الجمعة، 13 أكتوبر 2023

• خّطِّط مسبقاً لكل شيء من البدء حتى الخاتمة


القاعدة 29 من كتاب 48 قانون للقوة (قواعد السّطوة) للكاتب روبرت جرين

الحكمة:

تؤخذ الأمور بخواتيمها، وعليك أن تُخَطِّط بوضوح للطريق الذي يوصلك للخاتمة التي تريدها آخذاً في الاعتبار كل العقبات والعوائق ونكبات القدر التي قد تُبعد عنك المجد وتمنحه لغيرك. التخطيط للأمور حتى نهاياتها يحميك من إنهاك التفكير الدائم فيما يواجهك من الأحداث ويُحَدِّد لك متى نتوقف لجني المكاسب، ويجعلك تُوَجِّه الدَّفَّة باستمرار في الاتجاه الذي يُحَقِّق لك أكبر السَّطوة والمجد.

انتهاك القاعدة:

في عام 1510 أَبحرَت سفينةٌ مُتجهةٌ من هسبانيولا (هايتي وجمهورية الدومينيك حالياً) إلى فنزويلا لِتُنقِذَ مستعمرةً إسبانية محاصرة، وحين أصبحت على بعد أميال من ميناء الوصول تَسَلَّلَ راكبٌ كان يختبيء في خزينة المؤن: كان ذلك الراكب هو فاسكو نانييز دي بالبوا، وكان نبيلاً أسبانياً أتى إلى العالم الجديد بحثاً عن الذهب، ولكن أغرقته الديون، وكان يختبيء داخل السفينة هرباً من دائنيه.

كان بالبوا واحداً ممن سيطرَ عليهم حلمُ البحث عن الذهب في مملكة إلدرادو المبهرة التي انتشرت عنها الحكايات بعد عودة كولومبوس من العالم الجديد، ولم يكن أحدٌ قد اكتشفها بعد، وذَهَبَ مع أول أفواج المغامرين إلى تلك الأراضي البعيدة، وعزم من البداية أن يتحقق له بالجرأة والإصرار السَّبقُ في اكتشاف هذه الكنوز، ورأى بعد أن فَرَّ من دائنيه أنه لن يمنعه شيء عن تحقيق هدفه.

لِسوء حَظِّهِ كان صاحبُ السفينة فرانسيسکو فرنانديز دي إنسيسو قاضِياً ثَرِيّاً؛ وأَغضبَه كثيراً أن يعرف بأمر الراكب المُتَسَلِّل، وأمرَ طاقمه أن يتركوا بالبوا في أول جزيرة يمرون بها، ولكن قبل أن يصلوا إليها وصلتهم أنباءٌ عن تَحَرُّر المستعمرة التي كانوا متجهين إليها. رأى بالبوا في ذلك فرصته، وحكى للبحّارة عن رحلته السابقة إلى بنما، وعن الشائعات التي تَصِفُ كم ما في تلك المناطق من الذَّهَب. تَوَجَّهَ البحارة المتحمسون إلى إنسيسو وأقنعوه بالعفو عن بالبوا وبتأسيس مستعمرة في بنما، وتَحَقَّقَ لهم ذلك وأطلقوا على المستعمرة الجديدة الاسم «دارين».

تَوَلّى إنسيسو منصبَ أول حاكم لدارين، لكن لم يكن بالبوا من النوع الذي يتَخلّى عن طموحاته لشخص آخر، فَأَلَّبَ البَحّارة ضد إسيسو، وأجبروه على الفرار إلى إسبانيا خوفاً على حياته. بعد شهورٍ وَصَلَ مبعوثُ التاج الإسباني لِيُعلِنَ نفسَه حاکماً جديداً على دارين، ولكن رَفَضَته الجموعُ وغَرِقت به السفينة أثناء عودته إلى إسبانيا، وكان ذلك حسب القانون الإسباني يعني إدانة بالبوا بقتل الحاكم واغتصاب منصبه.

لم تكن تلك المرة الأولى التي يقع فيها بالبوا في مأزق بسبب تَهَوُّرِهِ، لكن هذه المرة بدا وكأن كلَّ أحلامه في الثروة والمجد قد تَحَطَّمَتْ، فقد كان عليه کي يُؤَکِّدَ حَقَّهُ في اكتشاف مملكة إلدرادو أن ينال رضا الملك، وهو ما أصبح شبه مستحيل بعد أن أصبح مُداناً وخارجاً على القانون. لم يعد أمامه سوى حَلٌّ واحد: كان يعرف من هنود بنما أن في الناحية الأخرى من البرزخ الموجود في أمريكا الوسطي محيطاً هائلاً، وأنه بالتوجه جنوباً على الشاطئ الغربي يمكنه أن يصل إلى أرض تملك من الثروات ما لا يصدقه العقل سمعهم ينطقون اسمها «بيرو»، قَرَّرَ بالبوا أن يَعبُرَ غابات بنما الخطرة، وعَزَمَ على أن يُصبح أولَّ أوروبي يغسل قدميه في هذا المحيط الجديد، ومن هناك يواصل الزَّحفَ إلى إلدرادو، ورأى أنه بتحقيق هذا الإنجاز باسم إسبانيا سيفوز برضا الملك وامتنانه ويُنقذ نفسه من مِحنته. لكن كان عليه أن يتحرَّك فوراً قبل أن تأتي السلطات الأسبانية وتعتقله.

أَبحَرَ بالبوا عام 1513 مع 190 بحاراً، ولكن عند منتصف الطريق عَبْرَ البرزخ لم يبقَ معه سوى سبعين منهم، ومات الباقون بسبب الظروف الصعبة للرحلة من الحشرات الماصَّة للدماء والأمطار الغزيرة والحُمّى. أخيراً ومن فوق جبلٍ استطاع بالبوا بالفعل أن يصبح أول أوروبي تقع عيناه على المحيط الهاديء، وبعدها بأيامٍ واصلَ الإبحارَ مع قواته المدرعة رافعين راية الكاستيل، وأعلنَ ضَمَّ كل الأراضي والبِحار المكتشفة إلى وصاية العرش الإسباني.

استقبلَ هنودُ المنطقة بالبوا بهدايا من الذهب والأحجار الكريمة التي لم يرَ مثلها من قبل، وحين سألَ من أين تأتي هذه الأشياء أجابه الهنود أنها آتيةٌ من مملكة الإنكا في الجنوب. لكن لم يكن قد تَبَقَّى مع بالبوا إلا القليل من الجنود، وكان عليه أن يعود الى دارين، ورأى أن يُرسِلَ الذهب والجواهر إلى إسبانيا عربوناً على حُسنِ نِيَّتِهِ، ويطلب منهم جيشاً كبيراً لمساعدته في الاستيلاء على إلدرادو.

حين وَصَلت الأنباءُ إلى إسبانيا عن عبور بالبوا الجرئ للبرزخ، واكتشافه للمحيط الغربي، وتَجَهُّزه للاستيلاء على إلدرادو تَحَوَّل في نَظَر الجميع من مجرمٍ مُدانٍ إلى بطلٍ قوميّ، وقَوَّى ذلك من عزمه الذي لا يلين في أن يصبح حاكماً على الأرض الجديدة. قبل أن تصل الأخبارُ إلى الملك والملكة عن اكتشافات بالبوا كانا قد أرسلا لاعتقاله عشرات السفن بقيادة رجل اسمه بدرو آرياس دافيلا "بدرارياس"، ولكن عَرفَ بدرارياس بِمُجَرَّد وصوله إلى بنما بقرار العفو عن بالبوا، وعن القرار الملكي بتقاسمه للسلطة مع هذا المُدان السابق.

بعدها عادَ إلى بالبوا شعوره السابق بعدم الرضا، فلم يكن يُرضيه سوى الذهب وحكم إلدرادو، وهو الحلمُ الذي كاد يُفقِده حياته مرات عديدة، ولم يكن يحتمل أن يشاركه هذا الوافد الجديد في الثروة والمجد، وبسرعةٍ عرف أن بدرارياس رجلٌ غيور وحاقد، ولم يكن يرضيه هذا الوضع أيضاً. رأى بالبوا أن حَلَّه الوحيد هو أن يطلبَ المغادرة مع جيشٍ كبير ومعداتٍ لصناعة السفن لعبور الغابات من جديد، وأن يُؤَسِّسَ عند وصوله قاعدةً عسكرية يمكنه من خلالها أن يستولي على الإنكا.

الغريب أن بدرارياس وافق على الخطة مباشرة ظناً منه أنها لن تنجح، وبالفعل مات المئات أثناء هذه الرحلة الثانية عبر الغابات وتَعَفَّنَت مؤونتهم بفعل الأمطار الغزيرة، لكن ذلك كعادة بالبوا لم يُنهِهِ عن سَعيه، فلم يكن أي شيء في العالم يُحبطه عن طموحه. حين وصل إلى المحيط الهادئ بدأ في قطع الأشجار لِشَنِّ حملته الجديدة، لكن ما تَبَقَّى معه من الرجال كانوا قليلين ومُنهَكين لا يقدرون على الغزو، وكان عليه أن يعودَ مرةً أخرى إلى دارين.

كان بدرارياس قد أرسلَ إلى بالبوا طالباً منه العودة لمناقشة خططه الجديدة، وحين وصلَ قابله فرانسيسكو بيزارو صديقه القديم الذي كان معه في عبوره الأول عبر البرزخ، ولكن ذلك كان فَخّاً: فكان تحت إِمرَةِ بيزارو مائة جندي أحاطوا ببالبوا واعتقلوه وعادوا به إلى بدرارياس والذي حاکَمَهُ بتُهمة التَّمَرُّدِ، وبعدها بأيامٍ كانت رأسُ بالبوا تَرقدُ مع رؤوس أتباعه المخلصين في سَلّة المقصلة. بعدها بسنوات كان بيزارو هو من تحقق له الاستيلاء على بنما ونَسِيَ الناس بطولات بالبوا.

التعليق:

معظم الناس تحكمهم قلوبهم وليس عقولهم، وتكون طموحاتهم غائمة ومشوشة ويرتجلون عند مواجهة الصعاب؛ لكن الارتجال لن يصل بك إلا إلى المزيد من المآزق وهو لايغنيك عن التفكير السديد والتخطط مسبقا لكل الخطوات اللازمة لتحقيق هدفك.

كان بالبوا يحلم بالثروة والمجد ولكن كانت خططه لتحقيق ذلك مشوشة، وقد نسيه الناس ونسوا اکتشافه للمحيط الهادي لأنه ارتكب ما يُعَدُّ في عالم السطوة إثماً لا يغتفر: لم يُكمل ما بدأه، وترك الباب مفتوحاً لآخرين لينهبوا إنجازاته. لو كان بالبوا رجل سطوة حقيقي لكانت لديه الحكمة لرؤية الأخطار من بعيد - ولَتعرف على المنافسين الذين يسعون لمشاركته انتصاره، والنسور الذين يحومون حوله حين أثارتهم كلمة «الذهب». كان عليه أن يحافظ على معلوماته حول الإنكا سراً إلى أن پستولي على بيرو، وحينها كان يمكنه أن يأمن على نفسه وثروته. وبمجرد أن وصل بدرارياس إلى المشهد كان أي رجل سطوة حقيقي سيخطط لقتله أو اعتقاله وأَخْذ الجيش الذي أحضره معه ليستولي به على بيرو، ولكن بالبوا كان لا يرى أبعد من لحظته، وتحرکه حماسته وانفعاله ولا يفكر أبدا للأمام.

ما فائدة أن تكون لديك أعظم الأحلام في العالم إن كان الآخرون سيحصدون عنك المكاسب والمجد؟ لا تشغل نفسك أبداً بالأحلام المُشَوّشة بل خَطِّط مسبقاً لما يتطلبه تحقيق ما تريد من البدء حتى الختام.

مراعاة القاعدة:

في عام 1863 أجرى رئيس وزراء بروسيا أوتو فون بسمارك مسحاً للسَّاحَة السياسية في عصره للتعرف على اللاعبين الكبار، ورأي أنَّ معظمَ السَّطوة تَتَقَاسمها إنجلترا وفرنسا والنمسا، وكانت بروسيا مُجَرَّد ولاية بين الولايات المُفَكَّكَة في الاتحاد الألماني الهشّ، وكانت النمسا هي العضو المُسيطر في الاتحاد، وتحرصُ على أن تَظَلَّ باقي الولايات ضعيفةً ومنقسمة وخاضعة لها. في أَعماقه كان بسمارك يُؤْمِنُ أنَّ الأقدارَ تَدَّخِرُ لبروسيا دوراً أكبر بكثير من مُجَرَّد التابع المُطيع للنمسا. أَدارَ بسمارك اللعبة كالتالي: كانت حركته الأولى هي شَنُّ حربٍ مشروعة مع الدنمارك لاستعادة أراضي شليسفج - هولشتاين التي كانت أصلاً ملكاً لبروسيا. كان يعلم أن هذه التحركات لتحقيق طموحات بروسيا في الاستقلال سَتُخيف فرنسا وانجلترا، ولذلك أَشْرَكَ النمسا في الحرب مُدَّعِياً أنه يستعيد شلسفيج وهولشتاين لصالحها. بعد أشهر قليلة انتصرَ في الحرب وطالب بِضَمِّ الأراضي التي استولى عليها إلى بروسيا، غَضِبَ النمساويون بالطبع ولكنهم ساوموا: وافقوا على مَنحِ شلسفيج لبروسيا، وبعدها بعام باعوا لهم هولشتاين، وبدأ العالم يرى أن النمسا آخذة في الضّعف وأن بروسيا تزداد قوة.

كانت خطوة بسمارك التالية هي الأَجْرَأ: في عام 1866 أَقنعَ ويليام ملكَ بروسيا بالانسحاب من الاتحاد الألماني، وكان ذلك بمثابة شَنّ حربٍ على النمسا ذاتها، وهي حربٌ عارضتها بِشِدَّةٍ زوجةُ الملك ومعها ولي العهد وأمراء الممالك الألمانية الأخرى، ولكن بسمارك بشجاعته وقوة رأيه استطاع أن يُطلق قرار الحرب، وانتصر جيش بروسيا المتفوق على النمسا في حرب الأسابيع السبعة الوحشية. بعدها أراد الملك والجنرالات أن يواصلوا الزحف نحو فيينا للاستيلاء على أكبر مساحة من الأراضي النمساوية، لكن بسمارك أوقفهم - وانضمَّ للجانب المُؤَيِّد للسلام، وكانت النتيجة حصوله على معاهدة مع النمسا تمنحُ بروسيا والممالك النمساوية الأخرى حكماً ذاتياً مطلقاً، وهكذا استطاع بسمارك أن يجعل بروسيا القوة المهيمنة في ألمانيا، ورَئِسَ الاتحاد الألماني الشمالي الذي تَشَكَّل لاحقاً.

بدأ الانجليز والفرنسيون يرون في بسمارك شبيهاً بآتيلا ملك الهن (أقوى من غزا الإمبراطورية الرومانية في الأعوام 433453) وخافوا من أنه يُخَطِّط للسيطرة على كل أوروبا، وأنه بمجرد أن ينطلق في طريق الانتصارات فلن يستطيع أحدٌ أن يوقفه. والحقيقة أن بسمارك بعدها بثلاث سنوات استدرج فرنسا لخوض الحرب مع بروسيا: في البداية أظهر أنه لا يمانع أن تستولي فرنسا على بلجيكا، ولكن في اللحظة الأخيرة غَيَّرَ رأيه، وبلعبة القط والفأر هذه أغضب الإمبراطورَ الفرنسي نابليون الثالث واستنفر الملك البروسي ضد فرنسا، واشتعلت الحرب في عام 1870 وانضم الاتحاد الألماني الجديد بحماس في الحرب إلى جانب بروسيا ومرة أخرى استطاعت العسكرية البروسية مع حلفائها تدمير جيش العدو في عدة أشهر، وعلى الرغم من أن بسمارك كان يعارض الاستيلاء على أي أراض فرنسية إلا أن جنرالاته استطاعوا أن يقنعوه بضم ألْسيس لورين إلى الاتحاد الألماني.

عندئذ أصبحت كل أوروبا تتخوف من الخطوة التالية للوحش الروسي الذي يقوده «المستشار الحديدي» بسمارك، وبالفعل أعلن بسمارك بعدها بعام تأسيس الإمبراطورية الألمانية وتُوِّجَ ملكُ بروسيا إمبراطوراً وجعل من نفسه أميراً. لكن بعد ذلك حدث شيء غريب: لم يُعَدُّ بسمارك يدعو إلى شَنِّ المزيد من الحروب، وفي حين كانت القوى الأوروبية الأخرى تنهب أراض في القارات الأخرى لتأسيس مستعمراتها كان بسمارك يعارض إنشاء المزيد من المستعمرات الألمانية، فلم يكن يربد لألمانيا المزيد من الأرض بل المزيد من الأمن، وظل لما تبقى من حياته يسعى لإقرار السلام في أوروبا ولمنع المزيد من الحروب. ظن الجميع أن بسمارك قد تَغَيَّرَ على مر السنين وأن التجارب أنهكته، ولكنهم أخطأوا في فهم حقيقة أن تلك المرحلة هي التي اختارها بسمارك من بداية مشواره.

التعليق:

السبب البسيط الذي يجعل معظم الرجال لا يتوقفون عن الهجوم هو أنهم لا يحددون أهدافهم بدقة؛ وبمجرد أن يتحقق لهم نصرٌ يتعطشون للمزيد. ويظهر لنا الواقع أن الاكتفاءَ وكَبْحَ الذات أي تحديد هدف معين وعدم تجاوزه يخالف الطبيعة البشرية، ولكن لا شيءَ أَهمُّ لك منه لتحتفظ بسطوتك. الأشخاص الذين يبالغون في الهجوم والانتصار يُحَرِّضون لدى الآخرين ردود فعل تؤدي بهم حتما إلى الضعف والسقوط. الحل الوحيد للتَّخَلُّص من هذه الطبيعة هو أن تخطط للمدى البعيد وأن تتعلم أن ترى المستقبل کا تراه آلهة الأولمب في الأساطير الإغريقية الذين كانوا ينظرون عبر السحب ليروا خواتيم كل الأمور.

لم يكن لبسمارك من بداية مساره السياسي سوى هدف واحد وهو أن يصنعَ دولةً ألمانية قوية تقودها بروسيا، وقد شَنَّ الحربَ على الدنمارك ليس لاكتساب أرض بل ليُشعل الحماس للقومية البروسية ويُوَحِّد الأمة. ولم يقصد من الحرب مع النمسا إلا الحصول على استقلال بروسيا (ولذلك رفض أن يستولي على أي أراض نمساوية)، ولم يُهَيِّج العداء والحرب مع فرنسا إلا ليجعل مشاعر الأمة تَتَّحِد ضد عدو مشترك، وقد ساعده كل ذلك في تكوين ألمانيا الموحدة.

وبمجرد أن تحقق له ما أراد اكتفى ولم يدع الانتصارات تلعب بعقله ولم يفتنه أبدا الجشع للمزيد. كان يمسك بلجام نفسه جيداً، وحين كان الجنرالات أو الملك أو الشعب البروسي يطالبونه بالمزيد من الانتصارات والمكاسب كان يكبح جماحهم، ولم يسمح لأي شئ أن يُفسد جمال إبداعه، وبالطبع لم يسمح للنشوة الزائفة التي تُحرِّك مَن حوله أن تجعله يتجاوز الخاتمة التي خطط لها بعناية من بداية مشواره. تُبَيِّن لنا الخبرة أن من يتوقع من بعيد ما عليه فعله لإنجاز أمرٍ ما يتصرف بسرعة حين تأتى اللحظة المواتية لتنفيذ هذا الأمر الكاردينال ريشيليو، 1585-1642.

مفاتيح للسطوة:

كان الإغريقيون القدماء يتصورون في أساطيرهم عن الكون أن لآلهة جبل الأولمب القدرة على رؤية المستقبل کاملاً وواضحاً ومعرفة كل ما سوف يأتي بأدق تفاصيله، بينما الإنسان سجين لحظته وأسير انفعالاته تتخبطه الأقدار دون أن يرى أبعد مما يتعرض له من مِحَن. كانوا يرون أن الأبطال من أمثال أوديسيوس الذين يتجاوزون حاضرهم ويخططون للأمام يتحدون الأقدار وينافسون الآلهة بقدرتهم على تحديد المستقبل. ما زالت هذه المقارنة مفيدة لنا في وقتنا الحاضر، فالذين يستطيعون من بيننا أن يدبروا ويخططوا لعدة خطوات آتية ويصبرون على تنفيذ خططهم إلى أن يحققوا أهدافهم تكون لهم سطوة مثل سطوة آلهة الأولمب.

ولأن أغلب الناس يُقَيِّدهم الحاضر لدرجة تمنعهم من التخطيط للأمام بمثل هذه البصيرة، لذلك تتحول قدرة من يستطيعون أن يتجاهلوا مخاطر وملذات حاضرهم إلى سطوة، هي سطوة تأتي مِن تجاوز الطبيعة التي تحكم البشر وتجعلهم لا يستجيبون للأحداث إلا بعد حدوثها، ومن اكتساب القدرة على التنائي بالذات لرؤية الصورة الأكبر التي تتشكل بعيداً عن اللحظة الحاضرة. يظن أغلب الناس أنهم يركزون على المستقبل ويخططون للأمام والحقيقة أن أكثرهم يخدعون أنفسهم: فما يفعلونه هو أنهم يستسلمون للرغبة والتمني في تصورهم للمستقبل وتكون خططهم مشوشة ويغرقون في تصور النهايات السعيدة، فرغباتهم وتمنياتهم تكون من القوة بحيث تسيطر على تفكيرهم.

في عام 415 ق. م قام الأثينيون بمهاجمة صقلية ظناً أن هذا الغزو سيجلب لهم السطوة والثراء، وأرادوا أن يكون انتصارهم في هذه الحملة تتويجاً مجيداً للحرب البيلوبينيسية التي استمرت ستة عشر عاماً. لم يفكر الأثينيون في مخاطر غزو بلادٍ بعيدة وغريبة عنهم أو أن الصقليين الذين يحاربون في أرضهم سوف يستبسلون في الدفاع عنها، ولم يحسبوا أن أعداءهم سوف يَتَّحِدون ضدهم، أو أن الحرب ستنشب في جبهات عديدة تُفرِّقهم وتُضعِفهم. كانت الحملة كارثة بكل معنى الكلمة وأَنْهَتَ واحدة من أعظم الحضارات في التاريخ، اندفع إليها الأثينيون بقلوبهم، ولم يروا فيها إلا فرصةً للمجد وأنستهم قوةُ مشاعرهم الأخطارَ التي تُحَدِّق بهم من بعيد.

حلل هذه الظاهرة الكاردينال دي ريتز الذي كان يتفاخر بقدرته على معرفة مخططات البشر والأسباب في فشل معظمها. أثناء التمرد الذي أثاره ضد الملكية الفرنسية في عام 1651 رَحَلَ الملكُ الشاب لويس الرابع عشر مع أعضاء بلاطه عن باريس واستقروا في قصر خارج العاصمة. كان وجود الملك قريباً من قلب الثورة يزعج الثوريين، ولذلك فرحوا كثيراً برحيلة، ولكن تَبَيَّنَ لاحقاً أن هذه الخطوة هي التي قضت على الثورة، فابتعاد رجال الصفوة عن باريس منحهم مساحات كبيرة للمناورة. وكتب الكاردينال ريتز عن ذلك لاحقا: «السبب الأكثر شيوعاً لأخطاء البشر هو أنهم يبالغون في الخوف من الأخطار الحاضرة ويقللون من الاهتمام بالأخطار البعيدة».

لو رأينا الأخطار البعيدة وهي تَختَمِرُ لاستطعنا أن نتجنب الكثير من الأخطاء، ولَتَخَلَّينا عن الكثير من المخططات التي قد تُنقذنا من أزمة قريبة لِتُوقِعنا بعدها في أزمة أكبر، معظم السَّطوة يأتي ليس مما نفعله بل مما نتجنبه -أي من التخلي عن الأفعال المندفعة والحمقاء قبل أن تسبب لنا المشاكل. خطط جيداً ولا تدع الخطط المشوشة توقعك في الأزمات، واسأل نفسك: هل يمكن لما أفعله أن يأتي بعواقب لا أريدها؟ هل يمكن لآخرين أن يسرقوا جهدي؟. الحقيقة أن النهايات المؤلمة أكثر حدوثاً بكثير من النهايات السعيدةُ فلا تترك خيالك يُفتَتَنُ ويُضَلَّلُ بالنهايات السعيدة.

انتهت الانتخابات الفرنسية في عام 1848 بصراعٍ بين لويس أدولف تيير رجل النظام، والجنرال الفرنسي لويس يوجين كافينياك مثير الفتن اليميني، وحين رأى تيير أنه يقترب من خسارة هذا السباق المصيري كان عليه أن يبحث عن حل طارئ، ووقعت عيناه على لويس بونابرت، وكان عضواً متواضعاً في البرلمان، لكنه كان حفيداً لحفيد نابليون بونابرت العظيم. كان لويس بونابرت يبدو معتوهاً نوعاً ما، لكن اسمه وحده كان كافياً لجعل البلاد المتشوقة لحاكم قوي تنتخبه. وظَنَّ تيير أنه سيجعل منه دمية في يده، وفي النهاية يزيحه عن الساحة ليحلّ محله. نَجَحَ الجزءُ الأول من الخطة نجاحاً كبيراً، وفازَ بونابرت فوزاً ساحقاً. المشكلةُ أن تيير لم يستطع أن يَتَوَقَّع حقيقةً بسيطة: وهي أن هذا المعتوه كان واسعَ الطموح، واستطاعَ في ثلاث سنوات أن يحلّ البرلمان، ويُعلن نفسه إمبراطوراً ويحكم فرنسا ثمانية عشر عاماً، وَيَبثّ الرُّعبَ لدى تيير وحزبه.

تُحسَبُ الأمور بخواتيمها، فالخاتمة هي التي تُحدِّد من ينال المجد أو الثروة أو الجائزة، وعليك أن ترى من البداية خاتمةَ الأمور بوضوح، وتصبّ عليها تركيزك طوال الوقت، وعليك أن تتعلم كيف تُبعد عنك النسور الذين يحومون من بعيد وينتظرون الانقضاض على غنيمتك، وأن تتوقع وتَتَحَسَّب للأزمات التي قد تدفعك للارتجال. تَخَطّى بسمارك هذه الأزمات لأنه خطط لما يريد حتى النهاية، واستمرَّ في مساره بعد كل أزمة، ولم يسمح لأحد أن يسرق منه مجده، وبمجرد أن حَقَّقَ أهدافَه دخل في قوقعته مثل السلحفاة. الحقيقة أن هذا النوع من التحكم يتجاوز قدرات معظم البشر.

حين ترى عدة خطوات للأمام وتُخطط لتحركاتك طوال الطريق، لن تغويك المشاعر أو الرغبة في الارتجال، وسوف يُخلّصك وضوح غاياتك ووسائلك من القلق والتشوش، وهما السببان الأساسيان لفشل الكثيرين عن تحقيق أحلامهم. ركز على الخاتمة ولا تزيغ عنها بصرك مهما حدث.

الصورة

آلهة جبل الأولمب: ينظرون وسط الضباب لأعمال البشر ويرون مُسبقاً خواتيم الأحلام الكبيرة التي ينتهي معظمها بالكوارث والمحن، ويسخرون من عجز البشر عن رؤية ما ينجاوز حاضرهم ومن تضليلهم لأنفسهم بأنفسهم.

اقتباس من معلم: كم من الأسهل علينا أن نتجنب الدخول في أمر ما عن أن نُخرِجَ أنفسنا منه، ولذلك علينا أن لا نقلد القصب الذي في أول نموه تظهر له ساق طويلة ومستقيمة وبعدها يبدو كأنها مَسَّهُ التعب... وتظهر عليه الكثير من العقد الكبيرة تبين أنه لم يعد لديه نفس النشاط والحماس. علينا أن نبدأ الأمور برفق ورَوِيَّة ونَدَّخِر طاقاتنا للمواجهات اللاحقة وللدفعات القوية التي نختم بها الأمور لصالحنا. في البداية تكون الأمور خاضعة لإرادتنا، ولكن بمجرد أن تتحرك تقودنا وتأخذنا في تيارها (مونتاني 1533 - 1592) .

عکس القاعدة:

من المحفوظات التي يرددها الاستراتيجيون كثيراً أن على المخططات أن تحوي درجة من المرونة وأن تشتمل على بدائل، وهذا صحيح قطعاً. إن تَجَمَّدتَ داخل خططك لن يمكنك أن تتعامل مع التغيرات المفاجئة في سير الأحداث، وعليك بمجرد أن تتفحص إمكانات المستقبل وتحدد أهدافك أن تضع البدائل وأن تفتح طرق جديدة لتحقيق هذه الأهداف.

إلا أن معظمَ فشل الناس في مخططاتهم لا يأتي من التخطيط الزائد والجمود بل من التَّشَوُّش والارتجال عند مواجهة الظروف. لذلك لن تستفيد شيئاً من نقضك لهذه القاعدة لأنه لن يحقق لك شيئاً أن تتجاهل المستقبل وتغفل عن التخطيط من البداية إلى النهاية. وإن كان تفكيرك سليماً ومتعمقاً ستعرف أن معرفتك بالمستقبل لا يمكن أن تكون يقيناً، وأن عليك أن تتكيف مع المتغيرات، وتحديد الأهداف بوضوح والتخطيط للمدى البعيد هو الوسيلة الوحيدة التي تمنحك هذا القدر من التحرر والمرونة.

المصدر: THE 48 LAWS OF POWER, ROBERT GREEN (ترجمة د. هشام الحناوي)

إقرأ أيضاً:

6 أنواع من اضطرابات الطفولة أسبابها وعلاجها

الكرب عند الأطفال علاماته أسبابه علاجه والتعامل معه

الألعاب المناسبة للطفل ودورها في التطوير المعرفي

8 طرق للحفاظ على سلامة الأطفال في الأماكن العامة

هل يؤثر إشعاع الهواتف المحمولة على الأطفال؟

للمزيد

حدوثة قبل النوم قصص للأطفال

كيف تذاكر وتنجح وتتفوق

قصص قصيرة معبرة

قصص قصيرة معبرة 2

معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب

الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية

إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن

استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط

قصص قصيرة مؤثرة

مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم

تربية الأبناء والطلاب

مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات

أيضاً وأيضاً

قصص وحكايات

الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور

شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور

الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها

تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات

كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق