الأحد، 19 يونيو 2022

• نظرات في التطور التاريخي للغة العربية


تطور اللغة

عرفت دراسات اللسانيات مجموعة من المراحل يمكن إرجاعها حسب التصنيف الغربي إلى مرحلة النحو الإغريقي، ومرحلة النحو الروماني، ومرحلة العصور الوسطى، ثم مرحلة العصر الحديث، الذي بدأ في أواخر  القرن الـ 17، والذي عرف هو نفسه مراحل متعددة بدأت بالدرس اللساني المقارن والتاريخي، وبخاصة في القرنين الـ 18 والـ 19...

 وتطور مع بداية القرن العشرين، وخاصة مع ظهور  كتاب «محاضرات في علم اللسان العام» 1916 لرائد اللسانيات الحديثة السوسيري فردينان دو سوسير، الذي أحدثت تصوراته ومفاهيمه انعطافاً حاسماً، ليس فقط في علوم اللغة، بل في مجمل العلوم الإنسانية.

كـــان لاكتــــشاف الـــســـير وليـــام جـــونــــز 1746-1794 للتشابهات بين اللغة السنسكريتة( الهندية القديمة) وبعض اللغات الأوربية (وبخاصة اليونانية القديمة واللاتينية) واللغة الفارسية، الدور الحاسم في ظهور مرحلة جديدة في تاريخ الدرس اللساني، قائمة على المقارنة بين اللغات في مستوياتها الصوتية والصرفية والتركيبية والمعجمية والدلالية.

وقد انتهت هذه الدراسات إلى تصنيف لغات العالم إلى أسر لغوية، أهمها التصنيف الذي وضعه الألماني ماكس مولر(1900)، حيث قسّم لغات العالم إلى ثلاث فصائل كبرى، هي: فصيلة اللغات الهندوأوربية، وفصيلة اللغات السامية الحامية، وفصيلة اللغات الطورانية.

وقادت هذه المقارنات إلى البحث في جنينية هذه اللغات وتطورها التاريخي، ما أدى إلى ازدهار اللسانيات التاريخية في القرن التاسع عشر، وبخاصة في ألمانيا على يد لغويين أمثال فان هامبولد 1767-1835 وشليشل (1767-1845)  وف.بوب (1791-1867) ودان.ر.راسك  (1787-1832) يعقوب جريم (1785-1835) ، الذي وضع قانوناَ صوتياً سمي بقانون جريم.

ولقيت هذه الدراسات سندها العلمي والمعرفي في نظرية التطور التي وضعها داروين في كتابه أصل الأنواع 1859، حيث ذهب شليشل إلى أن «انتشار اللغات المختلفة على سطح الأرض واتصالها وصراعها يمكن أن يشبه بالصراع من أجل البقاء في دنيا الكائنات الحية».

واستمر هذا التقليد العلمي إلى بداية القرن الـ 20م، وكان دو سوسير 1857-1913  نفسه من رواد هذا الاتجاه، حيث أنجز أكثر أعماله حول اللسانيات التاريخية، منها دراسة حول «تطور النظام الصواتي في اللغة الجرمانية». لكن رغبته في إلحاق العلوم الإنسانية بالعلوم الحقة جعلته يتبنى في أواخر حياته منهجاً جديداً في الدراسات اللغوية هو المنهج البنيوي، كما حصر اللسانيات، في سياق تحديده لموضوعها، في الدراسة التزامنية التي تهتم بوصف اللغة في فترة زمنية محددة مفصولة عن سابقها ولاحقها، مشبها ذلك بلعبة الشطرنج، حيث يمكن وصف القطع في وضعية محددة دون النظر إلى المراحل التي قطعتها على الرقعة.

منذ هذه الفترة أهمل الدارسون، في مختلف الثقافات، كل الجوانب التاريخية في دراساتهم اللغوية، واهتموا بالوصف التزامني للغاتهم، واكتشاف بنياتها الصوتية والصرفية والتركيبية والدلالية، قبل أن ينتقل بعضهم تحت تأثير آراء شومسكي إلى البحث في القدرة والنحو الكلي، مع استثناءات قليلة كانت تدعو إلى المزاوجة في البحث اللساني بين الوصف التزامني والتعاقبي، كما نجد عند اللساني الفرنسي أندريه مارتني.

التطور التاريخي للغة العربية

لم يكن عند العرب شيء اسمه علم اللسان التاريخي بالمفهوم المعاصر، من دون أن يعني ذلك انعدام إحساسهم بالتطور التاريخي للغة العربية، والذي صاغوه في مبدأ نظري عام هو مبدأ الأصل والفرع، وقد ساعدهم على تفسير كثير من الظواهر اللغوية، كالإعلال والإبدال والإدغام والقلب والحذف والاشتقاق والنحت وتقديم الخبر والفاعل. فقد تصوروا ضمنياً أن فعل «قام» كان أصله التاريخي «قوم»، وفعل «باع» كان أصله «بيع» وكلمة «نداء» كان أصلها «نداي»، كما ساعدهم هذا الإحساس بالتطور التاريخي على فهم ظاهرة اللهجات، إذ كانوا يعتبرونها مجرد تحريف ولحن في قواعد الفصحى من قبيل ترك الإعراب وغمط الحركات والحذف والإبدال والزيادة وتضييق المعنى أو توسيعه أو استعماله في غير موضعه، كما هو واضح من عناوين الكتب مثل: «كتابُ ما تلحنُ فيه العامةُ» لأبي الحسنِ علي بن حمزةَ الكسائي، و«الفاخرُ فيما تلحنُ فيه العامةُ» للمفضَّلِ بن سلمةَ، و«أدبُ الكاتبِ» لابن قتيبةَ، و«المعرَّبُ» للجوالقي، و«درَّةُ الغوّاصِ» للحريري، و«شفاءُ الغليلِ في الدخيلِ» للخفاجي، و«بحرُ العوامِ فيما أصابَ العوامَ» لابن الحنبلي الحلبي، و«لحنُ العوامِ» لأبي بكرٍ محمد بن حسنٍ الزبيدي الأندلسي الإشبيلي، و«الفوائدُ العامةُ في لحنِ العامةِ» لأبي القاسمِ محمدٍ بن أحمدَ بن جزيٍّ الكلبيِّ الغرناطيِّ.

التّصور نفسه نجده عند السيوطيِّ في المزهرِ، حيث ذكرَ بعضَ مظاهرِ اختلافِ العاميةِ عن الفصحى، ومنها: «بعض ما تترك العامة همزَهُ، بعض ما تبدِلُ العامةُ الهمزَ فيه أو تسقطه، ما تهمزُه العامةُ، مما تخفّفهُ العامةُ، مما تحرّكُه العامّةُ، مما تسكّنُه العامةُ، مما تبدِلُ فيه العامةُ حرفاً، مما تكسِرُه العامةُ، مما تفتحُه العامةُ، مما تضمُّه العامةُ، مما عدَّ من الخطأِ، مما تضعُه العامةُ في غيرِ موضِعِه».

والملاحظ أن تطور اللغات ظاهرة عامة تعرفها كل اللغات واللهجات، ويمس هذا التطور المستويات الصوتية والصرفية والتركيبية والدلالية والتداولية والأسلوبية والمعجمية. فعلى المستوى الصوتي تتطور اللغات عن طريق سقوط بعض الأصوات وظهور أخرى أو فقدها لبعض الملامح المميزة واختلاف قواعد النبر والتنغيم.

 أما على المستوى الصرفي، فتتطور اللغات عن طريق قواعد جديدة لاشتقاق الكلمات أو قواعد إلصاق الزوائد الصرفية. أما على المستوى التركيبي، فتتطور اللغات عن طريق حذف بعض المكونات أو تغيير رتبها داخل الجملة كتقديم بعضها وتأخير بعضها الآخر. وعلى المستوى الدلالي تتطور اللغات عن طريق توسيع معنى المفردات أو تضييقه أو تحويله أو إقصائه أو نقله من معنى حرفي إلى معنى مجازي أو العكس.

أما على المستوى المعجمي، فتتطور اللغة عن طريق موت بعض المفردات ودخول أخرى جديدة إلى اللغة عن طريق التوليد والاشتقاق والوضع والاقتراض والتعريب. وعلى المستوى التداولي تتطور اللغات عن طريق اختلاف السياقات والمقامات التي تستعمل فيها العبارات اللغوية.

ويرى الباحثون أن أسباب التطور اللغوي تظل دائماً رهينة بالظروف التي تعيش فيها المجموعات اللغوية. فاستمرار اللغة ومحافظتها على النسق يرجعان في الغالب إلى انغلاق المجموعة، ومحدوديتها الجغرافية، وبعدها عن الاحتكاك باللغات والثقافات الأخرى، ومراوحتها مكانها في سلم التطور الحضاري.

أما انفتاح الشعوب على ثقافات أخرى، واحتكاكها بلغات مجاورة، واتساع مساحتها الجغرافية، وتطورها في سلم الرقي الحضاري، أو تعرضها لغزو أجنبي، فغالبا ما ينعكس ذلك على بنيتها ويؤدي إلى تطورها.

مظاهر التطور

كانت اللغة العربية في الجاهلية لغة محاصرة في حدود جغرافية هي شبه الجزيرة العربية، كما أن احتكاكها بالشعوب الأخرى كان محدوداً، وبخاصة مع الفرس في الشرق والروم في الشمال والحبشة في الغرب، من دون أن يعني ذلك خلوها من أي تأثير، كما تشهد على ذلك بعض الكلمات الأعجمية من قبيل: الدرهم والشيطان.

أما التطور الحضاري فكان محدوداً بسبب ظروف الصحراء الصعبة التي كانت تفرض التنقل المستمر.

لكن الأمر تغير جذرياً مع مجيء الإسلام؛ إذ ساهم الدين الجديد في تطور اللغة العربية الدلالي من خلال منح كثير من المفردات دلالات جديدة (صلاة، صيام، زكاة، حج، تيمم)... ودخول كلمات جديدة وبخاصة مع ازدهار حركة الترجمة إلى العربية، وانتشار العربية في أصقاع وبلاد مختلفة. بالإضافة إلى تأسيس العلوم وتدوين المعارف، مما أحدث ثورة مصطلحية ومعجمية في اللغة العربية.

لكن تنبغي الإشارة إلى أن أغلب التطورات التي عرفتها اللغة العربية تمت على المستوى الدلالي والمعجمي من دون المستويات الصوتية والصرفية والتركيبية بسبب ارتباط هذه اللغة بالقرآن الكريم الذي حفظها من التفريع الذي يقطع الصلة بين ماضيها وحاضرها، وهي سمة مميزة للغة العربية جعلت البعض يعتبرها متحفاً لغوياً حياً.

كان التطور الصوتي للعربية ضعيفاً نسبياً بسبب النقل الشفهي المتواتر لهذا النسق، وبخاصة من لدن القراء، مع بعض التغيرات الطفيفة التي مست نطق بعض الأصوات كالضاد والظاء والذال والجيم.

كما كان التطور الصرفي طفيفاً، وهو ناتج في الغالب عن أخطاء لغوية أصبحت متداولة، كما في اشتقاق اسم المكان «مسار» من فعل سار بدل «مسير»، أو عن طريق وضع بعض المجامع اللغوية لبعض الصيغ الصرفية مثل «فعالة» لاسم الآلة.

أما على المستوى التركيبي، فقد حافظت اللغة العربية على قواعدها إلا ما كان من سقوط بعض الحركات الإعرابية، وبخاصة في الكلام الشفهي وانقراض بعض التراكيب كالأفعال المتعدية لثلاثة مفاعيل، وتراجع أخرى كصيغة التعجب «أفعل بـ» وصيغة الذم «لا حبذا»، ثم ظهور تراكيب جديدة ناتجة في الغالب عن الترجمة من اللغات الأجنبية كالتراكيب التي تفصل بين المتضايفين «عمت الأمطار مدن وقرى البلد».

 أما التطور الكبير الذي عرفته العربية فهو التطور المعجمي الذي يسير في اتجاهين، هما: سقوط كثير من المفردات من الاستعمال، وتوليد واشتقاق واقتراض آلاف من الكلمات الجديدة للتعبير عن المفاهيم والاختراعات التي تعرفها الحضارة العربية بصفة خاصة والبشرية بصفة عامة.

وفيما يلي نموذج من التطورات التاريخية التي عرفتها اللغة العربية، وهي تساعدنا بلا شك على فهم كثير من الظواهر اللغوية، وإعادة النظر فيها:

أفترض مثلا أن البنية الصرفية للفعل في العربية تطورت كما في الشكل الآتي: فقد كانت العربية تعبر عن الزمن الحاضر عن طريق تقديم الضمير على الفعل كما في: أنا فعل / أنت فعل/ نحن فعل، فسقطت النون من الاستعمال في المثال الأول، فأصبحت «أفعل»، وسقطت الهمزة والنون من المثال الثاني، فأصبحت «تفعل»، وسقطت النون والحاء من المثال الثالث فصارت «نفعل» وهكذا.

أما عندما كانت اللغة العربية تريد أن تعبر عن الزمن الماضي فتؤخر الضمير عن الفعل كما في «فعل أنتَ/ وفعل أنت/ فعل نحن، التي تحولت إلى فعلتَ وفعلتِ وفعلنا... وهذا ما يفسر في نظرنا إصرار النحاة على اعتبار الفاعل في «أفعلُ» و«تفعلُ» مستتراً وجوباً، لإحساسهم بوجود فاعل في الصيغة من دون أن يستطيعوا تفسير ذلك، فذلك لأنهم لم يمتلكوا هذا الوعي بالتطور التدريجي للغة العربية.

وفيما يخص ظاهرة المثنى، فأعتقد أن هذه الظاهرة تطورت هي أيضا عن طريق سقوط بعض الأصوات، فقد كان العربي القديم يستعمل المثنى كظاهرة تركيبية وليس كظاهرة صرفية، إذ كانت العرب تقول «رجل اثنان» للدلالة على المثنى على غرار «رجل واحد»، فسقطت الثاء والنون وتحولت إلى رجل + ان = رجلان.

أما بخصوص الاشتقاق في العربية، فقد اختلف النحاة بين من ذهب إلى أن أصل الاشتقاق هو الفعل ومن قال إن أصله هو الاسم، ولكننا نميل إلى رأي بعض الدراسات اللسانية المعاصرة، التي ترى أن أصل الاشتقاق في العربية هو الجذر، مثل «ك. ت. ب» الذي تشتق منه كلمات أصول، هي: فعَل/ فعُل/فعِل، التي تشكل مصادر اشتقاق المفردات الأخرى أفعالاً وصفات مثل فعّل وفاعل.

كما أن هذه المصادر المشتقة يمكن أن تكون مصدر اشتقاق لمفردات أخرى؛ إذ تشتق مثلا صيغة تفاعل من فاعل وتشتق صيغة تفعّل من فعّل وهكذا.

ومن الاتهامات التي وجهها المستشرقون وبعض المعاصرين إلى اللغة العربية، غياب الرابطة في الجملة الاسمية؛ اذ اعتبر شومسكي لغات من هذا القبيل غير طبيعية.

ومن دون الدخول في هذه النقاشات، وارتباطاً بموضوعنا، يمكن اعتبار سقوط الرابط في الجملة الاسمية مجرد تطور تاريخي أدى إلى غياب الرابط «كان» في الزمن الصفري «السماء صافية»، الذي يظهر في الزمن الماضي أو المستقبل على التوالي، كما في: «كانت السماء صافية» و«ستكون السماء صافية»، بل يمكن أن تظهر هذه الرابطة في حالة الدلالة على الديمومة والعادة كما في مثال: «السماء تكون صافية في فصل الصيف».

هذه بعض الظواهر اللغوية التي يمكن أن نعيد دراستها وفق منهج تاريخي، ولا شك في أن فهمها وفق هذا التصور سيساعدنا على إعادة النظر في بعض القواعد اللغوية التي وضعها النحاة من أجل فهمها وتبسيطها.

المصدر: 1

تابعونا على الفيسبوك

مواضيع تهم الطلاب والمربين والأهالي

حكايات معبّرة وقصص للأطفال

www.facebook.com/awladuna

إقرأ أيضًاقصة                                    

عندما يصبح الأهل محتاجين إلى رعاية أبنائهم

فوائد قراءة القصص للأطفال قبل النوم

سبع خطوات للتعاطف مع الذات عند الشعور بالاكتئاب

سيكولوجية السلوك المستدام

هل ستصبح كتب الطبخ شيئاً من الماضي

للمزيد

حدوثة قبل النوم قصص للأطفال

كيف تذاكر وتنجح وتتفوق

قصص قصيرة معبرة

قصص قصيرة معبرة 2

معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب

الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية

إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن

استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط

قصص قصيرة مؤثرة

مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم

تربية الأبناء والطلاب

مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات

أيضاً وأيضاً

قصص وحكايات

الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور

شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور

الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها

تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات

كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها

مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق