الخميس، 11 يونيو 2020

• فضل المسلمين على الطب


في الوقت الذي نقل فيه الغرب علوم المسلمين وعمل بها خلال خمسة قرون، استطاع المسلمون ترجمة ونقل العلوم اللاتينية والفارسية خلال قرن واحد. مع فرض السلطة الدينية الممثلة بالكنيسة سطوتها على العلماء ظل الغرب يرزح تحت نير العصور الوسطى ومع رفع هذه السطوة نهل الغربيون من العلوم الإسلامية وتمكنوا بعد خمسة قرون من البدء في مرحلة الإبداع الخاص.

فعلماء المسلمين جمعوا في الطب الأفكار المختلفة والمتفرقة من الحضارات المجاورة مثل الهندية والفارسية واليونانية والرومانية وغيرها، ووضعوها في بوتقة واحدة، وصهروا منها النظريات والأفكار باقتباس تراث فارس القديم وتراث اليونان المدرسي وهضمه، بل حولوا التراثين لحاجاتهم الخاصة وطرق تفكيرهم وأضافوا ما استطاعوا أن يستنبطوه، ثم تفردوا في البحث والابتكار في مختلف مجالات الطب. أما الترجمات التي قاموا بها فقد طبعتها العقلية الإسلامية بطابعها الخاص في الأجيال اللاحقة ثم اتصلت مع ما اتصل بأوربا من مبتكرات خاصة ما لبثت أن وضعت أساس الطب الحديث والتي بدأت في أوربا خلال عصور النهضة التي لحقت تلك الفترة الزمنية.
وعندما ابتدأت الفتوحات الإسلامية كانت حضارة الفرس والرومان في مرحلة الازدهار الأخيرة، وسرعان ما اندفع العرب إلى الانهماك بدراسة العلوم والفنون بنفس النشاط الذي قاموا فيه بالفتوحات. وما ان استتبت الأمور إلى الخلفاء حتى ابتدأوا يؤسسون المراكز المعنية بدراسة وترجمة العلوم المختلفة خاصة الإغريقية منها.
وسهل ذلك كون بعض المعارف اليونانية والرومانية كانت قد وصلت إلى فارس وسوريا قبل الفتوحات، وانتشرت هناك وابتدئ بترجمتها إلى العربية، وفي هذه المرحلة المبكرة من بناء الفكر الإسلامي كان لابد على المثقفين والمترجمين من معرفة تراث الإغريق والرومان، واتجهوا إلى الإبداع والتطوير والعطاء بحيث سبقوا الحضارات التي سبقتهم. فبعد فتح أي مدينة كان هم الفاتحين الفوري إنشاء جامع ومدرسة.
النقل والترجمة
ولاشك أن حركة الترجمة والنقل لا تقل أهمية عن الابتكار والاختراع فلو أن أبحاث أرسطو وجالينوس فقدت لكان العالم في افتقاره إليها بالوضع نفسه كما لو كانت غير موجودة أصلا.
ويقال إن كتاب علي بن العباس المعروف بـ (كامل الصناعة) كان من أول الكتب الإسلامية الطبية التي ترجمت إلى اللاتينية وقد كان لترجمته هذه مكانة بارزة في الجامعات الأوربية، إذ ظل مرجعا أساسيا للعلوم الطبية حتى أواسط القرن السادس عشر الميلادي.
وكان قسطنطين الإفريقي قد ترجم كتاب كامل الصناعة الطبية بين عامي 1070 ـ 1078 ونسبه لنفسه متأثرا بالمنهج الذي كان يتبعه علماء أوربا آنذاك، ولم يعرف الدارسون من ألفه إلا بعد أن ترجمه مرة ثانية إتيان الأنطاكي وذلك في أوائل القرن الثاني عشر الميلادي، ولهذا نرى أن معظم نظريات ابن عباس الأهوازي سبق أن نسبت إلى علماء أوربيين.
ومن الأطباء المسلمين الذين أثرت أعمالهم تأثيرا بالغا على الفكر الأوربي العلمي الرازي، الذي كان كتابه (الحاوي) من أعظم كتب الطب حتى نهاية العصور المتوسطة. وترجم في البدء على يد طبيب يهودي من صقلية يدعى فرج بن سالم بأمر من شارل الأول بعنوان Liber Dictus Elhavi وانتهى من ترجمته عام 1279م ولكن ذلك الكتاب لم ينشر حتى عام 1486م.
كما أن هناك ترجمة أخرى ظهرت في البندقية عام 1542 باسم Continens Rasis  ثم أخذ يطبع باستمرار حتى وجد منه في منتصف القرن السادس عشر خمس طبعات مختلفة. بالإضافة إلى طبع العديد من المقالات المفردة منه، لذلك كان تأثيره على الطب الأوربي كبيرا للغاية. وينظر الأوربيون إلى الرازي كونه أبا الطب السريري في العصور الوسطى، ومازال الغرب يعترف بفضله الكبير في الطب حيث اطلقت جامعة بريستون الأمريكية اسمه على أحد أفخم أجنحتها تقديرا له.
أما كتاب (الطب المنصوري) فهو أصغر من (الحاوي) ولكنه ذو قيمة كبيرة وترجم عدة مرات إلى اللاتينية وجاءت أولى طبعاته عام 1481م، ثم ترجم كتاب (الفصول) في الطب للرازي في عام 1489م، كما ترجم له العديد من الأعمال الأخرى إلى اللاتينية والعبرية والفرنسية ككتاب (الأقرباذين) وكتاب (تقسيم العلل) وكتاب (سر الأسرار) والكثير من الأبحاث ومقالاته المنفردة.
دور ابن سينا
ومن الأطباء الذين أثروا تأثيرا عميقا على الطب في العالم أجمع ابن سينا الذي كان مما ألفه كتاب (القانون في الطب) والذي يعتبر جامعا للمعلومات الطبية في ذلك العصر، حيث احتوى هذا الكتاب على معظم البحوث الطبية للأطباء الذين سبقوه. وترجم (القانون) في القرن الثاني عشر إلى اللاتينية عن طريق جيرارد الكريموني كما ترجمه أيضا إلى اللاتينية أندريا الباجوا في أوائل القرن السادس عشر بعد أن قضى أكثر من ثلاثين عاما في الشرق ووضع قاموسا للمصطلحات التي كان يستعملها ابن سينا نشر عام 1527م.
ومن شدة الطلب على هذا الكتاب تتابعت طبعاته في العديد من المدن الإيطالية والأوربية وحاز شهرة واسعة، وليس أدل على ذلك مثل احتفاظ جامعة باريس بصورتين كبيرتين في إحدى قاعاتها الكبرى لابن سينا والرازي حتى اليوم.
أما أبوالقاسم الزهراوي فعرف عند اللاتين باسم أبولكسيس ومن أهم كتبه (التصريف لمن عجز عن التأليف) بعنوان Medical Vade Mecum وهو كتاب ضخم يحتوي على 30 كتابا وتعد نسخة مدينة فيينا النمساوية التي تحمل الرقم 1458 من أكمل وأفضل النسخ لهذه المخطوطة، وصدرت الترجمة الأولى له عام 1519م وترجمها جيرارد الكريموني. ويعتبر هذا العمل الضخم من أهم ما وضع في أصول فن الجراحة بأوربا.
أما ابن الجزار العربي الذي كتب (زاد المسافر) الذي نقله إلى اللاتينية قسطنطين الإفريقي باسم Viaticum، وكان معروفا بين أطباء القرون الوسطى لأنه يحوي معلومات جيدة جدا عن الأمراض الباطنية، ولكنه انتحله وعزاه لنفسه ولم يذكر اسم مؤلفه الحقيقي.
ويشار إلى أن مهنة الطب كانت مربحة في ذلك الوقت، فيذكر ـ على سبيل المثال ـ أن جبريل بن بختيشوع ـ طبيب البلاط عند الرشيد والمأمون ـ كانت ثروته تبلغ ثمانية وثمانين مليونا وثمانمائةدرهم. وكان يتقاضى بصفته طبيبا خاصا للرشيد راتبا قدره مائة ألف درهم، وذلك لفصده مرتين في السنة. وكان يأخذ مثل ذلك المبلغ لإعطائه المسهل مرتين في السنة.
رعاية صحية
وخطا العرب خطوات واسعة في استعمال العقاقير للتداوي. فهم أول من أنشأ حوانيت خاصة لبيع الأدوية وأقدم من أسس مدرسة للصيدلة بل هم أول من وضع كتب الأدوية (الأقرباذين) كما ألفوا العديد من الرسائل في الصيدلة كان من أولها ما وضعه جابر بن حيان أبو الكيمياء المشهور الذي نبغ حوالي عام 776م.
وكان يفرض على الصيادلة منذ عهد المأمون والمعتصم أن يجتازوا امتحانا خاصا، وكذلك الأطباء مما يظهر اهتمام أولياء الأمر بالصحة العامة وهو أمر لم يكن معروفا في سائر العالم آنذاك. كما ساعد أطباء العرب والمسلمين في ذلك الوقت على تطوير خبرتهم وفنهم توافر المستشفيات في المدن المزدهرة والتي كانت تخضع لنظام دقيق قسم العيادات إلى داخلية وخارجية حسب نوع المرض، مما أدى إلى تفوق الطبيب المسلم في القرون الوسطى في جميع مجالات الطب بالمقارنة مع زميله في أنحاء الأرض الأخرى، وكان مما يميزهم أيضا عن غيرهم أنهم لم يكونوا يفرقون بين المواطنين غنيهم عن فقيرهم.
وأول مستشفى عام تم إنشاؤه في الدولة الإسلامية كان على يد الخليفة الأموي الوليد بن عبدالملك بمدينة دمشق عام 706م وزوده بالطعام والأدوية والملابس، وعمّره بالأطباء والصيادلة، ثم أنشأ هارون الرشيد البيمارستان الكبير الذي كان أول مستشفى في بغداد مطلع القرن التاسع.ولم يمر على ذلك الكثير من الوقت حتى ظهرت في العالم الإسلامي مستشفيات أخرى بلغ عددها أربعة وثلاثين مستشفى منها أول مستشفى في القاهرة الذي أنشأه ابن طولون نحو سنة 872 م، أما المستوصفات المتنقلة فقد ظهرت أولا في القرن الحادي عشر. ويشار إلى أنه كان للمستشفيات الإسلامية أجنحة خاصة للنساء ولكل مستشفى صيدلية ملحقة به، وكان للمستشفى مكتبة طبية خاصة به يتم فيها إقامة دروس طبية للطلاب.
علم التغذية
لقد اهتم الأطباء المسلمون بظاهرة اتزان المركبات الكيميائية في جسم الإنسان، لذا نرى جابر بن حيان يحاول أن ينصح العامة بالحفاظ على صحتهم من خلال تعادل المواد الغذائية في الوجبات اليومية حتى يتمكنوا من تحصين أنفسهم ضد الأمراض الفتاكة مثل (البرص) أو (الجذام) والحصول على عمر أطول.
كما قام أبو العلاء بن زهر والذي ولد في أشبيلية سنة 486 هـ بدراسة مفصلة عن مرض (السرطان في المعدة والبلعوم) ولاتزال أبحاثه هذه مثيرة للدهشة حتى وقتنا الحالي حيث طور طريقة التغذية عن طريق الحقن الشرجية وهو أول من اكتشف خراج البلعوم والتهاب الناسور وتكلم عن البواسير بشكل مفصل.
وكان أبوالحسن الطبري الذي ألف كتابه الشهير (فردوس الحكمة) أول من ذكر أن السل هو مرض ينتقل بالعدوى وأنه لا يصيب الرئتين فقط بل الأعضاء الأخرى، أما ورم الكلية الخبيث الذي يطلق عليه أحيانا (ورم برايت) نسبة إلى الطبيب ريتشارد برايت الذي كتب عنه في القرن الثامن عشر ميلادي، فقد ذكره بتفصيل بالغ الطبيب المسلم نجيب الدين السمرقندي قبل عدة قرون سابقة لذلك.
طب العيون
ويعتبر طب العيون من ابتداع المسلمين فقد بلغ هذا العلم ذروته بجهودهم وظلت أبحاثهم فيه الحجر الأساس له خلال عصور طويلة،و استمرت مؤلفاتهم في ذلك تدرس في أوربا باعتبارها الكلمة الأخيرة في معظم جامعات الطب الأوربية، كما كانت لهم اكتشافات عظيمة الشأن في هذا المجال فشرحوا عيون الحيوان تشريحاً فسيولوجيا وعرفوا السبب في حركة مقلة العين.
وتمت ترجمة كتاب ابن زهر المسمى (المجريات في الطب) إلى اللاتينية بعنوان Panvicius أما ابن الهيثم فقد شرح في مقالته الشهيرة (جوهر البصر وكيفية وقوع الإبصار) المبدأ الفيزيائي لعملية الرؤية وثبت نظرية الإبصار ونفى الآراء الضعيفة وبقيت نظريته مأخوذا بها حتى جاء كبلر 1571 ـ 1630م الذي أضاف إليها بعض المعلومات المتممة، ومما كتبه ابن الهيثم أن (الجسم البللوري هو المبصر وأن الشعاع يتجمع بالبلورة ويقع على الشبكية وتكون الصورة معكوسة).
وفي مجالات طب العيون كانت مؤلفات الكحال علي بن عيسى البغدادي المعروف لدى اللاتينيين باسم جيزو هاللي (Jesu Haly) من الأعمال العظيمة (والمهمة) في طب العيون وبقيت أعماله المترجمة مرجعا رئيسيا في طب العيون حتى القرن الثامن عشر، كذلك لعبت ترجمات الطبيب عمار الموصلي المعروف عند اللاتينيين باسم كانا الموصلي دورا مميزا في طب العيون بشكل عام.
أمراض القلب
تعمق علماء المسلمين الأوائل في دراسة أمراض القلب والدورة الدموية، ومن أشهر من ألف في ذلك المجال ابن النفيس الذي خالف نظريات جالينوس التي كانت سائدة آنذاك واكتشف لأول مرة الدورة الدموية الصغرى، فأشار إلى أن (حركة الدم ليست حركة مد وجزر كما كان سائدا سابقا وإنما اتجاه الدم ثابت، يمر في تجويف القلب الأيمن إلى الرئة حيث يخالط الهواء ثم يعود من الرئة عن طريق الوريد الرئوي إلى التجويف الأيسر للقلب).
وبالرغم من أن الكثيرين اعتقدوا سابقا أن العالم ميخائيل سرفيتوس Michael Servetus  الإسباني الأصل الذي عاش في القرن السادس عشر هو مكتشف الدورة الدموية الصغرى (الدورة الرئوية) نرى اليوم وبما لا يقبل الشك أن سرفيتوس وهارفي وقفا على نظريات ابن النفيس في كتبه المترجمة إلى اللاتينية، بحيث يكون ابن النفيس قد سبقهم بهذا الاكتشاف بحوالي ثلاثة قرون كاملة، وبقي نتاجه العلمي مطروحا في المكتبات مئات السنين لم يع خلالها العلماء قيمة عمله وإنتاجه إلا في أواخرها.
الطب الجراحي
ومما ليس له مجال من الشك فإن الأطباء المسلمين هم أول من أرسى قواعد الطب الجراحي وجعلوا له أصولا وقواعد ثابتة. وكانت مدارس الأندلس الطبية هي الوحيدة في أوربا التي تخرج أطباء مؤهلين بالجراحة، وكانوا يستخدمون المخدرات كالحشيش والأفيون والزوان وست الحسن (هيوسامين) كما اخترعوا الإسفنجة المخدرة، وكانت توضع هذه الإسفنجة المخدرة في عصير الحشيش والأفيون والزوان وست الحسن ثم تجفف في الشمس ولدى الاستعمال ثانية ترطب ثانية وتوضع على أنف المريض فتمتص الأنسجة المخاطية المواد المخدرة ويركن المريض إلى نوم عميق يحرره من أوجاعه أثناء العملية الجراحية.
واستعانوا بالخيوط المصنوعة من أمعاء الحيوان في خياطة الجروح ولكي ينظفوا مكان الجراحة كانوا يلجأون إلى الخمر لتطهير مكان الجرح وكان الأطباء المسلمون وخاصة الزهراوي أول من طور الآلات الجراحية وصنفوها حسب الحاجة إليها، فمنها ما يتم صنعه من الحديد، ومنها ما يصنع من الذهب أو النحاس، وطوروا طريقة الكي في العمل الجراحي بشكل مشابه لما نستعمله اليوم واستخدموا قبل غيرهم أنبوب المعدة لإجراء عملية تطهيرها في حالات التسمم، وكانوا يعرفون تمام المعرفة أن بعض الأمراض تنتقل بالعدوى مثل الجدري والكوليرا والطاعون، كما أنهم أول من وضع الامتحانات الطبية للأطباء ومنحهم شهادة تحت إشراف لجنة متخصصة تعينها الحكومة.
وكانت أوائل مدارس الطب في العالم الإسلامي أنشئت في العصر العباسي مع عصر أبي جعفر المنصور وانتهجت هذه المدارس منهجين: الأول نظري يحتوي على دراسة الأمراض وكيفية علاجها، والثاني عملي يشمل تدريب الطلاب قبل التخرج على طرق الفحص ووصف العلاج تحت إشراف أحد الأطباء في المستشفى، وإذا قضى الطالب المدة المطلوبة امتحن، فإذا نجح نال الشهادة وصار يزاول مهنة الطب تحت رقابة الدولة.
وفي الختام، يسهل علينا بعد هذا المقال والعرض الإشارة إلى أمجاد أجدادنا في بناء وتطوير الحضارة الطبية العالمية، فبعد أن أثبتت الدراسات في جميع أنحاء العالم أن دور المسلمين لم يكن يقتصر على مجرد حفظ ونقل حضارات سابقة كما الإغريقية والرومانية فحسب، بل ساهموا بشكل جدي وكبير في تجديد وتطوير العلوم الطبية وخلق الكثير من الجديد فيها.
المصدر: 1

إقرأ أيضاً
للمزيد              
أيضاً وأيضاً



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق