الأربعاء، 15 يناير 2020

• العشّاق العرب: هل حبّهم صحيح أم اختراع؟


ثمة ثنائيات غرامية كثيرة ابتكرها شعراء العرب القدامى وجسدوها في دواوينهم، وربما وصل بعضها إلى ضفاف الأسطورة. لكن هل أخلص هؤلاء العشاق لمحبوباتهم، أو تخلل هيامهم درب من الفراق أو الخيانة، أو حتى الكذب وتأليف القصص لكسب تعاطف القراء؟
حكايات كثيرة

كان كبار العشاق من الشعراء، يفتعلون قصصهم لكسب مزيد من القراء، ولتنبض أشعارهم بالحرارة. وللتقصي عن صحة ذلك، كان لا بد من العودة إلى المعين الأول، فكتب التراث تعج بالكثير من الحكايات الموثّقة وغير الموثّقة، لكن غالبيتها يتفق على أن كل العاشقين في الشعر العربي لم يتزوجوا معشوقاتهم. كما لم يسعوا للزواج بهن، وجميعاً تغزلوا بهن رغم معرفة أزواجهن، وبعضهم امتد إلى الغزل الصريح، ومنهم من ذكر مشاهد جنسية في شعره عن محبوباتهم. وهي صفات لا تجتمع في صورة العاشق المتبتل الذي يسعى للفوز بمحبوبته. ورغم ما يعرف عن غيرة العربي على نسائه، فكيف تُرك هؤلاء الشعراء يتحدثون عن بنات قبائل معروفة، أحاديث جريئة، بعضها جنسي، من دون أن يحدث لهم مكروه؟
"مجنون ليلى" الذي نفى "بنو عامر" حقيقة وجوده
فإن يك فيكم بعل ليلى فإنني   وذي العرش قد قبلت فاهاً ثمانيا
وأشهد عند الله أني رأيتها      وعشرون منها إصبعاً من ورائيا
بيتان من الشعر كتبهما "قيس بن الملوح"، شاعر أموي شكك البعض في وجوده، وشككوا في وجود معشوقته ليلى. وقال البعض إنه ابتكر شخصية المحبوبة ليلى من خياله، ليضفي على شعره مغامرات مشوقة. وأكد ذلك الأصمعي، الذي قال إن أحد رواة بني عامر نفى أنه كان بينهم أي مجنون. وفي البيتين، يقول قيس مخاطباً القوم: إن كان بينكم زوج ليلى، فإني أخبره أنني قبلتها ثماني مرات، وأشهد أنها كانت معي في وضعية تضع يديها وقدميها خلف ظهري (وهي إشارة إلى وضعية جنسية). والدارس للتراث العربي، يدرك جيداً أن الأمرين لا يستقيمان، فكيف لأمة ساقت الحروب من أجل يهودي عرّى ساق امرأة مسلمة، وبعضاً من جسدها (حرب بني قينقاع)، أن يستقيم معها شاعر، يقول إنه أقام علاقة جنسية مع زوجة أحدهم ويمر الأمر كأن شيئاً لم يكن.
مجنون ليلى، عنترة، جميل بثينة... قصص العشق التي حفظناها جميعاً، ما مدى صحتها؟
ثم هل يستقيم العشق العذري، الذي جسده قيس لليلى مع ما قاله من شعر جنسي فيها، وهو القائل:
أَحِنُّ إلى لَيْلَى وإنْ شَطَّتِ النَّوَى    بليلى كما حن اليراع المنشب
يقولون ليلى عذبتك بحبها         ألا حبذا ذاك الحبيب المعذب
ومعناه: أحن لليلى حتى ولو بعدت بيننا الأماكن كما تحن الحشرة التي تم اصطيادها إلى أيامها الأولى، يقولون إنها عذبتك بحبها فأقول إنني أفضل هذا الحبيب الذي يعذبني. وختاماً لم تكن ليلى وحدها من تغزل فيها المجنون، بل كتب لأخريات وإن لم يذكر أسماءهن، فقال:
شُغِفَ الفؤادُ بِجارة الْجَنْبِ    فَظَللْتُ ذا أسَفٍ وذا كَرْبٍ
يا جارتي أمسيت مالكة      روحي وغالبة على لبي
وقال لأخرى:
ومفرشة الخدين وردا مضرجا     إذا جَمَشَتْهُ الْعَيْنُ عاد بَنَفْسجَا
شَكَوْتُ إليها طُولَ لَيْلِي بِعِبْرةٍ      فأبدت لنا بالغنج دراً مفلجا
فَقُلْتُ لها مُنِّي عَلَيَّ بِقُبْلَةٍ         أداوي بها قلبي فقالت تغنج
عنترة... الأرق قلبًا بين الشعراء
لم يكن هناك مثل عنترة، أسطورة شعرية وحالة عشق رقيقة، تغنت بها الأجيال العربية، وجسدتها أعمال فنية كثيرة. عنترة فارس جمع بين فروسيته ورقته في شعره، فقال:
ولقد ذكرتك والرماح نواهل     مني وبيض الهند تقطر من دمي
فوددت تقبيل السيوف لأنها    لمعت كبارق ثغرك المتبسم
لكن مع كل هذا، هل صمد حب عبلة في قلب عنترة؟ أثبتت كتب التراث وجوده فعلاً ولكن بعضها تحدث أيضاً عن أن عنترة تزوج عبلة، بعد رحلة عذاب كبرى، أذاقها له أهلها بنو عمومته. ولكن الغريب أن كتاب التراث الأهم "الأغاني"، خلا من ذكر أي علاقة عاطفية بين عنترة وعبلة لكنه ركز على جانب الفروسية في حياته. وهناك روايات غير مؤكدة لكنها منتشرة، تقول إن عنترة تزوج على عبلة ثماني نساء أخريات. ولكن طالما هذه الروايات غير مؤكدة، ولم يذكرها أي مصدر ذي قيمة، فإن عنترة يظل الأوفى والأصدق في حبه بين الشعراء.
جميل بثينة... عاشق أُهدر دمه في مكة
جميل بن معمر، أشهر شعراء عصره، وضعه الرواة في المرتبة الأولى التي يطلق عليها "فحول الشعراء". تشبب ببثينة، وصدّر الأصفهاني أقوال المحدثين عنه بأنه كان أصدق الشعراء في حبه، لكنه أقر أنهما افترقا في أكثر من موضع، بل أشار إلى أنها أحبت غيره. قال جميل:
ورُبّ حبالٍ، كنتُ أحكمتُ عَقدَها     أُتِيحَ لها واشٍ رَفيقٌ، فحَلّها
فعدنا كأنّا لم يكن بيننا هوىً         وصارَ الذي حَلّ الحِبالَ هوًى لها
وقالوا: نراها، يا جميلُ، تبدّلتْ       وغيرها الواشي؛ فقلتُ: لعلها
ومعناه: أن حبي لبثينة كان معقوداً بعقد محكمة ولكن واشياً دخل بيننا وحل العقد وأحبت هي هذا الواشي، ولاحظ الناس ذلك وأيدت ملاحظتهم. وهو أيضاً هجاها بقوله:
رمى الله في عيني بثينة بالقذى     وفي الغَرِّ من أنيابها بالقوادح
لكنه مع ذلك ـ بحسب ما يؤكده الأصفهاني ـ ذكر بثينة حين حضرته الوفاة، فقال:
صدع النعي وما كنى بجميل        وثوى بمصر ثواء غير قفول
ولقد أجر الذيل في وادي القرى      نشوان بين مزارع ونخيل
قومي بثينة فاندبي بعويل           وابكي خليلك دون كل خليل
وما يؤكده كتاب الأغاني، أن جميلاً كان يزور بثينة وهي متزوجة، فأهدر حاكم مكة دمه، بعدما شكا أهلها وزوجها تشببه بها، فهرب جميل إلى اليمن.
كثير عزة: الكذوب في حبه
قال عنه الراوية محمد بن سلام: "كان لكثيّر في النسيب (الغزل) حظ وافر، وجميل (جميل بثينة) متقدم عليه وعلى أصحاب النسيب (...) وكان جميل صادق الصبابة والعشق، ولم يكن كثيّر بعاشق ولكنه كان يتقول". واتفق على هذا الرأي عدد كبير من الرواة. حين نقرأ سيرة كثّير عزة التي امتلأت شعراً بمحبوبته فلن تجد جديداً عن أقرانه. فهو لم يتزوج عزة أيضاً كما لم يتزوج جميل ببثينة، ولم يتزوج قيس بليلى. وتغزل في عزة رغم زواجها من غيره. وقيل إنه أحب من بعدها امرأة تدعى أم الحويرث، التي خافت أن يفضحها بشعره كما فعل مع عزة، فحين صارحها بحبه، قالت له اذهب وتاجر وائتٍ بمال واخطبني كما يخطب الكرام. فحين ذهب عنها عاد ووجدها تزوجت رجلاً من بني كعب، فطفق ينشد:
عفا الله عن أم الحويرث ذنبها     علامَ تعنّيني وتكمي دوائيا
فَلَوْ آذَنُوني قَبْل أَنْ يَرْقُمُوا بها     لقُلْتُ لهُمْ أُمُّ الحُوَيْرِثِ دائيا
ومما يذكر عنه أن خلافاً حدث بينه وبين عزة فقال:
وقد زعمت أني تغيرت بعدها     ومن ذا الذي ياعز لا يتغير
تغير جسمي والخليقة كالتي     عهدت ولم يخبر بسرك مخبر
ومما يثبت عنه أنه لم يكن صادقاً في حبه، بل يجري عليه ما يجري على الخائنين. إذ قابل عزة وهي منتقبة الوجه ولم يعرفها. رأى عينيها وأعجبته، فتغزل فيها وقال لها: لم أر مثلك قط، ولو أن عزة جارية عندي لأهديتها إليك. فأسفرت عن وجهها ثم قالت: أغدراً يا فاسق، فبُهت ولم ينطق. ومما يذكر عنه أنه تغزل بامرأة ثالثة اسمها ليلى فقال:
أريد لأنسى ذكرها فكأنما     تمثل لي ليلى بكل سبيل
المصدر: 1




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق