الخميس، 4 يوليو 2019

• الغول المنقذ عند الحاجة


التقيت الغول مبكرا ، كانت أمي تلجأ إليه كي يؤذيني - بالتحديد : كي يأكلني - كلما أحدثت شغبا أو أحدثت لها قلقا ، وكانت ليلة عاصفة ذات سحب ورعود عندما انشق بطن السماء في جلبة مشتعلة حتى كاد وهج نارها يلامس وجهي ، بعدها نزل الغول الأسود الضخم ، واخترق سقف البيت ليقف فوق رأسي.

كان أكبر قليلا من الغوريلا ، وأكثر وهجا من التنين ، وانحنى نحوي حتى أصابتني قشعريرة الموت ، ثم أمرني ألا أضايق أمي ، صرخت مرة أو مرتين ، فنهضت أمي من مخدعها لتنقذني، وكلما قلت في ارتجاف : الغول ، هشته بيدها في صراخ منزعج ، فطار إلى الجو مخترقا سقف البوص ثم رفعتني أمي من الفراش فوق صدرها ممتصة انزعاجي.
رأيت الغول في أوار الفرن أثناء ضجيج الخبيز ، ووراء شجرة الجميز حينما كانت أختي تحملني في الفجر لمستشفى المدينة البعيدة علاجا لعيني الرامدة ، وفي جب ساقية قديمة قتل فيها أحد أقاربنا ذوي البأس ، ثم بين غابات حقول الأذرة يطارد اللصوص والنجوم والثعالب والقمر والشياطين وأبا رجل مسلوخة والذين يدوسون على نعمة الخبز بأقدامهم. كان بيتنا على حافة بركة واسعة وسط الغيطان ، وكنت أقضي وقتا ألعب أمام الباب ، ولقد هالني آخر نهار شتوي أن أشاهده خارجا من المستنقع ماردا أسود ، وقد ارتكز على العكازة ذات الشعبتين التي يستعملها أبو رجل مسلوخة والذين يعانون من معوقات السيقان ، وكانت السماء قد اشتعلت نارا مروعة حينما ناديت على أمي ، وعلى أبي ، وعلى أي واحد عابر أو قريب دون جدوى ، بعدها اختفى الغول تاركا بقايا نيران على حافة غسق السماء ، وفي اليوم التالي جاء طبيب الوحدة المجمعة وكشف الغطاء عني ، ثم ظل يبحث في جسدي وتمتم : حمى الملاريا .
وقد زارني الغول مرات عديدة وأنا في الفراش ، وبرغم جهامته كان طيبا وأبدى لي أسفه لأنه لم يكن يقصد ذلك ، وأنه برئ ، وابتسم ، وبعدها اختفى طويلا ، لكني ظللت أياما أنتظره ، وأرسمه وسط الكراسات وعلى هوامش كتاب الحساب ثم فسخت التمائم والتعويذات التي وضعتها أمي تحت إبطي مكتوبة بالحبر الزفر وفوجئت بالغول مرسوما عليها كما ترسم رموز الدول على الأوراق النقدية.
ظللت مبهورا بالغول ، أحس أنه قابل لمصادقة المطيعين القادرين على أداء الصلاة وحل الواجب المدرسي ، وكنت شديد الثقة أنه يسعى وراء مهام ليس من السهل حصرها ، مثل إفساد ليلة الفرح على العروس والعريس ، إشعال النار في أكوام المزروعات الجافة المهيأة للدراس أو جميع كيزانها ، انقلاب الإناء المزمجر بلحم يوم السوق فوق الكانون ، غير أني كنت أعلم بأنه يحاذر الاقتراب من أسرة تتناول عشاءها ، أو من موقع موجود به المصحف الشريف ، لكني - وفي كل الحالات أصبحت شيطانا صغيرا شقيا مكللا بالترتيب الأول المتقدم دائما في جميع امتحانات المدرسة ومع الأيام كانت رغبتي العارمة في لقاء الغول قد خفت بعد إرهاق الحصص المتوالية للحساب والعلوم والإنجليزية ، والاملاء والمحادثة ، غير أني لمحته مرارا - بشكل واضح في عيني زكي أفندي مدرس اللغة الانجليزية ، كان دائم الارتداء للملابس السوداء ، قاسيا لا يعرف في الدنيا سوي إجادة التلميذ استيعاب المقرر من الدروس ومازالت خيزرانته تخترق آجام عظام ظلام سنوات العمر (حتى الآن) ورأيت الغول - أيضا - مرتديا ملابس مدرس العلوم الذي كان نادر الكلام لكنه يجلس متثائبا بجسده الضخم ، تاركا أمر التلاميذ حرا ، يرسب من يرسب وينجح من ينجح ، وكان الرسوب يداهم ثلاثة أرباع تلاميذ الفصل . ورأيته - الغول - يداهم ولدا سنة 1949 كان قد نجح في اختراع ماكينة غناء بالإمكانيات المحلية، ويوم عرضها على مدير التعليم في احتفال مهيب تساقطت الماكينة قطعا دون أن تعمل ، ورأيت الغول يحمل جسدا محترقا لشاب ذي صوت جميل قيل إنه كان طرفا في حكاية غرام مع فتاة قروية ذات شأن ، ورأيته ينام في حقل البرسيم وقد شجت رأسه هراوة ، وقد ظل الغول يتنفس يومها حتى آخر النهار ثم أخذ الجثمان وغاب في الأفق.
غير أن الأمور اتسعت بعد ذلك في علاقتي بالغول ، لم أعد أجده في ملامح المدرسين والقتلى والمنهوشة أجسادهم ، ذلك أن الراديو كان يفح طول النهار على أصوات مزمجرة للغيلان ، ثم ظهرت السينما وداهمنا من شاشتها أنواع من الغيلان المروعة القافزة المتقافزة ، بعدها كان التلفزيون الذي أضفى على الغيلان شاشته - مع الموسيقى المناسبة - بعدا خرافيا تنوء تحته كل تصورات الأمم البدائية.

ولا يزال الغول يختلق التصورات الجديدة المناسبة ، في الكواكب والأقمار الصناعية والتجارب الذرية ، بعدها ينساب شفافا مروعا في مياه الأنهار وأمواج البحار ، وبين وقت وآخر يصعد إلى عنان السماء فيثير التهكم والسخرية ورسامي الكاريكاتير . وإن كان ذلك لا يمنعه من زيارتي - بين وقت وآخر - ليعيدني طفلا مطاردا بين سحب السماء وغيوم الآفاق.
حيث لا تزال أمي تلجأ إليه حتى الآن.





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق