الرجل لا يعيبه سوى جيبه، وهو مثل شعبي عربي وإن بدا
مصرياً، حيث تجد صياغة له في الشام والمغرب والخليج العربي والسودان: خاضعة لنفس
المعنى الذي وضع القدرة الاقتصادية في الموقع المؤثر الأول والأخير، وهي مبالغة كما
تعودنا في الأمثال الشعبية تقع في موقع التناقض مع عناصر عديدة أخرى أخلاقية
وبدنية وعقلية تجعل الجيب يتراجع عن قوته وتأثيره:
مع أننا كثيرا ما نؤيد الجيب من واقع التجارب التي
نقوم بها نحن والآخرون، ومأساة قيس بن ذريح الذي عشق لبنى بنت الحباب، وتزوجها رغم
ندرة الذين يتزوجون من حبيباتهم في كل العصور، إلا أن والديه ظلا يضغطان عليه حتى
طلقها دون أن يكون لجيب قيس دخل في ذلك، وقد سبقتها كارثة قيس بن الملوح: مجنون
ليلى بنت المهدي حبيبته التي اخترقت روحه لتنصهر شعراً وشوقاً وشجنا وحكايات
وروايات وأفلام سينما ثم تلفزيون مع عدد من النصوص المسرحية عبر الزمان الغابر
والحديث، إلا أن قيس صمم أن يظل عاشقا ينسل إلى بيت حبيبته دون اهتمام جاد بتزوجها
مما جعل حكايتهما تتحرك فوق كل الألسنة عبر الصحراوات حتى ذهب عقله وهام على وجهه
إلى أن مات، هل قام الجيب أي القوة الاقتصادية بتعويق قيس كي يكون له أسرة؟ لاحظ
أني متأكد أنك لو حللت لقيس هذا كل المتشابكات، وأزلت له كل العوائق: لما استطعت
أن تنقذه من جيب الجُبّ العاطفي الذي سقط فيه، والجبّ هو البئر ولا دخل له بالجيب
إلا في الصدى الصوتي، أما ما ورد في الأثر عن شق الجيوب حزنا وانفعالا فإن المقصود
بهذه الجيوب: الفتحات التي ندخل فيها رءوسنا ورقابنا كي نرتدي القمصان والجلابيب،
ومن المؤكد أن الجيب الذي نقصده دون إدخال الرءوس والرقاب: يتنوع ويختلف من ملبس
لآخر، ومن دولة لأخرى، وبين القوميات المتعددة في الوطن الواحد، إذ لا يزال مثلا الجيب
السفلي الطويل في الجانب الأيمن من الجلباب دون الجانب الأيسر، وفي أعلى يمين
الصدر سوف تجد جيبا صغيرا طوليا يصعب اختراقه إلا بأصابع صاحبه: جيب الساعة، ومع
الساعة الدائرية المصنوعة كما هو معروف كي تنزلق في هذا الجيب العلوي: يمكن أن تضع
بعض النقود، ومن الغريب أن الجيب السفلي كان يسمى "السيالة"، وقد حاولت
العثور على هذه السيالة في المعاجم دون جدوى، غير أني لم ألبث أن وجدت كوبري أو
قنطرة السيالة التي تربط مدينة القاهرة بحي الروضة والمنيل غرباً، والسيالة هنا
تعني الانسياب في الحركة والتعامل، لذا فقد أصبح الجيب السفلي في الجلباب العربي:
سيّالة.
وبالطبع:
لن تستدرجنا علوم الهندسة لنثبت لكم أننا نعرف الكثير عن جيب الزاوية، لأن الأخطر
من ذلك هو الجيوب الأنفية "انفاق الأنف" التي تلتهب احمرارا بتأثير
أمراض البرد والانفلونزا، كما أنها هذه الجيوب الأنفية: أكثر الأعضاء الحية حتى لو
لم تكن عضواً كاملا تصادما مع الزوجة والجيران وضباط الشرطة واللصوص والمدرسين
والملاكمين دون استبعاد ما يحدث بين الحين والآخر لجيوب أنوف المجالس النيابية:
آخرها كان في تركيا فيما أعتقد، ثم أنوف الخراف "الكباش أفضل"، ثم
الجيوب الأنفية لقردة الجيبون: أصغر القردة العليا الشبيهة بالإنسان، ذات جسم رشيق
وذراعين طويلتين تمتدان بمجرد التصارع إلى جيوب الأنف، وما كدنا نقع ونحن نسير على
حافة الجيوب على الجيبون حتى ظهر لنا ادوارد جيبون المؤرخ الإنجليزي ذو الطفولة
السقيم، لم يدرس دراسة منظمة لكنه كان شديد النهم في القراءة، وقد قام بكتابة
مجلدات أخطر ما ظهر في القرن الثامن عشر "قيام الإمبراطورية الرومانية
وسقوطها" في ستة مجلدات، وحظي بالمجد دون اهتمام بشكل جيبون غير الوسيم
والمثير للسخرية.
وقد
وقع الجيب في إشكالية عصرية حينما ظل هو الموروث منذ عصور ما قبل التاريخ، في جميع
أنواع تشكيلات الملابس: حتى الآن، إلا أن السيارة الجيب اقتحمت الجيوب العصرية
لتستولي على اهتمام معروف، مع أن اطلاق الجيب عليها يرجع إلى مصممها الذي اهتم
بنوع من السيارات القادر على اجتياب الصحاري، والمناطق الممتدة خارج الكثافة
السكانية، لكننا استبعدنا "جيب" المصمم، أو "جيب" النموذج،
لتصبح السيارة لسهولتها خفيفة كأننا سوف نضعها في جيبنا، إن هذا مريح لنا على أي
حال، لكنه قد يؤدي بنا إلى التعرض لكلمة "جب" وهي الاسم المقدس للأرض
عند قدماء المصريين وجب مصوغ داخل اللفظ اللاتيني الحديث "ايجبت"، وقد
تخيلوها هذه الأرض في هيئة رجل مستلق في غير استواء، لاحظ أن ثمة تمثالا يخضع لهذه
الصفات في أوربا يطلقون عليه "النيل"، أما هاملتون جيب فهو مستشرق
إنجليزي وكان أستاذا للغة العربية بجامعة أكسفورد البريطانية، كما أنه كان عضوا
بمجمع اللغة العربية، وعلينا الآن أن نغلق الجيوب التي قد تنفتح دون أن ندري ويسيل
منها ما عرفناه عنها.
المصدر:
1
إقرأ أيضًا
للمزيد
أيضاً وأيضاً
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق