قراءة تأويلية في الصور الكونية ومعانيها الوجودية
المقدمة
تتعدّد في معلقة امرئ القيس المشاهد التي تتخطى الحسيّ إلى الرمزيّ، والتي تُستحضر فيها عناصر الطبيعة لا بوصفها خلفية للأحداث فحسب، بل بوصفها أدوات فنية ومرآة للذات. ومن أبرز هذه المشاهد ما يتعلق بـالليل والبرق، اللذين لم يُوردهما الشاعر عرضًا، بل استدعاهما ككائنين فاعلين في بنية النص، وموشورين لقراءة أعمق لحالة الشاعر النفسية والوجودية. وفي هذا المقال، نقف عند دلالات الليل والبرق في المعلقة، مستقصين ما ينطويان عليه من رموز كونية، وتجليات وجدانية، وتجسيدات لصراع الشاعر مع ذاته وعالمه.
أولًا:
الليل في معلقة امرئ القيس: كثافة الزمن وتوحّش العزلة
من
أكثر المقاطع شهرة في المعلقة ذلك الذي يصوّر فيه امرؤ القيس ليلًا موحشًا مطبقًا،
يُثقِل على صدره ويُطيل عذابه:
وليلٍ كَمَوْجِ البحرِ أرخى سدولهُ
عليَّ بأنواعِ الهمومِ ليبتلي
فقلتُ له لما تمطّى بصُلبِهِ
وأردف أعجازًا وناءَ بكلكلِ
ألا أيها الليلُ الطويلُ ألا انجلِ
بصبحٍ، وما الإصباحُ منكَ بأمثلِ
يتجسّد
الليل هنا لا كمرحلة زمنية، بل ككائن جاثم يطبق على النفس، ويمتد ببطء مرهق كأنّه
يمشي على صلبه وجرّ أعجازه. إنّ هذا الليل هو مرآة لانكسار الشاعر، ولحالة
الاغتراب الداخلي التي تُمثلها الوحدة والتأمل القاسي في المصير، وهو في ذات الوقت
تعبيرٌ عن الزمن المعلّق، زمن ما بعد الفقد، وما قبل الخلاص.
المفارقة
التي يكشف عنها البيت الأخير في هذا المقطع
– "وما الإصباح منك بأمثل" – تعمّق البعد الفلسفي
لهذا الليل: فلا الفجر خلاص، ولا الظلمة نجاة، وكأنّ الشاعر يعيش حالة ضياع مطلق،
لا يجد فيها في تعاقب الليل والنهار ما يبدّد وحشته أو يشفي ألمه.
ثانيًا:
البرق والرعد: البعث الكوني وشهوة التوق
وفي
مواضع أخرى من المعلقة، يستدعي الشاعر صورة البرق والرعد، لا كظواهر جوية، بل
كحركات مفاجئة في الأفق تعبّر عن اضطراب داخلي وتوق خارق للخلاص. يقول:
أحارِ ترى برقًا أُريكَ وميضهُ
كلمعِ اليدينِ في حبيٍّ مكلّلِ
يضيءُ سناهُ أو مصابيحُ راهبٍ
أمالَ السليطَ بالذبالِ المفتّلِ
البرق
في هذا المقطع يرد في تشبيه مركّب غاية في الروعة: مرة يشبه ومضه لمع اليدين في
الظلمة، ومرة يُقارن بضوء المصابيح الزيتية التي يشعلها الراهب. في كلا التشبيهين،
ثمة حضور للإضاءة المفاجئة، للحركة السريعة التي تخترق الظلمة، وكأنها بشارة أو
استباق لانفراج ما.
البرق
هنا يرمز إلى الأمل الذي يلوح في الأفق ولو للحظة، وهو في ذات الوقت تعبير عن
التوق المتجذّر في روح الشاعر، توق للخروج من الضياع إلى الكشف، من الحيرة إلى
الفهم، من الانغلاق إلى الانفتاح.
ثالثًا:
الليل والبرق كثنائية دلالية: الانطفاء والاشتعال
من
زاوية رمزية أعمق، يمكن النظر إلى الليل والبرق كثنائية تمثّل التوتر الوجودي في
حياة الشاعر: الليل كثافة الانطفاء والرتابة، والبرق شعلة الاشتعال والانكشاف.
الليل في شعر امرئ القيس ليس عدوًا فحسب، بل مأوى للهموم، وأداة ابتلاء واختبار،
بينما البرق هو قاطع تلك الظلمة، وإن كان عابرًا وسريع الزوال.
لكن
المفارقة أن البرق لا يأتي بالنجاة، ولا الليل يذعن للانجلاء. وهذا ما يعكسه البيت
حين يقول: "وما
الإصباح منك بأمثل"،
فحتى البرق، بما فيه من وعد، يظلّ حبيسًا في رمزيته، لا يخرج إلى واقع ملموس. إنها
إذًا رمزية مزدوجة: تَعِدُ ولا تُنجز، تُظهر ولا تُفضي، تُوقظ ولا تُنقذ.
الخاتمة
في
معلقة امرئ القيس، يتجاوز الليل والبرق معناهما الطبيعي، ليغدو كلٌّ منهما بنية
رمزية معقّدة، تُعبّر عن تمزّق الشاعر النفسي، وقلقه الوجودي، وتوقه إلى ما لا
يُنال. فالليل، في تمدده الكابوسي، يعبّر عن زمن الانكسار، والبرق، في لمعانه
الخاطف، يرمز إلى لحظة وعي خاطفة، أو حلم بالخلاص. وبين هذين القطبين، تتحرّك نفس
الشاعر المعلّقة بين الحلم والخيبة، بين الترقّب والانطفاء، في تجربة شعرية
ووجودية لا تزال، إلى يومنا هذا، تحتفظ بوهجها ورمزيتها الخالدة.
هل
ترغب بصورة تعبيرية ترمز إلى هذا المقال كما في المقال السابق؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق