الاثنين، 5 ديسمبر 2016

• ما هو ضغط الدم ولماذا يرتفع؟

ارتفاع ضغط الدم، ذلك القاتل الصامت الذي يتسلل إلى أجسادنا، كيف حاول الإنسان أن يعرف نذره الأولى، وما هي طرق الوقاية من هذا الوباء المعاصر؟
لقد لعب الفن دورا هاما في لفت أنظار العلماء والأطباء إلى أن الدم الذي يسري في العروق له قوة اندفاع تختلف باختلاف حجم الشريان ودرجة قربه من القلب، ففي العصور الوسطى ومع العنف الذي ساد الحياة آنذاك ارتقى الفن وأبدع الفنانون في تصوير ما يجري من أحداث جسام، وظهرت اللوحات الفنية الرائعة التي ترسم تنفيذ أحكام الإعدام وجرائم القتل والمعارك التي تدور، وصور الفنانون الدم وهو يخرج من الشرايين الصغيرة على هيئة نقط من الدم، ومن الشرايين المتوسطة على هيئة دفعات قوية متتالية، أما من الشرايين الكبيرة كشريان الرقبة فقد رسم الفنان اندفاع الدم كنافورة منطلقة الاندفاع.

كيف عرف الإنسان ضغط الدم؟

من هنا انتبه العلماء إلى أن للدم ضغطا يندفع به داخل الشرايين. وتعرف العالمي الإنجليزي وليام هارفي (1578 - 1657) إلى حقيقة أن الدم يسير في دائرة متصلة، إلا أن العلماء لم يتمكنوا من قياس ضغط الدم داخل الشرايين أو التعرف عليه إلا مع التجربة التي قام بها العالم والطبيب ستيفن هيلز عام 1733م والتي وضع فيها أنبوبة من الزجاج داخل شريان رقبة فرس صغير وربط نهاية الأنبوبة في فرع شجرة ولاحظ ارتفاع الدم داخل هذه الأنبوبة، ومنها تعرف على قوة اندفاع الدم. ويعتبر هذا أول تقييم قياسي لما عرف بضغط الدم حتى ظهر المانوميتر الزئبقي الذي اخترعه بوازييه الفرنسي عام 1846م.

وظلت قياسات ضغط الدم مقصورة على اختراق أحد الشرايين حتى بدأ التفكير في القياسات غير الاختراقية (non - invasive)، وكان أول جهاز يُستخدم في هذا المجال عبارة عن غشاء موضوع على فوهة كأس يحتوي على زئبق يوضع على شريان المعصم (radial artery) حتى يختفي النبض فيه وتؤخذ قراءة ارتفاع الزئبق في أنبوبة مدرَّجة متصلة بالكأس المحتوي على الزئبق، ثم ظهر جهاز آخر يعتمد على وضع أوزان على كف ميزان متصل برافعة بها زر يضغط على شريان المعصم حتى يتوقف الإحساس بالنبض فيه ويتم تقييم ضغط الدم حسب الأوزان المطلوبة لذلك، وتطور الجهاز بواسطة شاب هندي الأصل يدعى محمد أختر وهو لا يزال يدرس الطب في مستشفى جاي (Guy's hospital) عام 1879م بحيث يسهل استعماله إلا أنه كان يعتمد أيضا على الأوزان. وظلت الأمور كذلك حتى ظهر جهاز الضغط الزئبقي السهل الاستعمال عام 1896م (ريفا روكي) وعام 1905م (كوروتكوف)، وحتى يومنا هذا!!

وهكذا عرف الإنسان أن الدم يسري في الشرايين بقوة اندفاع معينة تسمى ضغط الدم وأمكنه قياسها باستخدام إبر أو أنابيب داخل الشريان ثم باستخدام المانوميتر الزئبقي دون حاجة لاختراق الشريان وذلك فقط في بداية القرن العشرين.

ولكن لماذا يرتفع الضغط؟

بدأ الاهتمام بمعرفة أسباب ارتفاع ضغط الدم بعد التعرف على طريقة القياس وعكف الأطباء على دراسة ملاحظات ريتشارد برايت (1789 - 1858م) والذي كان أول من سجَّل الارتباط الوثيق بين ظهور الزلال في البول وضمور الكليتين من ناحية، وبين تضخم عضلة القلب من ناحية أخرى، وظلت التفسيرات متضاربة في معرفة العلاقة بين هذه التغيرات حتى تعرف العلماء على أن هناك ارتفاعا في ضغط الدم يصاحب أمراض الكليتين وهو الذي يتسبب في تضخم عضلة البطين الأيسر للقلب، إلا أن الطبيب الشاب محمد أختر - والذي كان متميزا في فكره ومتقدما على عصره وباستخدام جهاز ضغطه الذي طوره وساعده كثيرا في فحص العديد من المرضى عقب انتهائه من دراسته في مدرسة الطب - تمكن من تأكيد حقيقة الصلة الوثيقة بين أمراض الكليتين وظهور الزلال في البول وبين ارتفاع ضغط الدم في بعض الحالات فقط، وأمكنه تأكيد حقيقة هامة أخرى وهي أن نسبة كبيرة من مرضى ارتفاع ضغط الدم لا يعانون من أي أمراض بالكليتين وليس لديهم زلال البول؟!

كان محمد أختر حفيداً لطبيب هندي استقر في مدينة برايتون بإنجلترا وكان متخصصا في العلاج الطبيعي والعلاج بالبخار والتدليك وذاعت شهرته حتى أصبح أحد المعالجين لكل من صاحبي الجلالة جورج الخامس ووليم الرابع، ودخل محمد مدرسة الطب عام 1869م وظهر نبوغه وهو لا يزال طالبا، ونال جائزة تقديرية عن تطوير جهاز الضغط عام 1870 ونشرت أبحاثه في المجلات العلمية عام 1872 وهي نفس السنة التي تخرج فيها حيث عمل طبيبا في أحد مستشفيات الحميات في لندن واستمر في أبحاثه المتعلقة بارتفاع ضغط الدم وخاصة بين مرضاه الذين يعانون من الحمى القرمزية والتي تؤثر على الكليتين ووصف ارتفاع ضغط الدم في حالات تسمم الحمل، وظل يعمل حتى وافته المنية بعد إصابته بالتيفود عام 1881 عن عمر يناهز خمسة وثلاثين عاما فقط!!

وبالرغم من أبحاث محمد أختر المتميزة فإنها لم تحظ بالعرفان والتقدير حيث نسبت هذه المعارف لغيره - كما هو المعتاد بالنسبة لغير الأوربيين - وارتبط التعرف على ارتفاع الضغط الأوَّلي أو غير المعروف الأسباب إلى كل من الأساتذة الكبار: هوشارد الفرنسي، وفون باخ النمساوي وإليوت الإنجليزي.

وهكذا تعرف الأطباء على نوعين أساسيين من ارتفاع ضغط الدم هما: ضغط الدم الثانوي وضغط الدم الأولي.

ضغط الدم الثانوي

المقصود بضغط الدم الثانوي هو ارتفاع الضغط الناتج عن سبب واضح ويمكن التوصل إلى تشخيصه وقد يمكن علاجه وبالتالي التخلص من هذا الارتفاع في ضغط الدم. ولسوء الحظ فإن هذا النوع من الضغط لا يمثل إلا نسبة بسيطة بالمقارنة بارتفاع ضغط الدم الأوَّلي - أي الضغط غير المحدد السبب - وهي نسبة تتراوح بين 10 و15% من مجموع حالات ارتفاع الضغط، إلا أنه من واجب الطبيب الوصول والتعرف على السبب حتى يمكن العلاج وعودة الضغط إلى طبيعته. وهذا النوع من ارتفاع الضغط يمثل السبب الرئيسي عند الأطفال أو الشباب في مقتبل العمر وفي هذه الحالات نكون في أمس الحاجة للتعرف على الأسباب وأهمها:

أمراض الكليتين

لا شك أن أي مرض بالكليتين من الممكن أن يتسبب في ارتفاع ضغط الدم ومنها التهاب الكليتين الحاد والذي قد ينتج عن التهاب اللوزتين بالميكروب السبحي (الذي يتسبب أيضا في الحمى الروماتيزمية وأمراض صمامات القلب عند الأطفال) ومع التهاب الكليتين يظهر الزلال في البول ويرتفع الضغط ويعود إلى طبيعته مع زوال الالتهاب، ويرتفع الضغط في حالات التهاب الكليتين المزمن أو مع انسداد الحالب بسبب وجود حصوة أو ضيقه، وتنتفخ الكلية وتضمر أنسجتها ثم تفشل عن أداء وظيفتها وتزداد الفرصة لارتفاع الضغط كلما كان التأثير شاملا الكليتين، ويعتبر أيضا ضيق الشريان المغذي للكلى من الأسباب الهامة لارتفاع الضغط، ويمكن التعرف على هذا العيب الخلقي باستخدام السماعة التي توضح وجود لغط فوق منطقة الشريان الضيق في كثير من الحالات أو باللجوء للفحص بالأشعة بالصبغة على الشرايين أو باستخدام الموجات فوق الصوتية أو جهاز الرنين المغناطيسي الحديث، ويجب على الطبيب أن يحاول تأكيد أو نفي هذا التشخيص عند صغار السن بصفة خاصة حيث يمكن الشفاء من المرض إذا كانت الجراحة ميسورة.

الغدد الصماء

تنتشر الغدد الصماء في جسم الإنسان حيث تفرز الهرمونات الضرورية جدا لحياة الإنسان ونموه وقيامه بوظيفته خير أداء، ومن أهم هذه الغدد الغدة النخامية (داخل المخ) والغدة الكظرية (فوق الكليتين) والغدة الدرقية (في مقدمة الرقبة)، وتسمى هذه الغدد صمَّاء لأنها تفرز الهرمونات الخاصة بها مباشرة في الدم دون وجود قناة تخرج منها هذه الإفرازات. وإذا زادت إفرازات أي من هذه الغدد على معدلاتها الطبيعية فإنه من الممكن أن تسبب ارتفاعا في ضغط الدم من بين الأعراض والتغيرات الأخرى التي تصاحب زيادة نسبة الهرمونات. وعلى سبيل المثال فإن كثيرا من الفتيات والشباب قد يرتفع عندهم ضغط الدم مع زيادة إفراز الغدة الدرقية من الهرمون الخاص بها (Thyroid Hormone)  ويصحب ذلك زيادة في عدد ضربات القلب وربما عدم انتظامها ونقص في الوزن وخلافه ويتم التخلص نهائيا إذا عولجت الغدة بالعقاقير المثبطة لنشاطها أو باستئصال جزء منها ويعود الضغط لطبيعته، ولذا فإن التأكد من قيام الغدد بوظيفتها على الوجه الأكمل من الأشياء الضرورية لتحديد نوع العلاج المطلوب طبيا أو جراحيا أو إشعاعيا.

ضيق الشريان الأورطي

من المعروف أن الشريان الأورطي يخرج من البطين الأيسر للقلب ويغذي الجسم بالدم الذي يحمل الأوكسجين والغذاء الضروري لكل أعضاء الجسم، وتخرج منه شرايين لتغذية القلب والمخ والأطراف العليا (الذراعين) ثم يسير داخل التجويف البطني ليخرج منه شريان لكل من الكليتين قبل أن ينقسم بالقرب من نهاية العمود الفقري إلي شريانين رئيسيين لتغذية الساقين، وقد يكون هناك ضيق خلقي منذ الولادة في جزء معين من الشريان الأورطي الأساسي بعد خروج الشرايين التي تغذي المخ والذراعين ونتيجة لذلك يكون الضغط مرتفعا في الشرايين التي تسبق الجزء الضيق بينما يكون منخفضا في الجزء الذي يعقب الضيق وهنا نجد اختلافا في قياس ضغط الدم في الذراع حيث يكون مرتفعا بينما يكون الضغط منخفضا في الساق، ومن هنا تتضح أهمية قياس ضغط الدم في كل من الذراع والساق حتى لا تفوت فرصة التشخيص على الطبيب ويحرم مريضه من العلاج الصحيح والذي يتلخص في إزالة الجزء الضيق من الشريان الأورطي وإعادة وصله مباشرة أو بوضع جزء صناعي يربط بين جزأي الأورطي إذا كانت منطقة الضيق طويلة، وهي جراحة من الجراحات الكبرى إلا أن نتيجتها تكون مؤكدة حيث تعود الأمور إلى طبيعتها.

أسباب هامة أخرى

من الأسباب التي تساعد على ارتفاع الضغط تسمم الحمل وتزداد فرصة حدوثه مع تكرار الحمل وخاصة إذا كانت السيدة تعاني من ارتفاع الضغط وظهور زلال في البول وتورم القدمين قبل الحمل، وتتمثل هذه الحالة في الارتفاع الشديد للضغط وغير ذلك من الأعراض الأخرى، وقد لا يكون هناك تحسن للحالة إلا بعد الولادة، وقد يكون من الضروري إنهاء الحمل قبل موعده مما يهدد صحة الأم والطفل على السواء.

ولا شك أيضا أن استخدام أقراص منع الحمل وخاصة لفترة طويلة تساعد على ارتفاع ضغط الدم، ولهذا يجب أن يكون استخدام هذه الأقراص تحت الإشراف الطبي وينصح بعدم استعمالها والبحث عن وسيلة أخرى للسيدات فوق سن الخامسة والثلاثين من العمر؛ ولا يفوتنا أن هناك بعض الأمراض العضوية في الجهاز العصبي وعدداً من الأمراض النفسية التي تساعد على ارتفاع ضغط الدم.

وهذا يوضح أهمية البحث عن سبب لارتفاع الضغط وعلى وجه خاص بين صغار السن.

وإذا لم يتعرف الطبيب على سبب فسيكون التشخيص في هذه الحالة ارتفاع الضغط الأولي وهو أكثر الأسباب انتشارا، حيث يمثل نسبة من 85 - 90% من حالات ارتفاع الضغط!!

وينتشر هذا النوع من ارتفاع ضغط الدم بين الرجال والنساء على السواء وينتشر بين ذوي البشرة السوداء حتى في نفس المجتمع الذي يعيش فيه السود والبيض مثل الولايات المتحدة الأمريكية أو جنوب أفريقيا.

وتزداد فرصة حدوث المرض بين الأبناء كلما كان الأب أو الأم أو كلاهما يعانيان من ارتفاع الضغط ويظهر ذلك عادة بعد سن الثلاثين عاما من العمر، ولذا فواجب كل فرد أن يحاول التعرف على مستوى ضغط الدم لديه بعد سن الثلاثين وعند كل زيارة للطبيب.

ويعتبر ضغط الدم بلا شك مرض الملايين حيث تصل نسبته بين الناس في بعض المجتمعات إلى 20 بالمائة من مجموع السكان وهو رقم بلا شك يدعو للاهتمام ويثير حماس الأطباء ومنتجي الدواء لمحاولة التغلب على المرض بشتى الوسائل.

ورغم أن السبب الحقيقي لارتفاع الضغط غير محدد فإن هناك أسبابا عديدة تزداد معها فرصة حدوثه مثل الإفراط في تناول الملح والتدخين والتوتر والقلق وزيادة الوزن وزيادة نسبة الدهون في الدم والترهل وعدم مزاولة أي نوع من النشاط الرياضي، وكل هذه أسباب يجب تفاديها حتى تقل فرصة ارتفاع الضغط الذي قد تكون له عواقب وخيمة على صحة الإنسان وخاصة على القلب والمخ والكليتين والعينين ومن هنا وجب العلاج الذي يشهد تطورا سريعا يوما بعد يوم.
أسامة عبدالعزيز





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق