بالتوازي
مع الشعر، عرف العرب قبل الإسلام فن القصص، الذي احتل جزءاً كبيراً من اهتمامهم،
لأنه كان يعبّر عن تاريخهم، ويسرد حكايات أمم لا يعرفونها ويثير نخوتهم القبلية
ويحفز خيالهم.
في
كتابه "الأدب العربي في العصر الجاهلي"، يقول الدكتور شوقي ضيف، إن عرب
الجاهلية كانوا يشغفون بالقصص شغفاً شديداً، وساعدتهم على ذلك أوقات فراغهم
الواسعة في الصحراء، فكانوا حين يرخي الليل سدوله، يجتمعون للسمر، وما إن يبدأ
أحدهم في مضرب من مضارب خيامهم بقوله "كان وكان"، حتى يرهف الجميع
أسماعهم إليه. وقد يشترك بعضهم معه في الحديث.
وشباب
الحي وشيوخه ونساؤه وفتياته المخدّرات وراء الأخبية، كل هؤلاء يتابعون الحديث في
شوق ولهفة.
مصدر القصص
يقول الدكتور
محمد سهيل طقوش في كتابه "تاريخ العرب قبل الإسلام"، إن القُصاص كانوا
يستمدون مادة قصصهم من الأساطير والخرافات السائرة المتنقلة بين الأمم، ومن
الأخبار والأحاديث الخرافية والتاريخية المأثورة، عن العرب وعمن جاورهم.
وعلى
الرغم من أننا لا نملك أصول هذه القصص، فإن اللغويين والرواة في العصر العباسي،
دوّنوا ما انتهى إليهم منها، بحسب طقوش.
ولبعض
قصص العرب أصل تاريخي، لكنه لم يحافظ على نقاوته، وإنما غلب عليه الخيال
والأسطورة. ومن هذا القبيل، قصص طسم وجديس (قبيلتان عربيتان سكنتا اليمامة كانت
بينهما حروب ومعارك)، وقصص الزباء (كانت ملكة تدمر وقادت مع زوجها تمرداً على
الإمبراطورية الرومانية)، وكذلك قصص الأقوام الغابرة.
ولبعض
القصص أيضاً أصول أعجمية، دخلت إلى المجتمع العربي من منابع خارجية يونانية
وفارسية ونصرانية، مثل قصة يومي البؤس والنعيم (كان للنعمان بن المنذر يومان فى
العام. يوم بؤس من صادفه فيه قتله ويوم نعيم من لقيه فيه أحسن إليه)، وقصة شريك مع
الملك المنذر اللخمي (شريك كان وزيراً للنعمان)، وقصة سنمار (مهندس بنى قصراً
للنعمان فقتله خشية أن يبني أفضل منه لغيره)، وهي قصص وإن اقترنت بأسماء جاهلية،
فإن أصولها غير عربية، وهي من القصص الواردة عند شعوب أخرى، بحسب ما ذكر طقوش.
وأوضح
طقوش أن أكثر ما كان يتناقله العرب الجاهليون على ألسنتهم، أيامهم وحروبهم
وانتصارات أبطالهم، وما مُنيت به بعض قبائلهم من هزائم، بالإضافة إلى قصص عن ملوك
المناذرة والغساسنة والحميريين والزباء.
وكانت
هذه القصص تخالف الواقع التاريخي أحياناً، على نحو ما هو معروف عن قصة الزباء،
التي لا تتفق في شيء مع وثائق التاريخ الروماني، حتى أن اسمها وهو زنوبيا حُرف إلى
الزباء.
وقص
العرب الجاهليون كذلك قصصاً عن ملوك الأمم المجاورة لهم، أو التي عرفوها وتعاملوا
معها مثل الفرس، وأحاديث رستم وإسفنديار (رستم شخصية أسطورية قتلت إسفنديار، الذي
كان يدعو الشعوب إلى دين المجوسية).
وتسرّبت
إلى قصص الحب عناصر من حكايات العشق الشائعة عند الأمم الأجنبية، مثل تعرف أحد
العاشقين إلى الآخر عن طريق الخاتم، وما يماثل ذلك في بعض الخرافات عن الحيوانات
التي يلتقون فيها بخرافات الأجانب. مثل خرافة الحية والفأس (قصة خرافية تدور حول
حية تحرس حديقة وقتلت شخصاً حاول أن يدخلها، فعقدت اتفاقاً مع أخيه أن تعطيه كل
يوم دينارين مقابل أن ينسى ثأر أخيه، لكنه نقض الاتفاق وحاول أن يقتلها)، وكانت من
قصص العرب المشهورة.
وقص
الجاهليون كثيراً عن الجن والعفاريت والشياطين، وزعموا أنها تتحول في أي صورة شاءت
إلا الغول، فتبدو في صورة امرأة عدا رجليها اللتين لا بد أن تكون رجلي حمار، قال
طقوش.
ويذكر
طقوش أيضاً أنواعاً أخرى للقصص قبل الإسلام:
العبرة
وُجد
في مكة وفي غيرها من المدن، قصّاصون يقصون على الناس ويعظونهم، واستمروا على ذلك
عند ظهور الإسلام، بهدف إثارة العقول إلى أنباء الماضين وأخبارهم، وإثارة تفكيرهم
في الظواهر الطبيعية والخلق وشؤون الحياة.
قصص الحيوانات
عرف
العرب القصص المروية على ألسنة الحيوانات، ويوجد بقايا منها في كتب الأدب
والأمثال، ولكنه من النوع القصير. ويبدو أنه منتزع من قصص قديمة، فقدت طولها بسبب
قدمها، فبقيت منها هذه البقايا.
ومن
بينها قصة النعامة التي ذهبت تطلب قرنين فرجعت بلا أذنين، وقصة الغراب والديك
(الغراب كان نديماً للديك شربا الخمر عند خمار، ولم يعطياه شيئاً، فذهب الغراب
ليأتي بالثمن بعد أن رهن صديقه عند الخمار، لكنه غدر به فبقي في الحبس). وهناك قصة
بر الهدهد بأمه، وقصة الغراب الذي أراد أن يقلد العصفور، وقصة الدب الذي قضى على
الخصومة بين الأرنب والثعلب.
إثارة العصبية
مثل
قصص الملوك والأبطال وسادات القبائل والأيام. وتتبوأ قصص الأيام المقام الأول،
بفعل تأثيرها الشديد في العصبية. وكان من أحب القصص إلى نفوس العرب، التي تلك تدور
حول المعارك العسكرية في الجاهلية بين القبائل العربية، كيوم داحس والغبراء، ويوم
الفِجار، ويوم الكلاب، أو بين العرب وأمم أخرى كيوم ذي قار.
أخبار المسافرين
روى
أهل الأخبار قصصاً عن الأسفار، وعن الأهوال التي يتعرض لها المسافرون في ذلك العهد
من الجن والسعالي (كلمة أطلقها العرب على حيوان كانوا يزعمون وجوده، وقيل إنه أنثى
الغول وهي تسحر الجن) والغيلان. وضمنّوها أبياتاً من الشعر، وربما قصائد في وصف
تلك المخلوقات المرعبة. وأحياناً يوردون شعراً على لسانها بلغة عربية بيّنة، خلال
محاورة الأشخاص الذين تعرضوا لها، وقد تظهر رقة وأدباً فيه رغم ما عُرف عن هذه
القوى من الميل إلى الأذى والشر.
النوادر والنكات
النوادر
والنكات من القصص المعروفة عند أهل الجاهلية، وقد اتخذ الملوك لهم ندماء أغرقوهم
في قول النوادر والأمور الغريبة المضحكة، حتى اشتهر أمرهم بين الناس. فبالغ
الندماء في نسبة النوادر إلى الملوك، وحوّلوا بعضهم إلى شخصيات أسطورية، ومنهم من
سجلت كتب الأدب والأخبار أسماءهم، مثل سعد المعروف بسعد القرقرة، والنعمان بن عمرو
بن رفاعة بن الحرث من بني النجار من يثرب.
المجون والخلاعة
في
كتابه "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام"، قال الدكتور جواد علي إن
الشبان كانوا يقدمون على سماع هذا النوع من القصص، أما من تقدمت بهم السن، فالجنس
يكون قد ابتعد عنهم وتركهم في الغالب، وقد يقدمون على سماعه وهم في أرذل العمر من
باب التذكر بأيام الزمان واستدعاء ذكريات الشباب، لتطرية العمر، والترويح عن كربة
التقدم في السن.
أشهر قُصّاص الجاهلية
قاص
الجاهلية هو أديب القوم. ذكر أنه كان من أصحاب المواهب والفطنة، وممن رزق موهبة
التأثير على القلوب بفضل قدرته على الكلام، وتخريج القصص وتنسيقها، وإظهار
الأدوار البارزة للأبطال، وعرضها بأسلوب مشّوق مرغب، تنسي السامع كل شيء إلا تتبع
الحكاية.
ولا
بد أن يُملّح القاص قصصه بإدخال شيء من الشعر فيها، لا سيما شعر الفرسان والحروب
والمغامرات.
ومن
أشهر القُصاص في العصر الجاهلي:
عدي بن زيد
قال
بطرس البستاني في كتابه "أدباء العرب في الجاهلية وصدر الإسلام"، إن عدي
كان شاعراً صاغ كثيراً من القصص في أشعاره، لا سيما شعره الذي قاله وهو سجين. فكان
ينظمها مسلياً نفسه متأسياً بما أصاب الشعوب، الخالية من تغير الأيام والليالي، أو
ينظمها ليعظ بها النعمان أبا قابوس، عارضاً عليه صور الملوك الذين أذلهم الدهر بعد
عزهم، فذهبوا ضحية الغفلة والغرور أو الخيانة والغدر.
النابغة الذبياني
اصطنع
القصص في أشعاره ليعظ بها قومه، أو ممدوحه النعمان أبا قابوس ملك الحيرة (قرب
الذبياني من النعمان دفع الشعراء الآخرين لإفساد العلاقة بينهما). فعندما أراد أن
يدعو النعمان إلى نبذ أقوال الوشاة، وأن يكون صادق النظر في الحكم عليه، قص عليه
أسطورة زرقاء اليمامة (شخصية عربية كانت ترى الشخص على مسيرة ثلاثة أيام، يضرب بها
المثل في بعد النظر ورجاحة العقل).
كذلك
أسطورة الحياة والأخوين، فكان هدفه أن يقول لقومه إن الثقة المتبادلة انقطعت بينه
وبينهم، كما انقطعت بين الحي وشقيق القتيل، بعدما أخذ الدية منها، وأقسم لها على
الوفاء ثم خانها وغدر بها.
سعد القرقرة
من
أهل هجر وكان نديماً للملك النعمان ملك الحيرة، قص عليه كثيراً من الحكايات
والنوادر المضحكة.
النضر بن الحارث بن علقمة
من
أذكياء قريش، وممن آذوا الرسول محمد وتحدوه وخاصموه، وكان يحدث قريشاً بأحاديث
رستم وإسفنديار، وما تعلم في بلاد فارس من أخبار. زعم أن القرآن من صنع محمد، وأن
باستطاعته أن يأتي بمثله، ونزل فيه ثماني آيات من القرآن، وأسُر يوم بدر، أمر
الرسول بضرب عنقه، فضرب علي بن أبي طالب عنقه، بين بدر ووداي الصفراء، بحسب ما ذكر
طقوش.
تميم بن أوس بن خارجة الداري
قال
طقوش إن تميم أدخل القصص الدينية، وكان نصرانياً لقي النبي، فقصّ عليه قصة
الجسّاسة (الدابة) والدجّال، وذُكر أنه أسلم سنة تسعة للهجرة. كان مقامه في الشام،
وهو أول من قصّ في الإسلام، فاستأذن عمر بن الخطاب أو عثمان بن أبي عفان، في أن
يُذّكر الناس في يوم الجمعة، فأذن له. وكان يقص في مسجد الرسول، ويبدو أنه خلط في
أحاديثه بين القصص النصرانية وبين الأساطير العربية، بوصفه كان نصرانياً يسمع
أقوال وعّاظ الكنائس، فتعلم منهم، وطبّق ما تعلمه في الإسلام.
الأسود بن سريع بن حمير
كان
قاصاً وشاعراً مشهوراً، وبعد الإسلام أصبح من الصحابة، وهو أول من قصّ في مسجد
البصرة. قيل إنه مات سنة 42 هـ، ولعله كان قبل إسلامه من النصارى أيضاً، كما ذكر
علي في كتابه.
عبيد بن شرية الجرهمي
قال
علي في كتابه إن عبيد استمر في قصصه حتى أيام معاوية بن أبي سفيان، وكان الخليفة
يحنّ إليه ويتلذذ بسماع قصصه عن الأخبار المتقدمة وملوك العرب والعجم، وسبب اختلاف
الألسنة، وأمر افتراق الناس في البلاد.
يقال
إنه عاش إلى أيام عبد الملك بن مروان، وإن معاوية أمر غلمانه بتدوين ما كان يقصه
وينسب إليه. وله من الكتب اثنان هما "الأمثال" و"الملوك وأخبار
الماضين".
محمد
شعبان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق