الأربعاء، 11 سبتمبر 2019

• القمح الحلم الإنساني المتألق في الحقول


القمح، ملك الحبوب، وذهب الحقول المتألق، وسيد المحاصيل الزراعية، وهو حصن للأمن الغذائي، وزاوية للارتكاز السياسي وللتعامل الدولي، والحاضر دائما في أفواهنا وأمعائنا وأمنياتنا في حساب الآخرة حينما تصبح حسناتنا مضاعفة كالسنبلة، وهو الوحيد من الحبوب الذي نفذ إلى الأغاني في ليلة عيده، ربنا يبارك ويزيده، فما سمعنا أغنية ترددت فيها ألفاظ الأذرة النيلية "العويجة" أو الشامية أو الأمريكية أو الشعير أو الأرز كما حدث للقمح، وهو أول محصول أثار معنى الاستراتيجية في التاريخ تفسير العلاقة الإمبراطورية الرومانية بمصر.

والموطن الأصلي للقمح أرض ما بين النهرين - دجلة والفرات - أي العراق، وشمال وادي النيل : مصر، وفي مصر بالذات تألق القمح حلما لفرعونها نصفه الأول سبع بقرات عجاف تلتهم سبعا سمانا، والنصف الثاني سبع سنابل يابسات تأكل سبع سنبلات خضر، مما يؤدي إلى خروج النبي يوسف من سجنه بصفته صاحب تفسير الحلم وليصبح مشرفا على مشروع السنوات السبع لمواجهة القحط المقبل، كما أن الأواني الكانوبية - التي كانت تحفظ في بعضها أحشاء الجثث المحنطة "المومياوات" في المقابر المصرية القديمة، حفظت - أيضا - حبوب القمح ضمن ما حفظته من أشياء يحبها الراحل صاحب المقبرة، وثمة تجربة جرت على بعض هذه الحبوب العتيقة لاختبار مدى استجابتها للنموبعد كل هذه القرون، وكانت النتيجة مدهشة.
ويمتزج القمح بعادات وتقاليد الناس أكثر من أية حبوب أخرى، ففي اتفاقات الزواج لا يزال جزءا من الأعباء التمهيدية للعريس، فمع الذهب والملابس والمهر يكون أردب القمح، ذلك لأنه هو الأصلح لعمل رغفان الولائم وبسكويت الفرح، وكثيرا ما كان أجر تعليمنا في الكتاتيب قدحا من القمح كل فترة، ودقيق القمح أكثر الأنواع حساسية في الحرام والحلال، فلا يصح أن يرتكب الإثم قريبا من أجولة الدقيق، كما أن غضب السماء مرهون بأية أدران تلوث العجين، والوالدة حديثا تبدأ خطوات حركتها المباركة فوق غربال به بذور القمح مشاركة مع الفول، وهو نفس الغربال الذي يصبح مهدا للوليد في الاحتفال به في الأسبوع الأول، وكثير من الأعمال الماكرة ذات الشر، والتي توضع سرا في طريق المطلوب إيذاؤهم من البشر (في شكل تمائم أو أحجبة) تفقد قدرتها على التأثير إذا ما كان المطلوب إيذاؤه مضمخا بالدقيق، ومسح أو تضميخ مقدمة رأس البهيمة بالدقيق إضافة إلى إلقاء حبوب القمح اللينة مع الملح في طريقها، طقس معروف - وقديم - كي تتفشى في البهيمة البركة، كما أن إناء اللبن الحليب الذي تفت فيه عجائن القمح المبثوث : تطهر الجسد من الشياطين والجوف من المرض، وسنابل القمح اليابسة تصاغ بشكل مجدول كالتاج لتوضع في مداخل البيوت، رمزا للخير والرضا الإلهي، وسوف تجد تيجانا صغيرة من سنابل خضراء تحت وسادة العرسان إشارة لاستجلاب العزيمة والبركة، ولعل وشم سنابل القمح فوق الأكتاف قريبا من الرقبة يشي بما للقمح من دوره الواضح في التفاؤل، وإن كانت جماعات بشرية كثيرة تجعل الوشم قريبا من الرسغ ممتدا إلى ظهر اليد، فالشيطان لا يجد الطريق سهلا لمن احتمى بالقمح : سنابل وحبوبا ودقيقا وعجينا وخبزا.
وأشهر أنواع القمح في الشرق الأوسط : الهندي، والأسترالي، والبلدي، والبوهيا، لكني لا أعرف مدى انطباق هذه الأسماء على أنواع القمح المذكورة في دوائر المعارف لأنها تتوقف عند الأسماء العلمية اللاتينية فقط : الفلجير ويعرف بقمح الخبز، والديورم المعروف بقمح المكرونة،والبيراميدل المعروف في مصر بالقمح البلدي، ثم كلام كثير عن خاصية كل نوع دون أن أنجح في ربطه بما نعرفه في ثقافتنا الشعبية حول القمح حيث يمتزج بحياتنا وسلوكنا وعاداتنا، مدخلا للوجاهة الاجتماعية، وزهوا بما نملكه منه، وتنويعا أصفر خلابا يهفهف رقيقا وسط الخضرة التي تلتف حوله لتحرسه وتشدومعه في السهول والحقول. والتعامل والشئون السياسية، وفي تلك الاحتفالات الجميلة التي تقيمها كثير من الأقطار تفاؤلا بموسم القمح : في النمسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا وفي كثير من القرى المصرية التي تربطه بموالد أولياء الله الصالحين.





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق