الأحد، 4 مايو 2025

• سوزي في رواية عصفور من الشرق لتوفيق الحكيم

المقدّمة

تُعدّ رواية «عصفور من الشرق» لتوفيق الحكيم واحدةً من أعمدة الأدب العربي الحديث، والتي امتزج فيها البوح الذاتي بالتأمل الفلسفي، والسرد الحكائي بالنقد الحضاري. وتكمن قيمتها الكبرى في كونها ليست مجرد سرد لوقائع الغربة أو قصة عشقٍ عابرة، بل تأمل عميق في التناقضات بين الشرق والغرب، وبين الروح والمادة، وبين الخيال والواقع، في لحظة فارقة من التاريخ الأوروبي – قبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية – حيث تتداعى المنظومات الاجتماعية في فرنسا، وتتصدع القيم التقليدية أمام سطوة الحداثة الرأسمالية الجارفة.

لقد استطاع الحكيم أن ينسج من خلال بطله "محسن" لوحةً وجدانيةً مفعمة بالتأملات، ترصد ملامح حضارةٍ انهارت قيمها، وتفككت أسرتها، وانهارت عملتها، في ظل هيمنة النزعة المادية وغياب الروح، وتقديم الملذات الفردية على القيم العليا.

الرواية وشخصياتها

يندرج النصّ تحت ما يُعرف بأدب الرحلة الذاتية، حيث يُرافق القارئ الشاب المصري "محسن" الذي حلّ ضيفًا على مدينة باريس، تلك العاصمة التي لطالما ألهبت خيال الشرقيين، ساعيًا للحصول على شهادة الدكتوراه في القانون. لكن باريس – كما يصوّرها الحكيم – لم تكن مدينة النور كما صوّرها المستشرقون، بل كانت غارقة في ظلام الفقر المادي والروحي، وسوقًا للبؤس الإنساني.

يمضي "محسن" في باريس بين المحاضرات والمقاهي، بين أحلام الشرق وحداثة الغرب، حتى يتبدّى له الغرب عاريًا من قدسيته، متجردًا من قيمه العليا. وعبر نسيجٍ سرديّ محكم، تتداخل الشخصيات، أبرزها شخصية أندريه – الصديق الفرنسي – الذي يُجسّد روح الحضارة الغربية: المادية، الساخرة، العملية، والساخرة من كل مثالية. ولكن من بين هذه الشخصيات، تبرز "سوزي"، تلك التي تحوّلت من فتاةٍ عاملة في شباك تذاكر إلى رمزٍ حضاريٍّ بالغ الدلالة.

سوزي: تجسيد المرأة الغربية

سوزي ليست مجرّد امرأة عابرة في حياة "محسن"، بل هي تجربة روحية وفكرية، يتجلى من خلالها الاختلاف الجوهري بين رؤيتين للعالم. هي فتاة باريسية تعمل في شباك تذاكر أحد المسارح، وقد أسر جمالها قلب "محسن" من النظرة الأولى. لم يتحدث إليها بعد، لكن خياله رسم لها عالماً من السحر والأنوثة والتجلّي الشعري، جعل منها ملكةً تجلس على عرش وجدانه.

وإذا كان "محسن" قد رآها بعين الشاعر الشرقي، فإن صديقه أندريه رأى فيها مجرد امرأة عادية، تُقاس بقيمة عطرٍ، وتُنالُ بابتسامة. هكذا كان الفارق شاسعًا بين روحٍ شرقية تنظر إلى المرأة نظرة طهرانية، وماديةٍ غربية تختزل الإنسان في جسده.

الأسرة الفرنسية وانهيار القيم

تُجسّد سوزي ملامح التفكك الأسري والاجتماعي في فرنسا ما قبل الحرب، حيث أجبرها الوضع الاقتصادي المتدهور على العمل، لا بدافع الطموح، بل للحاجة الصارخة. وقد بدا واضحًا أن الأسرة الفرنسية، التي كانت يومًا نواة المجتمع، قد تهشمت تحت وطأة الفردانية، وصار همّ أفرادها الأكبر هو البقاء، لا الاستقرار.

من هنا، يُقدم توفيق الحكيم نقدًا ضمنيًّا للنظام الرأسمالي الذي حوّل الإنسان إلى آلة إنتاج، وجعل من سوزي نموذجًا للمرأة التي تعمل كي تعيش، لا التي تعيش لتبني أُسرةً أو تسعى نحو حياة معنوية.

الحب بين الشرق والغرب: فلسفتان متباينتان

كان لقاء "محسن" بسوزي بداية الصدام بين منظومتين: الأولى مثالية، شرقية، تُؤمن بالحبّ الخالد النقي، والثانية مادية، غربية، لا ترى في الحب إلا لحظة آنية عابرة. لقد أحبّها محسن من بعيد، في صمتٍ مترفٍ بالحلم، واكتفى بالجلوس في المقهى قبالة المسرح الذي تعمل فيه. كانت لقاءاته بها تتم في خياله، وكان يرى فيها تجليًّا لمُثُل الشرق العاطفية، ولم يكن في وده أن يلوّث هذا الحب بلمسة أو قبلة كما يفعل الغربيون علنًا.

وعندما جمعتهما المصادفة، ودار بينهما حديث خجول، أهدته عشرة فرنكات، فحملها ذلك إلى قمة من النشوة الروحية، وجعلته يبيت الليلة كلها ليُدرّب ببغاءً على ترديد عبارة: "أحبك". إنّها هديةٌ تنتمي للشرق، حيث العاطفة تسبق الجسد، والكلمة تسبق اللمسة.

من النشوة إلى الانكسار: بين النعيم والجحيم

بلغ العشق أوجه بين "محسن" وسوزي، تهاديا الزهور، وتبادلا نظرات المساء، وتألّقت اللحظات بين عشاءٍ وهمسات، وغرفةٍ تتناثر فيها خصال شعرها الذهبي كضوء القمر على صفحة البحر. لكنه كان حبًا معلّقًا في الهواء، هشًا أمام أول عاصفة.

جاءت النهاية صادمة، حين رآها محسن تتجاهله أمام عشيقها السابق، فتظاهرت بأنها لا تعرفه. وحين حاول الاستفهام، صمتت. تزلزل كيانه، لكنه لم يُهِنْها، لم يصرخ، لم يثأر. انسحب في كبرياءٍ شرقيّ، وانزوى في وحدته، كعصفور جُرِح جناحاه، وحمل غربته في صمت.

الصراع الحضاري والقيمي: محسن وسوزي نموذجًا

يُعدّ هذا الفصل من الرواية تجسيدًا صارخًا للصراع بين حضارتين، لكلٍّ منهما رؤيته للوجود والحبّ والمرأة. لقد تجلت "سوزي" كرمز للغرب: براقة، ساحرة، ولكنها أنانية، مصلحية، لا تؤمن بالخلود. أما "محسن"، فهو الشرقي الحالم، الذي يبحث عن الروح خلف الجسد، وعن الخلود خلف اللحظة.

لقد قايض الغرب الإنسان بالآلة، والعاطفة بالمصلحة، والمرأة بجسدها. أما الشرق، فعلى الرغم من فقره وتخلفه المادي، ظلّ حاملًا لقيم الصفاء، والوفاء، والإخلاص، والعاطفة الشفافة. فمحسن لم يكره سوزي حتى بعد خيانتها، بل اكتفى بالانسحاب، حاملاً جرحه في صمتٍ نزيه.

خاتمة

ليست «عصفور من الشرق» قصة حب عادية، بل تأمل عميق في معركةٍ أزلية بين الشرق والغرب. إنها رواية الصراع بين الروح والمادة، بين القلب والعقل، بين الحلم والواقع. وتجسّد "سوزي" تلك الحضارة التي أبهرت الشرقيين بمظاهرها، لكنها أفرغت الإنسان من روحه.

لقد أهدى "محسن" قلبه، وأهدته سوزي لحظةً عابرة. غادرها كما يغادر الشرقُ الغربَ... مبهورًا أول الأمر، ثم مكسورًا، ثم حكيمًا. وهكذا تنتهي الرواية بإعلان رمزيّ: لن تكتمل إنسانية الحضارة إلا إذا تصالحت المادية الغربية مع الروح الشرقية.

المراجع

1.     الحكيم، ت. (2006). عصفور من الشرق (الط. 10). دار الشروق. (الأصل نُشر عام 1938).

2.     هيكل، أ. (1970). الأدب القصصي والمسرحي في مصر من أعقاب ثورة 1919 إلى قيام الحرب الكبرى الثانية. دار المعارف.

3.     قطب، س. (1992). كتب وشخصيات (الط. 3). دار الشروق.

4.     علي، ي. (2005). الشرق والغرب في الرواية العربية الحديثة: دراسة في البنية والدلالة. المؤسسة العربية للدراسات والنشر.

5.     جابر، ع. ف. (2012). البعد الحضاري في أدب توفيق الحكيم. الهيئة المصرية العامة للكتاب.

6.     زيدان، ي. (2009). اللاهوت العربي وأصول العنف الديني. دار الجمل.

7.     Yahya, M. (2011). Narrating the Self: Arab Women's Autobiographies. I.B. Tauris.

8.     Ghandour, Z. (2009). A Discourse on Domination in Mandate Palestine: Imperialism, Property and Insurgency. Routledge.

 




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق