الاثنين، 5 مايو 2025

• المرأة في شعر عنترة: عبلة رمزًا للهوى والحرمان في المعلقة الجاهلية


المقدمة

 لم يكن الشعر الجاهلي مجرّد سجلٍ للبطولة والفروسية فحسب، بل كان كذلك مرآةً تعكس وجدان الشاعر العربي وما يعتمل في صدره من مشاعر الحب واللوعة والتوق. وبين أولئك الشعراء الذين اتسعت رؤاهم لاحتضان هذا التناقض الإنساني بين السيف والهوى، يتبوأ عنترة بن شداد مكانةً سامقة، فهو الفارس العاشق الذي حمل قلبًا معلّقًا بعبلة، وابنة عمّه التي تجلّت في معلقته الخالدة بوصفها رمزًا للأنوثة المنالكة والمحبوبة المستحيلة. هذا المقال يستقصي صورة المرأة، وتمثلات عبلة تحديدًا، في معلقة "هل غادر الشعراء من متردم"، محاولًا الكشف عن طبقات المعنى بين العشق والفخر، والحنين والفروسية.

أولًا: عبلة بين الطلل والندبة

 يفتتح عنترة معلقته باستحضار دار عبلة بصوتٍ يقطر شوقًا وتحسرًا: "يا دارَ عبلةَ بالجواءِ تكلمي / وعِمي صباحًا دارَ عبلةَ واسلمي" هنا لا نرى عبلة ذاتها، بل نراها من خلال طللها، دارها التي غادرها الأهل، فغدت موطنًا للذكرى، ومهبطًا لأشواق الشاعر. في هذه الوقفة الطللية، تتجلى عبلة بوصفها ماضٍ عذبٍ لا يُستعاد، وشاهدًا شعريًّا على اللوعة التي تُلازم الفارس العاشق. ليس عبلة شخصًا حاضرًا بقدر ما هي ذكرى محفورة في وجدان عنترة، ذكرى تستدرّ الدمع وتفجر الحنين.

ثانيًا: الحب المحرَّم والمستحيل

 ينقلب الشوق إلى مأساة حين يكشف عنترة أنه يعشق من لا يمكن له الظفر بها: "عُلّقتُها عرضًا وأقتلُ قومها / زعمًا لعمركَ ليس بالمزعمِ" إنه الحب الممنوع، لا فقط بحكم القرابة القبلية المتنازعة، بل أيضًا بحكم طبقته الاجتماعية؛ فهو ابن أمة، وعبلة حرة. يزداد المعنى مأساوية حين نرى أن هذا العشق جاء فجأة، دون تدبير، فكأنما قدريّ، لا مفر منه. عبلة هنا لا تمثل امرأةً بعينها فقط، بل ترمز إلى المرأة التي يحيل العُرف والواقع الاجتماعي دون بلوغها، ويجعل من الهوى عذابًا مستمرًا، ومن المحبّ فارسًا مكلوم القلب.

ثالثًا: حضور عبلة في خضم الحرب

 على الرغم من أن المعلقة تنتقل إلى فضاءات الفخر والبطولة، فإن عبلة لا تغيب عن بال الشاعر حتى وهو يخوض غمار الموت: "ولقد ذكرتكِ والرماحُ نواهلٌ / مني، وبيضُ الهندِ تقطرُ من دمي" "فوددتُ تقبيلَ السيوفِ لأنها / لمعتْ كبارقِ ثغركِ المتبسمِ" هذه الأبيات من أجمل ما قاله الشعر الجاهلي في الغزل، إذ يتماهى فيها العشق بالفروسية، وتصبح السيوف اللامعة انعكاسًا لبريق ابتسامة عبلة. المرأة هنا ليست دافعًا للحرب أو غنيمةً فيها، بل هي الحافز الروحي الأسمى، الذي يسمو عنترة من خلاله عن القتل إلى التجلّي العاطفي. في قلب المعركة، تتجسد صورة عبلة كرمز للحياة والجمال وسط دمار الموت.

رابعًا: عبلة والخذلان الطبقي

 عنترة لم يكن يجهل ما يُمنَع عنه، وهو واعٍ بموقعه في سلّم المجتمع القبلي. يتبدّى هذا بوضوح في تكرار الشاعر حسرة الحرمان: "يا شاةَ ما قنصٍ لمن حلّت لهُ / حرمتْ عليّ وَلَيْتها لم تَحْرُمِ" يشبّه عبلة بالشاة التي لا تُنال إلا لمن رُزقها، ثم يتأسّف على حرمانه منها. هذا التصوير ينقل معاناة الذات المقهورة، التي تجد نفسها محرومة من الحب والحق معًا، لا لشيء إلا لأن المجتمع قرر وضعها على هامشه. بذلك تغدو عبلة أيضًا رمزًا لمظلومية عنترة في مجملها، المرأة المستحيلة التي تُعيد إنتاج المأساة الطبقية.

خاتمة

 في معلقة عنترة، لا تُعرض عبلة بوصفها امرأةً فقط، بل باعتبارها رمزًا متعدّد الأبعاد: فهي الطلل الذي يوقظ الحنين، والحب الذي يُؤرّق القلب، والابتسامة التي تبرق في وجه السيف، والرمز الذي تتقاطع فيه الجمالية مع الطبقية. لقد استطاع عنترة أن يحوّل عشقه لعبلة من قصة فردية إلى أسطورة شعرية يتغنى بها العرب، ويبكيها الفارس في قلب الصليل والصهيل. هكذا، خُلّدت عبلة لا كأنثى جميلة فحسب، بل كصورة شعرية للحرمان والمجد معًا.

 




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق