العبد، مثلًا، يستهل معلقته بقوله:

"لِخَوْلَةَ أطْلالٌ بِبُرْقَةِ ثَهْمَدِ ... تلوحُ كباقي الوشم في ظاهر اليدِ"،

يُلحظ أن الطرفي يتناول الأطلال برؤية جمالية – أشبه بالتأمل الهادئ – دون أن يبلغ الذروة الشعورية التي يلامسها امرؤ القيس. وكذلك الحال عند لبيد بن ربيعة في قوله:

"عَفَتِ الدِّيارُ مَحَلُّها فَمُقامُها ... بِمِنًى تَأبَّدَ غَولُها فَرِجامُها"،

حيث الطابع التأملي يغلب على المشهد، وتنصرف الذات الشعرية إلى توصيف الظواهر الطبيعية والانصهار الكوني مع مفاهيم الفناء.

أما امرؤ القيس، فإنه ينقلب بالمشهد من وصف الأطلال إلى استنطاقها، ومن الحياد التأملي إلى الانخراط العاطفي. وتغدو الذكرى ذاتًا حية تستدعي البكاء، وتتجلى كأحد مكوّنات الهوية، حيث لا معنى لذاته بدون ذِكرى الحبيبة والمنزل.

بناء الذات الشعرية: من الجماعة إلى الفرد

ما يُلفت النظر في افتتاح معلقة امرئ القيس هو تحوّله من ضمير الجماعة إلى ضمير الفرد. فهو يستهل بـ"قفا" و"نبكِ"، ثم ينزاح إلى الحديث عن نفسه منفردًا. يقول:
"
كَأنِّي غَدَاةَ البَيْنِ يَوْمَ تَحَمَّلُوا ... لَدَى سَمُرَاتِ الحَيِّ نَاقِفُ حَنْظَلِ".

هذا الانتقال يعكس تحولًا في النظرة إلى الذات. ففي حين كانت القبيلة هي المركز في المنظور الجاهلي، تتقدم هنا الأنا الشعرية بوصفها محورًا للتجربة. وتُصبح الذاكرة الشخصية هي مصدر المعنى، والبكاء وسيلة لإثبات الوجود الفني، لا مجرّد تكرار عرفٍ شعريّ.

يتجلّى صوت الفرد في استدعائه للتجارب الحميمية، في حديثه عن عشق عنيزة، وعلاقة الجسد بالحس، والذكرى باللذة، حتى ليكاد القارئ يرى في امرئ القيس طليعة صوت فردي سابق لعصره، متحررًا – ولو جزئيًّا – من قبضة الجماعة، ومكرّسًا شعره لاستبطان التجربة الذاتية.

التوتر بين الفحولة والوجدان

يمثل بكاء امرئ القيس أيضًا تحديًا ضمنيًّا للصورة النمطية للفحولة الجاهلية. فالشاعر لا يخجل من إظهار ضعفه، بل يجعل دموعه شرطًا للشفاء:
"
وَإِنَّ شِفائِي عَبْرَةٌ مُهْرَاقَةٌ".

وفي ذلك نوع من إعادة تعريف القوة، لا بوصفها القدرة على الكتمان، بل على البوح الفني. وهذا التوتر بين الفحولة الجسدية – التي تظهر في وصفه للخيل والصيد والنساء – وبين الوجدان العميق – الذي يفيض بالبكاء والحنين – يمنح المعلقة كثافتها النفسية، وثراءها الدلالي.

خاتمة

إن افتتاحية معلقة امرئ القيس بـ"قِفا نبكِ" ليست مجرّد مدخل تقليدي كما يُظن، بل هي تأسيس لما يمكن تسميته بـ"صوت الشاعر الفرد" في الشعر الجاهلي، وهو صوت يتجاوز العرف الشعري نحو التعبير الذاتي الحر، ويعيد بناء العلاقة بين الذات والذكرى، بين الأطلال والهوى، بين الفن والحياة. ومن هذا المنظور، فإن امرأ القيس لم يكن رائد الغزل فحسب، بل رائد الوجدان العربي الذي أدرك أنّ الشعر الحقيقي هو ما يبدأ من الدمع، والذكرى، والانكسار.






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق