الخميس، 31 مارس 2022

• تقدُّم الأمم بين التعليم والعرقية الأخلاقية


التعليم والأخلاق 

في عام 1899 ترجم أحمد فتحي زغلول باشا، وكيل وزارة الحقانية (العدل) المصرية، كتاب المفكر الفرنسي، إدمون ديمولان، الذي كان قد أصدره قبل سنتين بعنوان «سِر تقدم الإنكليز السكسونيين». وفي عام 1913 ترجم كتابًا فرنسيًّا ثانيًا لمفكر آخر هو غوستاف لوبون، بعنوان «سرّ تطوّر الأمم».  بين هذين السرّين أو الكتابين المختلفين كان يمكن أن يجري نقاش عربي حول أسباب تقدُّم أمم وتعثُّر أخرى.

لا شك في أن الاهتمام بالكتابين كان واجبًا لأنهما حاولا - كل حسب منهجه - أن يقدّم تفسيرًا لتخلف العرب في نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين، مقارنة بأوربا، وهو الموضوع الذي أخذ منهم الكثير من النقاش منذ بدء الاحتكاك والتفاعل إيجابًا وسلبًا بين العرب وأوربا وتفوّق الأخيرة فكريًّا وماديًّا/ عسكريًّا، والتوجس مما ستؤول إليه سياساتها الاستعمارية في الشرق؛ لا بل كان من المفترض أن يهتم المثقفون العرب بالكتابين، لأنهما حاولا أن يفسّرا سر تفوّق بلد أوربي على آخر، إضافة إلى البلدان الأخرى، وهو أمر ما دار بخلدهم حتى تلك الساعة، بل يبدو أن النقاش العربي في هذا المجال كان غائبًا فيما عدا بعض التعليقات البسيطة على الكتاب الأول.
مهما يكن، من المناسب عرض أفكار الكتابين ونقاط تلاقيهما و/أو اختلافهما.
في الكتاب الأول يدعو ديمولان الفرنسيين وغيرهم من الشعوب، إلى الاقتداء بالإنجليز الذين لا يأنفون العمل اليدوي الذي هو سر ازدهارهم.
وقد دار الكتاب حول فكرة رئيسية اعتبرت أن التعليم ومناهجه هو الذي يهيئ شعبًا ما ليكون أكثر استعدادًا للمساهمة في تقدم أمته، والاستعداد هنا يعني القدرة على المساهمة في زيادة ثروة الوطن وقوته وتنويع مصادره.
ومع أن ديمولان فرنسي، إلّا أنه كان يرى أن الجيل الفرنسي الشاب يعتمد على الوظيفة الحكومية، بينما يعتمد الجيل الإنجليزي الشاب عمومًا على نفسه وعلى العمل المستقل في المشروعات الزراعية والصناعية والتجارية التي تجعله قادرًا على المساهمة أكثر في بناء وطنه وتقويته.
وهو يفسر رأيه هذا بالقول:
«إذا سألت مئة شاب فرنسي عقب تخرّجهم: أي صنعة يريدون أن يشتغلوا بها؟ أجابك ثلاثة أرباعهم بأنهم يتطلعون إلى التوظف في الحكومة، فأغلبهم يطمع في الانتظام بالجندية أو القضاء أو النظارات (الوزارات) أو المديريات أو المالية أو السفارات أو المصالح الأخرى، كمصلحة القناطر والجسور والمعادن والدخان والمياه والغابات والمعارف والمكاتب العمومية ودور المحفوظات وغيرها. ولا يميل إلى الصنائع الحرّة في العادة منهم، إلا الذين لم يتمكنوا من الالتحاق بالمصالح الأميرية».

حالة مختلفة
أما إذا أخذنا الحالة الإنجليزية، فهي مختلفة برأيه، إذ «يجتهد الإنجليز أكثر منّا (الفرنسيين) في إصلاح تربية شبانهم على الدوام، مع أن التربية الإنجليزية توافق حالة الحياة الحاضرة أكثر من تربيتنا والنجاح فيها عندهم أكثر من النجاح عندنا، لذلك ترى فيهم رجالًا أكبر همة وأقدر في الاعتماد على أنفسهم، وهم متقدمون علينا في التماشي مع تقلبات العصر الجديدة، فيشعرون أكثر منا بوجوب الاستعداد لما تقتضيه. وهي تقتضي على الخصوص تربية شبان قادرين على الارتزاق بأنفسهم مهما صعبت متاعب الحياة وتنوعت ظروفها. ومن أجل هذا منهم رجال ذوو عمل وعزيمة لا موظفون أو أدبيون لا يعرفون من الحياة إلا ما تعلموه من الكتاب، وهو في الواقع شيء يسير. أما الثمرة التي يطلبها الإنجليز فإنها توافق كل الموافقة ظروف التقلبات الاجتماعية في عصرنا هذا. وتلك الثمرة هي الرجال».
ويستطرد المؤلف بالقول إن القسم الأكبر من الإنجليز ذوي النشأة الاستقلالية ميّالٌ بطبعه إلى الصنائع والحرف، بسبب احتياج الشباب إلى تحصيل رزقهم بأنفسهم من دون الالتفات إلى ثروة آبائهم أو انتظار مهور نسائهم بما أودع الله فيهم منذ طفولتهم من محبة العمل والإقدام عليه، فالسرّ يكمن في التربية الاستقلالية وأثرها على شباب الإنجليز التي تساعد على التزاحم في الحياة.
من ناحية أخرى، لم يعتبر ديمولان أن ألمانيا الجرمانية، التي كانت تسير بخطى حثيثة في التطور الاقتصادي وقتها، قد تسبق إنجلترا السكسونية لأسباب عدة، أهمها أن الأولى، وإن كانت لديها عناصر قوة، فإنها تجمع هذه العناصر التي تكونت بالتدريج تحت ظل رجل واحد، غير أن اجتماع القوى الحية في الأمة في يد واحدة يؤدي مع الزمن إلى ضعفها كلها وتعطيل منفعتها، فتنحل وتصير عقيمة، وحينئذ يستولي الدمار والانحطاط عليها.

اهتمام غير كاف
لم يهتم المثقفون العرب بدرجة كافية بهذا الكتاب، كما ذكرنا سابقًا، حيث لم تجرِ مناقشة جدية لما ورد فيه، إلا أنه تمت ترجمة ونشر كتاب مختلف لمؤلف فرنسي آخر هو ألفونس أسكيروس بعنوان «التربية الاستقلالية» الذي وُصف بـ «إميل القرن التاسع عشر»، أي قيل إنه كانت له نفس مكانة كتاب الفيلسوف الثوري جان جاك روسو، المعروف بـ «إميل» في القرن الثامن عشر، والذي شمل نصائح لتعليم الشبان والشابات في القرن الذي شهد الثورة الفرنسية عام 1789. وقد نُشر ذلك الكتاب مسلسلًا في مجلة المنار الإسلامية لصاحبها الشيخ رشيد رضا أولًا، ثم ككتاب مستقل بترجمة عبدالعزيز محمد بك في عدة طبعات لاحقًا. 
وأعتقد مع ذلك أن كتاب ديمولان لم يحُز الاهتمام الكافي ربما لأن المتعلمين العرب على قلة نسبتهم العددية من المجموع السكاني آنذاك، وعلى قلة رأس المال المتوافر لديهم لبناء مهنة يدوية محترمة، كانوا يعتبرون الوظيفة الحكومية رمزًا للمكانة الاجتماعية التي لا يعلو عليها إلا مكانة الوجهاء الأثرياء أصحاب الأراضي الزراعية الكبيرة.
من هنا أتى القول المصري الشائع آنذاك: «لو فاتك الميري (الوظيفة الحكومية) اتمرّغ في ترابه». ولهذا كتب المترجم في مقدمة الكتاب، داعيًا إلى عدم الاتّكال على الحكومة، بل الاعتماد على الكفاءة التي هي نتيجة التربية الاستقلالية، لأننا: «ضعفنا حتى بتنا نرجو كل شيء من الحكومة، فهي التي نطالبها بحفظ حياتنا وخصب أرضنا وترويج تجارتنا وتحسين صناعتنا، وهي التي نطلب منها أن تربي الأبناء وتعلّم الفقراء وترزق العجزة وتنفي أسباب البطالة وتحفظ الأخلاق... هي التي نطالبها بتعويض ما نقص من إرادتنا وتقويم ما اعوجّ من سيرنا... فإذا تأخرنا في عمل من الأعمال بإهمالنا ألقينا عليها تبعة خمولنا كلها».

سر آخر لتطور الأمم
أما غوستاف لوبون الذي احتفل المثقفون العرب في القرن الماضي أيما احتفال بكتابه «حضارة العرب»، الذي ترجمه عادل زعيتر عام 1945، فإن كتابه الأقدم وشبه المغمور «سر تطور الأمم» يتحدث عن التفاوت العرقي، لكنه يمزجه بالأخلاق والمزاج، ويقول: إن العرق يدلُّ على جماعات بشرية ذات أخلاق مشتركة تنتقل إليها بالوراثة المنتظمة. ويتطلب كسب تلك الأخلاق والأمزجة زمنًا طويلًا جدًا، والصفات المورثة إذا كانت لا تستقر إلا ببطء، فإنها لا تزول إلا ببطء. ولكي يكون للبيئات والتوالد أبلغ الأثر في تكوين العرق، يجب أن يتوالى التطور ويتراكم بفعل الوراثة المتتابعة قرونًا طويلة. مع ذلك، عندما نتمعن في كلام لوبون، فإننا نجده يمزج العرق بصيغته التقليدية مع الأخلاق. وبالتالي، فإن «العرقية» غير غائبة تمامًا عن تفكيره، وإن لم تكن مطلقة. أي إن بيت الشعر العربي «إنّما الأممُ الأخلاقُ ما بقيت... فإن هُمُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا»، لا يكفي لتفسير موقف لوبون من سر تقدُّم الأمم. إلا أن لوبون يبدو كأنه يتحدث عن أهمية الأخلاق أو الأمزجة في تقسيم العروق. وهو يعارض الكثير من المفكرين أمثال الفرنسي ألكسس توكفيل؛ الذين يعتقدون أن أنظمة وبرامج الأمم (السياسية والتربوية والاقتصادية... إلخ) أصل في تطورها، بل إن تأثير هذه الأنظمة ضعيف جدًا، وهي في الغالب مسببات وقلّما تكون أسبابًا.
إلا أن لوبون يضيف: «تختلف الأخلاق باختلاف العروق، ونفسر بهذا الاختلاف السبب في أن النظم المتشابهة تأتي بنتائج مختلفة عند إدخالها إلى أمم مختلفة، ونفسر به مثلاً علة الفوضى السائدة في جمهوريات أمريكا (الجنوبية) الإسبانية البائسة، وما تتمتع به جمهورية الولايات المتحدة من السعادة والرخاء مع تماثُل نظم هذه البلاد وتلك». ويعني ذلك - في رأينا - أنه يؤمن بأولوية العرق، وإن كان يجعل للأخلاق الموقع الثاني بعده.

إصرار على اللامساواة
يرفض لوبون، عن حق، في كتابيه «سر تطور الأمم» و«فلسفة التاريخ» التفسيرات التي تركز على سبب واحد لتقدم أو تأخر الشعوب، سواء كانت جغرافية أو اقتصادية أو غيرها، وأن تعزى الحوادث التاريخية إلى علة واحدة، كما يعتقد أنصار التبسيط العقائدي، بل يمكن القول إن العوامل التاريخية تؤثر تأثيرًا مختلفًا على عروق متباينة كالبيض والسود.
 بالنسبة إليه، يتكون تاريخ الأمم من عناصر شتى، ومن تلك العناصر كثير من الحوادث الفردية والاتفاقات والعوارض التي كانت والتي كان يجوز ألّا تكون، إلّا أن هناك غير هذه الحوادث العرضية نواميس كلية ثابتة تسير المدينة في كل أمة بمقتضاها، وأهم هذه النواميس وأثبتها هو المزاج العقلي. وما حياة الأمم، أي أنظمتها ومعتقداتها وفنونها إلّا اللحمة الظاهرة من نسيج روحها. ولا يتسنى لأمة أن تغيّر أنظمتها أو معتقداتها أو فنونها إلا إذا غيّرت روحها.
 ويعتقد المؤلف أن كل عرق ينطوي على مزايا ونقائص لا يغيّرها الزمن أو التربية، ولا تتحول نُظم الأمة ولغتها وفنونها إلا بتطور بطيء، حتى تلائم مزاج الأمة النفسي الموروث الذي يتقبلها.
من هنا يعترض لوبون على مذهب «المساواة» ولا يقبل به على الإطلاق، ويقول إن الهوّة التي أوجدها الزمان في عقول الأفراد والشعوب لا تزول إلا بتراكم المؤثرات جيلًا بعد جيل، وقد دلّ علم النفس، كما أثبتت التجارب، على أن النظم التربوية التي تليق بأفراد أو بأمة قد تضر بأفراد آخرين أو أمة أخرى. كذلك يرفض لوبون أيضًا مبدأ مساواة المرأة بالرجل في الحقوق وفي التربية. وهو يعزو المطالبة بذلك إلى الخطأ الذي نسي ما بين النوعين من «الفروق العظيمة» في القوة العاقلة و«المرأة إذا فازت بطلبها جعلت الأوربي رجلًا من الرجال لا يعرف له بيتًا يأويه ولا عائلة يسكن إليها».

تفاوت متزايد
من الطبيعي إذن ألّا يؤمن لوبون بالديمقراطية، بل بحكم النخب فـ «الفروق الدماغية» تسير نحو تفاوت متزايد، على الرغم من فوز المبادئ الديمقراطية ظاهريًّا، لذلك يعتقد أن غزوات البرابرة المسلحة لم تكن هي التي قضت على عظمة روما، بل امتزاجات الشعب الروماني الطويلة بالأجانب. فلقد أدت هذه الامتزاجات إلى ضياع الروح القومية لدى الرومان. 
من هنا، فإن ديمولان، وإن كان لا يؤيد النظرة العرقية العنصرية التي كانت عند أمثال آرنست رينان، إلا أن هناك مجالًا للشك في أنه كان يقف موقفًا وسطًا بين التراتبية القائمة على العرق والتراتبية القائمة على المزاج والأخلاق القومية. فهو يؤيد «النقاء الجنسي» معارضًا الاختلاط بين الأجناس الذي «يفقد الجنس الأعلى ثقافيًّا روحه»، كما يقول.
ويضيف أن الملاحظة تدل على أنه يمكن أن تقسّم الأمم إلى عروق ابتدائية ودنيا ووسطى وعالية. أما العروق الابتدائية فقريبة من حيوانية الأجداد الأولين، وليس لها أثر ثقافي يُذكر.
أما العروق الدنيا، ومنها الزنوج والهنود الحمر، فتستطيع أن تنتفع بشيء ابتدائي من الحضارة، لكن من غير الصعود عاليًا. وفوق العروق السابقة يجيء صفر آسيا، لا سيما الصينيين الذين وصلوا إلى أطوار رفيعة من التمدن جاوزتها الأمم الهندية الأوربية، ومن هؤلاء الآخرين تتألف العروق العليا.
    
مزاج عقلي 
وهو يستعيد بشكل غير مباشر شيئًا مما كان ديمولان قد وصفه في كتابه «سر تقدّم الإنجليز السكسونيين»، حيث يذكر في كتابه اللاحق «فلسفة التاريخ» الصادر عام 1931: «يسيطر على جميع تقلبات السياسة لدى الشعوب اللاتينية، لا سيما الفرنسيين، عنصر بارز من عناصر مزاجهم النفسي الموروث، وهو احتياجهم إلى أن يساعدوا ويوجهوا في أدق أعمالهم من قِبل الحكومة، فالحكومية هي النظام الوحيد الممكن لدى الأمم اللاتينية، وإن اختلفت الأسماء». لهذا فإن لوبون لا يعتقد في كتاب آخر بعنوان «روح التربية»، ترجمه طه حسين نحو عام 1925، أنه مع تأييده وإعجابه بالتربية الإنجليزية - كما تحدث عنها ديمولان - لا يعتقد أنها تلائم الحالة الفرنسية «لأنها تخالف مزاجنا وطبائعنا وإرادة الأسرة وما ورث التلاميذ عن آبائهم وتقتضي قبل كل شيء تغيير نفوس الأساتذة والتلاميذ والأسر... (لقد) فشلت كل المدارس التي حاولت تقليد المدارس الإنجليزية»! 
إلا أن لوبون يعطي المعتقدات موقعًا في التأثير على أفكار الأمم ومشاعرها، وإن لم يكن ذلك الدور مطلقًا، فيقول: 
«إذا رجعنا إلى الجهة السياسية سنعلم أيضًا كيف كان تأثير المعتقدات شديدًا. والسبب في قوة الدين العظيمة كونه العامل الوحيد الذي تتوحد فيه وقتًا ما منافع الأمة ومشاعرها وأفكارها. فيقوم المبدأ الديني بذلك دفعة واحدة مقام غيره من العناصر التي تتكون منها روح الأمة، والتي لا تنتج هذه النتيجة إلا إذا أربت وتم نضجها بالوراثة. نعم لا يتغير مزاج الأمة العقلي بمجرد استيلاء دين على قلبها، غير أن جميع القوى تتجه نحو غاية واحدة هي الانتصار للمعتقد الجديد، وفي ذلك سر قوتها العظمى. لذلك تجد أن قيام الأمم بأعظم الأعمال كان في عصر هذا التطور الوقتي، أعني عصر تدينها. كذا اتحدت بعض قبائل العرب بفكرة النبي محمد ، فاستطاعوا قهر أمم كانت لا تعرف منهم حتى الأسماء وشيدوا تلك الدولة الكبرى».

أخلاق وايمان
هنا يعود لوبون إلى الحديث عن العنصر اللاجوهراني المتغير، فينحو منحى ابن خلدون، لكنه يستعيض عن العصبية التي شدد عليها المؤرخ وعالِم الاجتماع العربي بمبدأ قريب جدًا منها، وهو الأخلاق وكذلك قوة الايمان أو الاعتقاد بصحة ما تؤمن به أمة من الأمم. فيقول:
«إذا بلغت الأمة ذروة الحضارة والقوة فأمست في مأمن من غارات الجار ومالت إلى التمتع بنعمة السلام والمعيشة الراضية التي هي بنت اليسر، ماتت فضائلها الحربية وتجدد لها من الحاجات بقدر ما زاد في حضارتها، وتمكّن حب الذات من النفوس ولم يعد من همها إلا سرعة التمتع بالخيرات التي نالتها على عجل، فتنصرف الهمم عن الاشتغال بالمصالح العامة وتضيع في الناس الفضائل التي كانت سببًا في عظمة الأمة. وحينئذ يغير عليها جارها من الأمم المتبربرة، أو التي هي في حكمها، لأنه إن كان أقل منها حضارة فهو أشد خيالًا، ثم يهدم حضارتها ويقيم على أطلالها حضارة أخرى.
ذلك ما جرى للرومانيين والفرس، فإنهم على ما كانوا عليه من أحكام النظام شتت البربر شمل الدولة الأولى، كما شتت العرب شمل الثانية. ومن المحقق أن الذي أعوز المغلوب لم يكن هو العقل والذكاء. بل إنه لا مناسبة بين الغالب والمغلوب، لأن أرقى العقول والفطن ظهرت في روما وهي حبلى بموجبات سقوطها أعني في عصر الإمبراطورة (الإمبراطورية) الأول.

قوة الاعتقاد
في ذلك الزمان نبغ أهل الفنون والأدباء والعلماء، وإلى ذلك العصر ترجع جميع الأعمال التي بني عليها مجد تلك الأمة الباذخ، لكنها كانت أضاعت العامل الأساسي الذي لا يقوم الذكاء مقامه مهما بلغ وهو الخلق (الأخلاق)». كما أنه يعتبر أن للاعتقاد قوة لا يغلبها إلا قوة اعتقاد مثلها، فليس للإيمان عدو إلا الإيمان. والنصر حليفه متى كانت القوة المادية التي تعترضه خادمة لشعور ضعيف ومعتقدات تولاها الوهن. لكن إذا اصطدم الإيمان بإيمان يماثله في قوته أصبحت الحرب عنوانًا، وصار النصر منوطًا بالأحوال الثانوية التي تكتنف الغالب منهما، وأهمها ما كان راجعًا إلى قوة الخلق وتعوُّد الانقياد وحسن النظام.
 وإذا تأملنا تاريخ العرب أيام فتوحاتهم الأولى - وأول الفتوحات أصعبها في العادة وأهمها - فسنرى أنهم وجدوا أمامهم خصومًا ضعفت أخلاقهم الأدبية وإن كان نظام جنديتهم محكمًا. تقدّمت جيوشهم أولًا إلى البلاد السورية فلم يجدوا فيها إلا جيشًا بيزنطيًّا مؤلفًا من الأُجَراء الذين ليس لهم ميل إلى تضحية أنفسهم في سبيل غرض ما. وكانت شدة إيمان العرب تزيد قوتهم العددية عشر أمثالها، فلم يعانوا في تمزيق شمل تلك الجيوش التي لم يكن لها خيال تقاتل من أجله، وكذلك استطاع نفر قليل من الإغريق تمكّن منهم حب المدينة من تشتيت شمل جيوش (إكزرسيس) العظيمة. وكانوا يعجزون وتتغير نتيجة الحرب لو أنهم اشتبكوا قبل ذلك ببضعة قرون مع الجيش الروماني. فمن الواضح أنه إذا التقت قوتان أدبيتان متساويتان، كان الفوز لأحكمها نظامًا. لذلك غلبت جيوش أهل (العهد) الفرنساوية جند (الفندان)، لتساوي الفريقين في قوة الاعتقاد وتفوُّق الأولين في حسن النظام، ومن هنا يتبين أن النصر على الدوام حليف المؤمنين.

شيء من التناقض
هناك شيء من التناقض وعدم الوضوح في منهج لوبون، فهو يقول إن التاريخ يتألف من عوامل مختلفة، منها ما هو ثابت كالأرض والإقليم والعِرق، ومنها ما هو عارض كالأديان والغزوات، أي إنه يعطي الأولوية للأرض والإقليم والعرق (قد يكون المفكر القومي السوري أنطون سعادة قد تأثر به في هذه النقطة)، إلا أنه - على الرغم من الالتباس الذي يثيره في نقاط محددة لا بُد من العودة إليها مستقبلًا - عالج موضوعه برفض النزعة «الجوهرانية» الثابتة التي لا تتغير مع الزمن وبقبولها في آن معًا. من هنا يأتي الالتباس في فهمه وتقدير وجهة فكره.
إلّا أن مفكرنا لم يكن عنصريًّا بمعنى من المعاني، إذ لم يعتقد بدوام الحضارة في شعب ما أو عنصر ما. فهو يعتقد أن مسار الحضارة دائري، فهي تنتقل من منطقة إلى منطقة، ومن شعب إلى شعب. فهو مثلًا لا يستبعد ظهور حضارة «للزنوج» في المستقبل، وربما حلّت محل الحضارة الأوربية يومًا ما، بعد أن أصابت هذه الأخيرة عوامل الوهن والشيخوخة. وفي كتابه عن حضارة العرب يكتب قائلًا:
«هل يعني ذلك أن الشعوب نصف المتحضرة أو البربرية لا تحب هي الأخرى أيضًا أن ترتفع إلى مستوى الحضارة الأوربية؟ هذه ليست عقيدتي على الإطلاق. بل إنني أعتقد على العكس أنها ستتوصل إلى ذلك يومًا ما، لكنها لن تتوصل إليه إلّا بعد أن تكون قد عبرت الدرجات المتتالية التي تفصلها عنها واحدة بعد الأخرى، وليس بقفزة واحدة».
 يمكننا الانتهاء إلى القول إن لوبون شدّد على التراتبية العرقية، إلا أنها كانت تراتبية متغيرة تنتقل من أمة إلى أمة حسب التطور الثقافي والحضاري، لهذا لا يمكننا اتهامه بالعنصرية، وإن كانت نظريته تحتاج إلى دراسة أعمق وأشمل.

المصدر: 1

تابعونا على الفيسبوك

مواضيع تهم الطلاب والمربين والأهالي

حكايات معبّرة وقصص للأطفال

www.facebook.com/awladuna

إقرأ أيضًا                                         

سنة الزواج الأولى وعواصفها

الكتابة للأطفال ليست ترفاً

سيكولوجية الموضة

موقع طفلك بين القيادية والتبعية

حياتنا اليوم وفن المحادثة الضائع

للمزيد

حدوثة قبل النوم قصص للأطفال

كيف تذاكر وتنجح وتتفوق

قصص قصيرة معبرة

قصص قصيرة معبرة 2

معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب

الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية

إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن

استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط

قصص قصيرة مؤثرة

مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم

تربية الأبناء والطلاب

مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات

أيضاً وأيضاً

قصص وحكايات

الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور

شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور

الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها

تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات

كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها

مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق