الثلاثاء، 10 سبتمبر 2019

• الببغاء فاضح الأسرار


همس في أذني صديق لا أرتاح إليه طالبا مني ألا أكتب عن الببغاء، أمعنت في عينيه فرفض أن يزيد، وفي الموسوعة العربية الميسرة لم أجد سوى أربعة سطور، مع أنها أفردت مساحة واسعة للطاووس، وفي كتاب الحيوان لكامل الدين الدميري انهمك في تسجيل شعر هابط يهنئ فيه صديق صديقا لاقتنائه ببغاء دون اهتمام بمعلومات ذات شأن عن الببغاء ذاتها.

ولقد كان الدميري كريما في وصف الحمام وأنواعه وفوائده، واتصلت بصديق يعمل في مجال ثقافي ويقتني ببغاء، طلبت منه معلومات عنها، فقال إنها تأكل السكر، وماذا عن تقليدها لأصوات البشر؟، فأجابني بأن هذا يحدث بالتلقين، سألته: كيف؟، فاعتذر عن عدم الإطالة في الكلام بسبب ارتباطات عاجلة.
كان الملوك - وذوو الشأن العالي - يقتنون الببغاء في قصورهم خلال الأحقاب القديمة، وفي القرون الوسطى كثرت الببغاوات وتوسعت اهتمامات الناس بها بسبب حركة الاكتشافات الجغرافية، وما ترتب عنها من اختراق الغابات الحارة، وامتلأت الأسواق بالببغاوات جنبا إلى جنب ازدهار تجارة العبيد، وحينما ترى الببغاء على أشجار الغابة، بمنقاره الغليظ المقوس، وألوانه الزاهية المتألقة وصوته الصارخ البدائي، فسوف تنتابك اهتزازات الدهشة، إنه يثير في النفس إحساسا غامرا بالوجود كله، ولعل الببغاء هو الذي صنع تلك القلاقل والاضطرابات على ظهر سفينة سيدنا نوح بسبب عدم انضباطه وضجيجه وتطفله العارم على الآخرين، ويقال إن وراء اقتناء القادرين للببغاء سرا يتعلق بما يحدث من جلبة وأصوات تفشي ما حدث في بيته خلال فترة غيابه، غير أن الأكثر إقناعا - وبالتأكيد - فإن اقتناء الببغاء في البيت يمنح صاحبه متعة كبرى : في تغذيته، ومناورته، ومداعبته، وتلقينه، إن من يردد ما نقوله من أقوالنا وأقاويلنا يستحق الاعتزاز به كما نعرف، لا سيما أنه الوحيد الذي يعيش حتى يصل عمره إلى مائة عام، ربما يكون النسر قادرا على ذلك أيضا
ومن الواضح أن الإنسان منا يسعد كثيرا حينما يجد في نوع من المخلوقات (صفة أو عادة آدمية)، أي هذا السلوك الذي يدهشه في القرد وفي الكلب وفي القط، وفي الببغاء، حتى أن علاجا قديما للتهتهة واللعثمة واضطراب النطق أو تأخره، يقضي بتناول لسان الببغاء المهروس بالثوم والمستكة - على ريق الصباح، لا شيء يمكن أن يصبح علاجا لعيوب وأمراض البشر إلا ما يوازيه من صفات وملكات الحيوانات، غير أن جيمس فريزر في (الغصن الذهبي) ينبه إلى احتشاد حكايات قبائل البوشمان الإفريقية البدائية بالخرتيت والطاووس والقرود والسباع والببغاوات، كما أن طير الببغاء يدخل مضمون أغنية تتوسل بها القبيلة للشجرة المباركة أن يفك الله عقدة لسانهم، وأن يمنحهم الزاهي والقشيب مما يسترون به أجسادهم، إنها الألوان الصارخة التي يتمتع بها الببغاء، كما أن أغنية أخرى - مثل أغنيات المهد - تنبه فيها الأم وليدها بألا ينزعج، فالصوت المتوحش القادم من السماء هو لببغاء طيب، والذي نحب أن نراه بأنواعه المختلفة والتي أشهرها الكندر - والدرة.
وينسب للببغاء مذهب الببغاوية، والذي يفسر تماسك الأنظمة كلما ارتفعت فيها نسبة هذا المذهب، فالببغاوية تنشط في نقل أشكال المؤسسات أو المصطلحات الثقافية دون إمعان، أي أنها - في جانب مواز - تعني نقل الكلام بصفته أصواتا دون الوقوف عند معناه، وفلسفته، أي تجنيب العقل جهد حمل المعاني إخلاء للمسئولية، وهو ما يسمى بالحياد المهني أو العقلي أو العصري المنتشر في المؤسسات العسكرية والإعلامية، والمدارس أيضا، وفي كثير من شئون الأديان يحملها المنتمون إليها دون تحليل، وهو ما ينهى عنه الدين الإسلامي الحنيف.
والعامة لا تنطق كلمة (الببغاء) بل تقول: البغبغان، وهي لفظة أكثر مناسبة من الببغاء للمعنى ولتكوين البغبغان في ترديد المقاطع والبغبغة بها دون إدراك لأي معني، تماما مثل كثير من المطربين، وناقلي الأخبار، وكبار الموظفين، وبطانة الحكام، والمستثقفين.
وعندما تتاح لك فرصة اقتناء بغبغان سوف تحس أنك شخص مميز، لا يهمك ما سوف يقوله البغبغان عنك للآخرين.





هناك تعليق واحد: