الاثنين، 9 يناير 2017

• قصة النقود

إننا نتعامل مع النقود كل يوم ومع ذلك لا نفهم طبيعتها، لأن للنقود نظاماً اجتماعيا قد فرض نفسه وأصبح يكشف عن طبيعة المجتمع وعن نظامه الاجتماعي. فما هي حقيقة النقود وما هي الخصائص الجوهرية التي تتداخل مع مختلف أنشطة الحياة الاقتصادية والتي قد تلتبس على بعض المتخصصين؟

تمثل النقود أحد أهم اكتشافات الإنسان والتي أثرت في حياته وتطور المجتمعات على نحو لا يكاد يعادله في الأهمية سوى اكتشاف الإنسان للنار والكتابة. وإذا كان اكتشاف النار قد فتح أمام الإنسان باب السيطرة على الطبيعة وتطويع الأشياء وبالتالي انطلاق "الإنسان الصانع"، فإن الكتابة قد أتاحت له فرصة تراكم المعرفة وتسجيل الذاكرة الجماعية وتقدم العلوم والمعارف وبها تأكد معنى "الإنسان المفكر". وجاءت النقود لتفسح الطريق أمام هذا "الإنسان الصانع" و "المفكر" لكي يترجم هذه المكتسبات إلى رفاهية وتقدم اقتصادي! فبالنقود ومن خلال تطورها اكتسبت الثروة آفاقا جديدة وبالتالي فتح الطريق أمام التقدم الاقتصادي المذهل الذي عرفه الإنسان في خلال تاريخه الطويل. فالتقدم الذي حققه الإنسان لم يكن فقط وليد اكتشافات "فنية وتكنولوجية" كما بدأتها رحلة الإنسان مع اكتشاف النار، كما لم يكن فقط وليد ثورة "ذهنية وفكرية" عندما فجرها اكتشاف الإنسان للكتابة، ولكن هذا التقدم يرجع في جزء غير قليل منه إلى استنباط الإنسان لعديد من النظم والمؤسسات الاقتصادية، وفي مقدمتها فكرة النقود.
غموض طبيعة النقود
رغم أهمية النقود في حياة الإنسان، ومع الاعتراف بأن الغالبية العظمى من البشر يهتمون بها، بل وقد يسعون إليها - رغم ادعائهم غير ذلك في كثير من الأحيان - فإنه من الغريب أن عددا محدودا جدا يفهم حقيقة النقود وطبيعتها. ولا يقتصر الأمر على الجمهور الغفير من غير المتخصصين، بل إن بعض الخصائص الجوهرية للنقود في تداخلها مع مختلف مظاهر الحياة الاقتصادية قد تلتبس حتى على بعض المتخصصين. فالنقود رغم تعاملنا اليومي معها لم تزل كيانا خاصا له حياته المستقلة ويتطور بشكل مستمر على نحو قد نغفل فيه عن بعض خصائصه الرئيسية. ولعل السبب في ذلك يرجع إلى أن النقود "نظام اجتماعي" لم ينشأ نتيجة لتصور معين أو لفكرة محددة لدى مفكر أو باحث. النقود ليست اختراعا، ولكنها كيان اجتماعي متطور فرضته حاجات التعامل على نحو متدرج وغير ملموس، ولم تلبث النقود أن فرضت قانونها على التعامل ذاته، وبالتالي فإن هناك علاقات من التأثير المتبادل بين احتياجات التعامل - وفي مقدمتها اقتصاد التبادل - وبين النقود، دون أن يمكن تحديد شكل علاقة السببية على نحو واضح ومحدد. وقد تطور شكل النقود خلال المراحل المختلفة، فعرفت مرحلة للنقود السلعية حيث قامت بوظائف النقود سلعة من السلع، ثم ظهرت مرحلة النقود المعدنية حيث استقر التعامل على أنواع محددة من المعادن النفيسة (الذهب والفضة) لكي تقوم بوظائف النقود، وجاءت بعد ذلك مرحلة النقود الورقية (البنكنوت) وبحيث أصبحت الأوراق التجارية التي تصدرها البنوك - استنادا إلى المعدن النفيس - هي التي تقوم بوظائف النقود، وأخيرا ظهرت مرحلة النقود الائتمانية والتي تخلصت فيها النقود من كل مظهر مادي - فهي ليست سلعة ولا معدنا ولا حتى ورقة تجارية - وإنما مجرد حق أو دين. وبهذا المنظور تحررت النقود كلية من كل شكل مادي لتمثل علاقة مجردة بين دائن ومدين، ولكن مع خصوصية جديدة هي أن مديونية المدين تخفي وراءها مديونية المجتمع أو الاقتصاد القومي في مجموعه على ما سنرى.
وإذا كان فهم أي ظاهرة يزداد عمقا بمتابعة تطورها التاريخي، فإن الاهتمام بتاريخ النقود وتطور مراحلها كثيرا ما كان سببا في عدم إدراك حقيقة النقود وكنهها. فالتاريخ المادي الطويل للنقود وخصائصها السلعية أو ارتباطها بالمعدن النفيس أو شروط إصدارها من البنك المركزي أو البنوك بصفة عامة، كل ذلك قد ساعد على طمس حقيقة النقود الرئيسية وهي: أنها حق وبالتالي علاقة معنوية وليست شيئا ماديا محددا، وهي علاقة تعطي حاملها الحق في استيفائه من السلع والخدمات المعروضة للبيع، وبالتالي فإن المدين النهائي ليس شخصا محددا إنما هو جمهور البائعين. وفي كل ذلك لا تظهر النقود كنوع من المثليات لها ما يقابلها عددا ونوعا محددا مسبقا، وإنما هي على العكس علاقة بين صاحب النقود وبين المجتمع أو الاقتصاد القومي في مجموعه تتحدد فيه حقوقه بقدر ما يحدث في الاقتصاد من تقدم أو تأخر. فالنقود ظاهرة اجتماعية مركبة تعكس مختلف العلاقات الاقتصادية داخل المجتمع. كل هذه أمور لم تكن واضحة عندما اقتصر الحديث على النقود المادية سلعة كانت أو معدنا أو ورقا، ولم يعد الأمر كذلك حينما كشفت النقود عن حقيقتها بعد أن تجردت كلية من كل مظهر مادي. وحتى لا نستبق الأمور فلنبدأ منذ البداية لنعرف النقود ونميز بينها وبين ما يختلط بها.
الأصول العينية والأصول المالية
عندما نتحدث عن ثروة الفرد فإننا نبحث في كل ما يملكه ويتمتع بقيمة في السوق، فهو يملك منزلا أو عقاراً وله حسابات في البنوك ونقدية في منزله وله به منقولات وقد يملك أوراقاً مالية من أسهم وسندات، وكلها في نظره من عناصر الثروة التي يملكها. ولكن إذا نظرنا إلى هذه العناصر نجد أنها تتكون في الحقيقة من نوعين من الأصول، أصول عينية وأصول مالية. أما الأصول العينية فهي السلع والموارد المادية وغير المادية والتي تقوم بإشباع الحاجات مباشرة (سلع الاستهلاك) مثل الملابس والأثاث، أو التي تستخدم في الإنتاج (السلع الإنتاجية) مثل الآلات والمعدات في المصنع أو المزرعة والتي وإن كانت لا تشبع الحاجات المباشرة، فإنها تساعد على الإنتاج في المستقبل. ولكن إلى جانب هذه الأصول العينية بالمعنى السابق توجد في ثروة الفرد عناصر أخرى هي التي يمكن أن نطلق عليها اسم الأصول المالية. وهذه ليست سلعا استهلاكية ولا إنتاجية وإنما مجرد حقوق أو ديون في علاقته مع أطراف أخرى. فالسند مثلا ليس سلعة ولكنه دين في حق المدين لصالح الدائن. وبالمثل فإن السهم - وإن كان من الناحية القانونية يمثل عنصرا للملكية في الشركة - فإنه في حقيقة الأمر يمثل حقا للمساهم في مواجهة الشركة نظرا لأن الشركة نفسها تملك الأصول العينية من آلات ومصانع وغير ذلك. فهنا نحن بصدد نوع آخر من أنواع الثروة، وهو الأصول المالية والتي لا تمثل سلعا أو أصولا عينية، وإنما تعكس علاقة مديونية بين دائن ومدين. وإذا كانت هذه الأصول تمثل ثروة من وجهة نظر الدائن - لأنه سوف يستوفي حقه من المدين - فإن الأمر يختلف عندما ننظر إلى الاقتصاد القومي في مجموعه. ذلك أن الأصول المالية تتضمن طرفين، طرفاً دائنا وطرفا مدينا. هناك حق للدائن يمثل إضافة إلى حجم ثروته، ولكن هناك أيضا التزاما على المدين يمثل عجزا وعبئا على ثروته. وتتعادل قيمة الطرفين بالضرورة وبالتالي يلغي أثرهما بعضه البعض الآخر. ولذلك فإنه من وجهة نظر المجتمع في مجموعه لا تعتبر الأصول المالية المحلية جزءا من الثروة. فهي وإن كانت إضافة بالنسبة للدائنين بها، فإنها تمثل عجزا بالنسبة للمدينين بها. وهكذا تصبح الإضافة الصافية دائما صفراً في حالة الأصول المالية. ولذلك فإن ثروة المجتمع تقاس فقط بالأصول العينية وتخرج منها الأصول المالية المحلية التي لا تضيف شيئا على المستوى القومي رغم أنها كانت تؤثر في توزيع الثروات بين الأفراد فتزيد من ثروة أصحاب هذه الأصول المالية وتنقص بنفس القدر من ثروة المدينين بها.
النقود ليست الثروة
تعتبر النقود من وجهة نظر الفرد نوعا من الثروة، فكل فرد يقيس ثروته بما لديه من نقود ومن أصول أخرى كمنزل أو مزرعة أو مصنع أو سلع معمرة كسيارة أو غيرها وكذلك الحال بالنسبة لحقوقه المالية الأخرى من الأسهم والسندات والديون. ولكن ليس الأمر كذلك من وجهة نظر المجتمع في مجموعه، فالنقود ليست جزءا من الثروة وإن كانت حقا عليها. وإذا كانت النقود في التحليل النهائي هي حقا أو دينا لصاحبه في الحصول على ما يشاء من السلع والخدمات المعروضة للبيع، أي أن هناك التزاما أو عبئا على مالك هذه السلع والخدمات لصالح حامل النقود، فإنها لا تعتبر والحال كذلك إضافة إلى الثروة بقدر ما هي حق عليها.
وظائف النقود
ارتبطت وظائف النقود باقتصاد التبادل. فالنقود إحدى نتائج ظهور التبادل، فضلا عن أنها أصبحت من أهم أسباب تطور شكل المبادلات نفسها. فبعد انتهاء الاقتصاد البدائي المعيشي، اكتشفت المجتمعات أهمية التخصص وتقسيم العمل مما أظهر الحاجة إلى المبادلات. وقد ساعد كل من التخصص وتقسيم العمل على زيادة الكفاءة الإنتاجية وتوسع إطار النشاط الاقتصادي ليجاوز الوحدة الاقتصادية البدائية - عائلة أو قبيلة - ويتسع ليشمل وحدات أكبر من مدينة أو منطقة حتى ظهرت الوحدات الاقتصادية الكبرى في شكل دول وها نحن نتقدم نحو الاقتصاد العالمي. وفي كل هذا كان التبادل هو الأساس في دفع التخصص وتقسيم العمل إلى مداه.
ومع ظهور أهمية التبادل كان لابد من ظهور النقود وتطورها للتخفيف من مشاكل المبادلات العينية - المقايضة - وذلك بتوفير وسيلة سهلة وبأقل النفقات لإجراء عمليات التبادل. وهكذا ظهرت النقود كأسلوب لتقسيم عملية التبادل العيني - المقايضة - إلى عمليتين منفصلتين هما الشراء والبيع ويتوسطهما استخدام النقود. وبذلك فقد كانت الوظيفة الرئيسية للنقود هي الوسيط في التبادل. وقيام النقود بوظيفة الوسيط في التبادل تفترض ضمنا أن ترد كل قيمة السلع إلى مقياس واحد تقدمه هذه النقود، وبذلك فقد ارتبطت وظيفة الوسيط في التبادل بوظيفة أخرى عاصرتها أو حتى سبقتها وهي وظيفة مقياس القيم. فالنقود ليست فقط وسيلة لتقسيم عملية المقايضة إلى عمليتين منفصلتين للبيع ثم الشراء، بل إنها تمثل فضلا عن ذلك أساسا لتقييم السلع محل التبادل وإجراء المقارنة بين قيمها بمعيار واحد. وقيام النقود بهذا الدور يعني أن النقود تقوم بدور هام في الحساب الاقتصادي، والمقارنة بين أسعار السلع المختلفة. فقد وجد أن هناك كسبا حقيقيا من حيث حجم المعلومات المتاحة مع استخدام النقود، ذلك أن استخدام النقود في مقارنة معدلات التبادل يقلل من عدد الأسعار النسبية بشكل كبير دون نقص في المعلومات المتاحة عن قيم السلع. فإذا لم تستخدم النقود فستكون هناك حاجة لمقارنة أسعار كل سلعة بالنسبة للسلع الأخرى، وهو ما يتضمن عددا هائلا من العلاقات تعرفه قواعد التوافيق والتبادل في الرياضيات ن ، بعكس الحال عند استخدام النقود حيث يقل عدد هذه العلاقات إلى (ن- ا). فإذا كان لدينا 100 سلعة، فأنت تكون بصدد 4950 علاقة أسعار نسبية بين السلع في حالة عدم استخدام النقود، في حين أن استخدام إحدى هذه السلع كنقود ونسبة كل الأسعار إليها تخفض هذه العلاقات إلى 99 علاقة فقط. وهكذا فإن استخدام النقود كمقياس للقيم هو جزء من تخفيض تكلفة المعلومات. فالنقود أداة لزيادة المعرفة والمعلومات عن قيم السلع. وأخيرا فإن النقود وهي تمثل وسيطا في التبادل بحيث تفصل بين عمليتي البيع والشراء، فإنها تسمح في نفس الوقت بالفصل الزمني بحيث قد تتأخر إحدى العمليتين. عن الأخرى. فالبائع ليس مضطرا لاستخدام النقود حصيلة البيع للشراء في نفس الفترة بل إنه قد يقرر الاحتفاظ بالنقود للشراء في فترات مستقبلة، وهكذا فإن النقود أيضا مخزن للقيم تسمح بالاحتفاظ بالحق في الشراء والحصول على السلع والخدمات في المستقبل، أي أنها تمثل جسرا بين الحاضر والمستقبل بما توفره لصاحبها من قدرة على الحصول على السلع والخدمات في المستقبل.
وهكذا جرت العادة على القول بأن وظائف النقود هي الوسيط في التبادل، مقياس القيم، ومخزن القيم. وبهذه الوظائف أو الصفات تتوافر للنقود خصائصها النقدية وتتميز بها عن غيرها من الأصول الاقتصادية. وإذا كانت النقود تقوم بهذه الوظائف فإنما يرجع ذلك إلى أنها تتمتع بنوع من القبول العام في المعاملات، بمعنى أن كل صاحب سلعة أو خدمة معروضة للبيع يقبل التنازل عن سلعته أو خدمته مقابل الحصول على النقود، وهو يقبل ذلك لأنه يدرك أن الآخرين يقبلون بدورهم الحصول على هذه النقود وتقديم سلعهم أو خدماتهم المعروضة للبيع. وهكذا فإن أساس قيام النقود بدورها هو توافر هذا الإنفاق العام على قبول التعامل بالنقود، وهو من أنواع الظواهر الاجتماعية التي تتحقق بقيام الثقة المتبادلة بين الأفراد على قبول التعامل بشكل من أشكال النقود دون شكل أو أشكال أخرى.
أشكال النقود
سبق أن أشرنا إلى أن النقود قد أخذت أشكالا متعددة في خلال تطورها التاريخي. وقد بدأت في شكل سلعة من السلع ذات الانتشار الواسع الاستخدام، التي تمتعت بالتالي بنوع من القبول العام. وهذه هي مرحلة النقود السلعية. ومع استمرار قيام إحدى السلع بوظائف النقود أظهرت بعض المعادن وخاصة الذهب والفضة مزايا خاصة ساعدتها على القيام بهذه الوظائف؛ من ذلك أن هذين المعدنين لا يتعرضان للتلف أو الخسارة، وأنه يمكن تجزئتهما وإعادة صهرهما، وأنهما نادران نسبيا وبالتالي يتمتعان بقيمة مرتفعة تسمح بإجراء معاملات كبيرة بأحجام معقولة من المعدن. وهذه هي مرحلة النقود المعدنية. ومع انتشار التجارة وقيام الأوراق التجارية بدأت بعض البيوتات المالية (البنوك) في الاحتفاظ بالنقود المعدنية مقابل إصدار أوراق تجارية تتداول بدلا من النقود المعدنية المحفوظة في خزائنها. وهكذا بدأت هذه الأوراق تتمتع بنوع من القبول العام في أوساط التجار ثم توسع استخدامها إلى الجمهور الواسع، وبدأت مرحلة النقود الورقية حيث اقتصر إصدار هذه النقود الورقية على أحد البنوك الرئيسية والذي أصبح فيما بعد البنك المركزي. وأخيرا جاء التعامل مع البنوك التجارية وإصدار مديونياتها في شكل ودائع (مديونية) تقيد في حساباتها وتنتقل هذه القيود المحاسبية عن طريق الشيك. ومع التوسع في استخدام الشيكات لدى البنوك وانتقال الأموال بين الأفراد عن طريق نقل حساباتهم لدى البنوك في شكل تغيير في شكل القيود المحاسبية لدى البنك بتبديل اسم الدائن، بدأت تظهر النقود الائتمانية، والتي تتمثل في مديونية أو ائتمان البنك والذي أصبح يقبل في التعامل بين الأفراد. وهكذا فإن مديونية البنك لم تعد مقصورة عليه بل إنها تمتعت بنوع من القبول العام، بحيث أصبح الأفراد يقبلون التنازل عن السلع والخدمات المعروضة للبيع مقابل الحصول على مديونية البنك التجاري. وهكذا أصبح البنك التجاري خالقا لنوع جديد من النقود وهو نقود الودائع أو النقود الائتمانية. ومع هذا التطور تخلصت النقود نهائيا من كل أثر مادي لتصبح مجرد مديونية أو قيد محاسبي في دفاتر البنك يمثل مديونية البنك.
وهكذا ظهرت النقود في شكلها النهائي وفقا لطبيعتها الحقيقية والتي كانت تختفي - إلى حد ما - مع الأشكال المادية للنقود. النقود ليست شيئا ماديا، ليست سلعة، بل هي حق أو مديونية، ولكنها مديونية من نوع خاص هي مديونية يمكن أن تتحول إلى سلع خدمات يمكن اقتضاؤها من أي فرد في المجتمع يعرض بضاعة للبيع. وهكذا فإن حامل النقود يتمتع بحق في تحويل هذه النقود إلى سلع وخدمات، ويمكن أن يحصل على حقه هذا من أي فرد يعرض سلعه أو خدماته للبيع. وبذلك فإن المدين النهائي في حالة النقود هو مدين غير محدد. النقود حق على الاقتصاد في مجموعه أو الإنتاج القومي المعروض للبيع. فكل مالك لكل عنصر من هذا الإنتاج يمثل مدينا ممكنا أو محتملا في مواجهة حامل النقود الذي يكون له الحق في اقتضاء هذا الحق من أي منتج في الاقتصاد. ولذلك فإن النقود دين على الاقتصاد القومي وحق لحاملها في مواجهة هذا الاقتصاد.
ومتى اتضحت طبيعة النقود على هذا الشكل فإنها تخرج من إطار السلع أو الإنتاج بصفة عامة لتدخل ضمن قائمة الحقوق أو الأصول المالية، وهي تتميز عن غيرها من الأصول المالية بأنها تتمتع بقابلية نهائية للتداول، وهذا ما يطلق عليه معنى السيولة، وتقاس سيولة الأصول المالية من أسهم وسندات وغيرها بشكل عام بمدى قدرتها على التحول إلى نقود. وتتمتع النقود كأصل مالي بثبات نسبي في القيمة لأن النقود كما سبق أن أشرنا هي أساس أو مقياس القيمة، الأمر الذي يتطلب قدرا من الاستقرار في القيمة. ونحن هنا نتحدث عن الثبات النسبي لقيمة النقود. ولكن ذلك لا يمنع من أن هذه القيمة قد تتغير، بل وقد تتدهور بشكل كبير نتيجة للتضخم.
قيمة النقود
إذا كانت النقود حقا ماليا فإن قيمتها تتحدد بالقيمة الاقتصادية لموضوع هذا الحق. وقد رأينا أن حامل النقود يتمتع بالحق في الحصول على ما يشاء من السلع والخدمات المعروضة للبيع في الاقتصاد القومي وهو ما يطلق عليه اسم القوة الشرائية للنقود. وبذلك تتحدد قيمة هذا الحق بمدى توافر الإنتاج - أي السلع والخدمات في الاقتصاد - وبمدى تزاحم أصحاب الحقوق المماثلة من حاملي النقود على نفس هذا الإنتاج. وهكذا تزيد قيمة النقود كلما زاد الإنتاج القومي، وبالتالي يزداد ما يمكن الحصول عليه من سلع وخدمات مقابل هذه النقود. وفي نفس الوقت تقل قيمة النقود كلما زاد حجم المتداول منها نتيجة زيادة مزاحمة أصحاب النقود على نفس الإنتاج. وبعبارة أخرى فإن قيمة النقود ترتبط بالقوة الشرائية للنقود، أي بما يمكن الحصول عليه من سلع أو خدمات. وهكذا فإن قيمة النقود هي قيمة مشتقة من قوة الاقتصاد وحجم الإنتاج. ولذلك فإن النقود تعبير أو رمز عن الاقتصاد في مجموعه، فهي حق لصاحبها على الإنتاج القومي المعروض للبيع، وتتوقف قيمة النقود على ما يحدث في الاقتصاد والإنتاج بصفة عامة. فالحديث عن قيمة النقود إنما هو حديث عن أوضاع الاقتصاد القومي. وبذلك تختلف قيمة النقود عن قيمة أي سلعة، فالحديث عن قيمة السلعة يعني أننا نبحث في القيمة النسبية، أي معدل التبادل بين السلعة والسلع الأخرى، كل واحدة على حدة. أما الحديث عن قيمة النقود فليس حديثا عن قيمة النقد بالنسبة لكل سلعة على حدة وإنما بالنسبة لجميع السلع والخدمات، أو قل متوسط أسعارها.
النقود والإنتاج
سبق أن أشرنا إلى أن النقود ليست الثروة وإنما هي حق عليها، وأن قيمة النقود مشتقة من حجم الإنتاج وتنوعه، فهل معنى ذلك أن العبرة فقط بما يحدث في الاقتصاد العيني من علاقات إنتاج، وأن النقود وغيرها من الأصول المالية عديمة الأهمية بالنسبة للإنتاج والثروة؟.
الحقيقة هي عكس ذلك تماما، فرغم أن النقود ليست هي الثروة، فإنها مع ذلك - مع غيرها من الأصول المالية الأخرى - من أهم العناصر التي تساعد على زيادة الثروة والإنتاج. فالإنتاج - وما يتولد عنه من ثروة - يتوقف إلى حد كبير على عدد من النظم والوسائل الاقتصادية، وفي مقدمتها نظام النقود والمؤسسات المالية والأصول المالية المختلفة. فقد ساعد وجود هذه النظم والمؤسسات على زيادة القدرة على الإنتاج وتنويعه وتطويره. فكما لاحظ آدم سميث بحق - منذ نهاية القرن الثامن عشر - وتابعه في ذلك كبار الاقتصاديين، تتوقف ثروة الأمم على القدرة على تقسيم العمل، وزيادة حجم الأسواق والمبادلات، وزيادة القدرة على الادخار وإتاحة الفرص أمام المستثمرين والمبدعين لاستخدام المدخرات المتاحة. وفي كل هذا قامت النقود، وبشكل عام الأصول المالية والمؤسسات النقدية والمالية، بتوفير الظروف المناسبة لتحقيق هذه الأمور اللازمة لزيادة ثروة الأمم. فتقسيم العمل والمبادلات لا يتحقق بشكل كاف في غياب نظام نقدي، وكلما تطور شكل النقود وازدادت تحررا انعكس ذلك على زيادة القدرة على تقسيم العمل والمبادلات. فوجود قوة "شرائية عامة" تسمح لكل منتج بأن يتخصص في إنتاج السلعة أو المرحلة الإنتاجية التي يجيدها ويطرحها في السوق مقابل الحصول على النقود التي تمكنه من الحصول على ما يريد من سلع وخدمات معروضة في السوق. كذلك فإن إمكانات الادخار تزداد بشكل كبير كلما توافر للأفراد فرصة للاحتفاظ بقيمة فائض إنتاجهم في شكل قوة شرائية عامة، وليس مجرد مجموعة محددة من السلع، وبحيث يتمكنون من استخدام هذه النقود في المستقبل للحصول على احتياجاتهم من السوق من مختلف السلع والخدمات. وبالمثل فإن توافر هذه المدخرات النقدية وتجميعها في المؤسسات النقدية والمالية يضع أمام المستثمرين إمكانات كبيرة لتنفيذ مشروعاتهم استنادا إلى مدخرات الآخرين. ومع نمو الاستثمارات وتزايدها وبالتالي العوائد المترتبة عليها يجد المدخرون مزيدا من الحوافز على زيادة مدخراتهم. وبطبيعة الأحوال، فإن ازدهار هذه العلاقات لا يتوقف فقط على وجود النقود كأصل مالي، وإنما لابد أن يندرج ذلك ضمن منظومة كاملة الأصول المالية من أوراق تجارية وأوراق مالية ومع توافر عدد من المؤسسات النقدية والمالية الوسيطة التي تتوسط العلاقة بين المدخرين والمستثمرين. فالنقود لا تقوم بدورها كاملا إذا لم يرتبط ذلك بالعديد من الأوراق التجارية من كمبيالات وسندات إذنية وشيكات. وتزداد الثقة في تداول هذه الأوراق التجارية كلما وجدت مؤسسات مالية وسيطة تتعامل فيها وتعطيها، بالتالي، مزيدا من الثقة والاستقرار نتيجة لكبر حجم معاملاتها. بل إننا رأينا أن ظهور النقود نفسه كان تطويرا لهذه الأوراق التجارية التي تقدم إلى البنوك فتعيد إقراضها - مع تقديم ضمانها - وبها أصبحت نفسها نوعا من النقود.
ولا يقتصر الأمر على الأوراق التجارية، بل لابد أن تكتمل الصورة بظهور أشكال الأوراق المالية طويلة الأجل من أسهم وسندات، وغيرها من الأصول المالية. فهذه الأصول المالية تساعد على ظهور المشروعات الكبرى، في شكل شركات المساهمة وغيرها، والتي لم يكن من الممكن بدونها تجميع المدخرات الهائلة، فضلا عن توفير الفرص الاستثمارية الكبرى للأفكار العظيمة. وقد ارتبط ذلك بظهور أشكال قانونية جديدة للشركات والصناديق والمؤسسات المالية الوسيطة من بنوك وشركات تأمين وصناديق معاشات، فضلاً عن مختلف أشكال الأوراق المالية. وهكذا فإن الإنتاج والاقتصاد العيني لا يمكن أن ينمو على النحو المراد ما لم يصاحبه تطور مقابل في الأصول المالية والاقتصاد المالي. على أن النقود وحدها لا تكفي وإنما يجب أن تنظم في منظومة كاملة من الأصول المالية تكملها ويساعد كل شكل منها على تدعيم وتطوير الأشكال الأخرى. ومن هنا أيضا تظهر أهمية النظر إلى النقود باعتبارها أحد - ولكن أهم - عناصر الأصول المالية. وبالمثل فإن دور البنك المركزي والبنوك التجارية لا يمكن أن يكتمل ما لم ينتظم بدوره ضمن تشكيلة كاملة من المؤسسات المالية.
باستثناء الاقتصاد البدائي، فإنه لا قيام لاقتصاد حديث متطور ما لم يستند إلى نظام نقدي حديث ومتطور. ووجود هذا الاقتصاد النقدي الحديث رهن باندماجه في قطاع مالي متطور من المؤسسات والأصول المالية المتنوعة. حقا الاقتصاد العيني - من إنتاج وثروة - هو الأساس، ولكنه بدون اقتصاد مالي متطور فإنه يصعب - أو حتى يستحيل - تقدم الاقتصاد العيني.
النقود والزمن
النشاط الاقتصادي نشاط ممتد بطبيعته في الزمن، فالإنتاج يأخذ فترة حتى تظهر آثاره في السوق. ويعتمد التقدم الاقتصادي كله على الادخار والاستثمار، وهما من الكميات الاقتصادية ذات الصلة الوثيقة بالنظر إلى الزمن والمستقبل. فالادخار هو امتناع عن الاستهلاك الآن وتأجيله إلى المستقبل، والاستثمار هو بذل الجهد الآن من أجل الحصول على الثمرة في المستقبل. وهكذا فإن النشاط الاقتصادي وكفاءته يعتمدان على مدى الرشادة في اتخاذ هذه القرارات المتعلقة بالمستقبل، وإجراء المقارنة بين العائدات والأعباء الممتدة عبر فترة من الزمن، بمقارنة بين الحاضر والمستقبل، والمقارنة بين فترات متعددة في المستقبل البعيد والقريب.
وقد اكتسب الزمن أهمية خاصة في العصور الحديثة، وخاصة بعد عصر النهضة والاكتشافات الكبرى ثم الثورة الصناعية. ويرجع ذلك إلى خطورة وأهمية التغييرات التي تلحق بالحياة وبظروف ووسائل الإنتاج وتطور الأوراق. فرغم أن التطور والتغيير من سنن الحياة فإن سعة التطورات والتغيرات زادت بشكل كبير في العصور الحديثة. فقد تميزت الحضارات القديمة باستقرار كبير وبطء شديد في التطور والتغيير. ولذلك فرغم مرور الوقت لم تحدث تغيرات كبرى لفترات طويلة نسبيا. ومن هنا لم يكن للزمن نفسه الأهمية التي يمثلها الآن. فقد يمر الوقت ولا يختلف الزمن. وليس الأمر كذلك الآن، فالزمن هو التغير.
ومن هنا فقد عرفت مختلف النظم الاقتصادية، وخاصة في العصر الحديث، أساليب متعددة لقياس التفضيل الزمني، أي مبادلة الحاضر بالمستقبل. فمن يتنازل عن مزايا أو مصالح في الحاضر فهو يتحمل تضحية يقينية، ولا يمكن أن يعوضها المستقبل الاحتمالي إلا مقابل عوض أو ثمن. وما لم يتوافر معيار للتفضيل الزمني، فإن الاقتصاد يفتقد أساس المقارنة بين الحاضر والمستقبل، وبالتالي تفسد قرارات الادخار والاستثمار وهي أساس كل تقدم.
وتلعب النقود دورا أساسيا في الربط بين الحاضر والمستقبل، وبالتالي توفير وسيلة للمقارنة بين الحاضر والمستقبل أو بين الفترات المختلفة في المستقبل. فالنقود كما أشرنا تعطي صاحبها حقا على الإنتاج القومي، وهو حق لا يقتصر على إنتاج محدد بذاته في فترة زمنية معروفة، وإنما هو حق مجرد أو مطلق على الإنتاج القائم أو الإنتاج المستقبل. وتتحول النقود فقط إلى سلع وخدمات عندما يقرر صاحبها استخدامها في الشراء مما هو متاح في الاقتصاد سواء في الفترة الحالية أو في المستقبل القريب أو البعيد. ولذلك تعتبر النقود بحق حلقة الوصل بين الحاضر والمستقبل.
ثمن النقود
النقود ليست سلعة، وعندما تكتشف حقيقة النقود بعد تطور طويل، فإن الحديث عن ثمن تبادل النقود ليس حديثا عن مبادلة سلعة بسلعة؛ تمرا بتمر، أو برا ببر، أو ذهبا بذهب. فالنقود ليست من المثليات التي تتبادل فيما بينها، والتي يصدق عليها قول أرسطو، بأن النقود لا تلد. والحديث عن تبادل النقود أو ثمن هذا التبادل يمكن أن يتم عند اختلاف محل التبادل في المكان أو الزمان.
فمن حيث الاختلاف في المكان، تتبادل العملات المختلفة فيما بينها. فالمعروف أننا لم نصل بعد إلى مرحلة النقود العالمية، والنقود الوطنية المتداولة تمثل حقا على الاقتصاد الوطني دون مجاوزة حدوده. فالجنيه المصري حق أو دين على الاقتصاد المصري وبالتالي يتم التعامل فيه داخل حدود هذا الاقتصاد، في حين أن الدولار أو الجنيه الإسترليني تمثل حقوقا على الاقتصاد الأمريكي أو البريطاني. ولذلك فإن تبادل الجنيه المصري مقابل الدولار أو الإسترليني هو مبادلة حقوق على الاقتصاد المصري مقابل حقوق على الاقتصاد الأمريكي أو البريطاني. ومن الطبيعي أن يكون من حق المتعاملين أن يتفقا على تحديد سعر التبادل بين العملتين في ضوء نظرة كل منهما إلى قوة وطبيعة كل من الاقتصاد المصري والأمريكي والبريطاني. وقد يختلف هذا التقدير بين شخص وآخر كما قد يختلف بين فترة وأخرى. وهذا التبادل بين العملتين ليس تبادلا بين مثليات، فالجنيه المصري تعبير أو رمز عن الاقتصاد المصري المركب، كما يعبر الدولار أو الإسترليني عن الاقتصاد الأمريكي أو البريطاني. ومن الواضح أنه لا يمكن القول بأن هذه العملات تعتبر مثليات يقوم كل منها مقام الآخر. ولذلك فإن تبادل العملات المختلفة ليس تعاملا في مثليات وبالتالي يخضع سعر هذا التبادل للتقدير ويعرف التقلبات. وهذا هو ما يعرف باسم سعر الصرف.
وبالمثل فإن تبادل النقود مع بعضها قد يكون في الزمان أيضاً. وفي هذه الحالة فإن مبادلة النقود إنما هي مبادلة زمن بزمن، مقايضة حق على الاقتصاد القومي الآن، بحق على الاقتصاد القومي غدا أو بعد غد. وقد يكونان شيئين مختلفين تماما من حيث حجم الإنتاج وتنوعه والقوة الشرائية لوحدة النقد. ومن هنا أيضا فإن الحديث عن ثمن النقود هو حديث عن ثمن الزمن أو هو تعبير عن التفضيل الزمني. وهذا هو سعر الفائدة. فمن يتنازل عن قدر من النقود الآن لا يتنازل عن سلعة أو سلع محددة، وإنما هو يتنازل عن حق أو سهم في الإنتاج القومي المتاح حاليا. وعندما يسترد نقوده في المستقبل فإنه لا يسترد سلعا أو خدمة تنازل عنها لفترة، وإنما يسترد حقا على الإنتاج القومي أو سهما فيه في فترة زمنية لاحقة. وقد يحدث خلال هذه الفترة من تغيرات على الإنتاج القومي ما يجعله يتقدم وينمو، أو ما قد يعرضه لمشاكل فيتراجع أو يتدهور، وكلها مخاطر واحتمالات. ومن الطبيعي أن يتوقع أن يعوض عن تحمله لبعض هذه المخاطر أو يشارك بنصيب في التقدم العام الذي صاحب الإنتاج القومي عند الانتقال من فترة إلى أخرى. وكما لا يستحم الإنسان في نفس النهر مرتين لاستمرار تدفق المياه وتغيرها، فإن من يسترد نقوده لا يسترد نفس الشيء، وإنما يتعلق حقه باقتصاد وإنتاج جديدين، وبالتالي فمن حقه أن يتفق على شروط المبادلة بما في ذلك حقه في استيفاء ثمن لنقوده القديمة والتي يستبدلها بنقود جديدة ترتبط باقتصاد جديد وزمن آخر. فمبادلة النقود ليست مبادلة بين المثليات، بل هي مبادلة بين حقوق على اقتصاديات مختلفة، ولابد لهذه المبادلة من معدل للتبادل أو ثمن. وهذا هو سعر الفائدة أو سعر الخصم، وهو ثمن النقود.
والله أعلم..

حازم الببلاوي



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق