أم كلثوم
في حصيلة القرن العشرين للإنجازات الموسيقية والغنائية في العالم العربي، أعتقد أن عدد الفنانين العرب الذين بقي ذكرهم حاضرًا في وجدان المستمع العربي بعد سنوات من رحيلهم، لا يتعدى أصابع اليد الواحدة، ولعل في رأس هذه القائمة الصغيرة اسم أم كلثوم، التي حملت لفترة طويلة من حياتها الفنية لقب سيدة الغناء العربي، ومازالت تحمل هذا اللقب بعد أربعة وأربعين عامًا على رحيلها، بالحرارة نفسها والتوهج نفسه، في أذان ووجدان المستمعين العرب من المحيط إلى الخليج.
من المؤكد أن بعض نواحي هذا السر الذي رافق حياة أم كلثوم، ومازال يرافق ذكراها بعد ما يقارب نصف قرن من الزمن، قد ولد مع أم كلثوم يوم ميلادها في آخر سنتين من القرن التاسع عشر، في قرية طماي الزهايرة في ريف القطر العربي المصري، لكن زوايا أخرى وتفاصيل أخرى في تفسير هذا السر الذي رافقها منذ بداية حياتها الفنية في القاهرة، ومازال يرافق ذكراها حتى اليوم لا تجد تفسيرًا لها إلا في حياة أم كلثوم من ناحية الاجتهاد العالي والدائم والمثابر الذي رافق حياتها الفنية، والظروف الاستثنائية التي أحاطتها منذ ولادتها وطوال حياتها حتى يوم رحيلها.
في المواهب المولودة معها
وهب الله أم كلثوم حنجرة استثنائية ثبت فيما بعد، وطوال القرن العشرين، أنها حملت منذ البداية أعظم صوت نسائي عربي عرفه القرن العشرون على طول وعرض مساحة الوطن العربي بأسره، وهذا هو رأي الغالبية العظمى من نقاد القرن، إن لم يكن إجماعًا فيما بينهم.
ومن نواحي عظمة صوت أم كلثوم التي ولدت معها وتطورت فيما بعد بالممارسة في أرياف مصر أولًا، ثم في القاهرة، هو اتساع المساحة الصوتية والقوة الجهورية التي كان هذا الصوت يتمتع بها. وعلى ذلك ألف دليل ودليل، فهي كانت، خلال أدائها للابتهالات الدينية في سنواتها الأولى مع فرقة الإنشاد التي كان يديرها والدها الشيخ إبراهيم البلتاجي، تغني أمام نفر من الجمهور، قد يرتفع إلى المئات في بعض السهرات من دون أي واسطة، أي غناء مباشر من الحنجرة إلى الآذان دون وساطة الميكروفون. وكان ذلك قبل انتقالها من الريف إلى القاهرة، في أواخر الربع الأول من القرن العشرين.
صحيح أن أم كلثوم سرعان ما تعرفت في القاهرة إلى الاختراع العجيب الجديد المسمى ميكروفون، لكنها من المؤكد أنها في تعاملها مع هذه الواسطة كانت تقف بعيدًا عنها بمساحة قد تتجاوز المتر في استديوهات الإذاعة.
وعندما انتقلت بعد الإذاعة ومعها إلى إحياء حفلاتها الغنائية الشهرية عند أول خميس من كل شهر، فإن تسجيلات هذه الحفلات التي بقيت لنا ذخرًا (صوتًا وصورة) منذ أواخر خمسينيات القرن الماضي وحتى آخر حفلاتها في أول خميس من فبراير عام 1973، والتي ما زلنا نحتفظ بتسجيلاتها حتى اليوم، فقد ثبت في أواخر تلك الحفلات، أي قبل اعتزالها الغناء بفعل المرض، قبل وفاتها بعامين، أنها في أثناء تسجيل أغنية «يا مسهرني» (لحن سيد مكاوي الوحيد الذي قدمته بصوتها) كانت تقف على مسافة من الميكروفون على المسرح بمسافة أكثر من متر ونصف المتر، وكان الميكروفون مرتفعًا مترًا آخر وربما أكثر.
ومن مزايا اتساع طبقاتها الصوتية المولودة معها، والقوة الجهورية غير العادية لهذا الصوت، التي رافقته حتى النهاية، أنها ظلت تمارس على مدى نصف قرن كامل، تقديم حفلات شهرية تستغرق الحفلة الواحدة ثلاث وصلات غنائية (اقتصرت حفلاتها بعد نكسة 1967 على وصلتين)، يتجاوز بعض هذه الوصلات الساعتين بمفردها في أمسية واحدة، وهي حصيلة ثقيلة من الغناء، لم تقدم مثلها كبيرات مغنيات الأوبرا في العالم بأسره، حيث كان الغناء في بعض السهرات يمتد إلى ما يقارب الساعات الست أو الخمس.
هذا عن اتساع المساحات الصوتية وقوتها، ترافق أيضًا مع موهبة ربانية أخرى هي التمتع بالنفس الطويل والقوي بشكل غير عادي، مما كان يؤمِّن لغناء أم كلثوم النتيجة الباهرة الكاملة. ومع مرور الزمن، ورغم دخول صوتها في سن الشيخوخة في سنواته العشر الأخيرة، فقد ظلت هذه الصفات الخارقة ملازمة لصوتها بشكل أو آخر، بدليل أنها لم تعتزل الغناء إلا قبل سنتين من وفاتها في فبراير 1975، حيث يفصل عامان كاملان بين يوم آخر حفلاتها ويوم رحيلها.
في المواهب المكتسبة والظروف التاريخية
أعتقد أن تاريخ الغناء العربي في القرن العشرين على امتداده لم يعرف مطربة قضت الثلث الأول من حياتها في التدرب على أصعب فنون الغناء قبل أن تخترقه بالكامل بعد استقرارها في القاهرة.
لقد كانت أم كلثوم وهي في الخامسة من عمرها تقريبًا، تحفظ سرًا الابتهالات الدينية التي كان والدها ينشدها لتحفيظ شقيقها الأكبر، الشيخ خالد، ولم يكتشف الوالد مواهب ابنته الدفينة إلا بعد أن يئس من سرعة الحفظ لدى ولده، ومن يومها، وقبل أن تكمل أم كلثوم العاشرة من عمرها، تحولت إلى المنشدة الأساسية في فرقة والدها، التي كانت تجوب الأرياف المصرية حول مدينتي المنصورة والسنبلاوين.
كل تلك التدريبات الأولية الشاقة، كانت تجريها أم كلثوم بصوت عار لا تصاحبه أي آلة موسيقية، ولا يتقدمه الميكروفون ومكبر الصوت. وظلت أم كلثوم تواصل هذه التدريبات على أصعب ألوان الغناء العربي، منذ نعومة أظفارها، من بداية القرن العشرين، حتى انتقلت إلى القاهرة في عام 1923، وحيث ظلت هناك تقدم ألوان الإنشاد الديني طوال ما يقارب السنتين قبل انتقالها إلى عالم الغناء الدنيوي على أيدي الشيخ أبوالعلا محمد أولاً، ثم فرقة الموسيقار محمد القصبجي بعد ذلك، حيث بدأ صوتها يسجل الألحان الأولى على أسطوانات قبل أن تقوم بافتتاح دار الإذاعة المصرية الرسمية في منتصف عام 1934.
وإننا الآن نعرف أن تاريخ الغناء العربي النسائي في القرن العشرين، لم يعرف مطربة قضت ربع قرن كامل من أصعب التدريبات، قبل أن تحترف الغناء.
والحقيقة هي أن المواهب المولودة مع أم كلثوم، وتلك المكتسبة بعد ذلك، قيض الله لها ظروفًا تاريخية لاستكمال نضجها ونموها، ووصولها إلى الذروة التي وصل إليها فن أم كلثوم.
لقد وضع الله في طريقها أولاً الشيخ أبوالعلا محمد، سيّد فن القصيدة العربية المغناة، في الربع الأول من القرن العشرين، بعد عصر عبده الحمولي ويوسف المنيلاوي، وكان أبو العلا محمد الجسر الذي سهّل كثيرًا لأم كلثوم القادمة من الأرياف، بالانتقال السلس من الغناء الديني( بعد طول احتراف) إلى الغناء الدنيوي، فكان الشيخ أبوالعلا صلة الوصل في الغناء لدى أم كلثوم بين نهضة القرن التاسع عشر وبدايات نهضة القرن العشرين.
بعد ذلك أحاطت الحالة الاجتماعية بأم كلثوم منذ بداية انتقالها الصعب من الأرياف إلى العاصمة القاهرة، من خلال الشيخ مصطفى عبدالرازق الذي شكّل حماية صلبة لأم كلثوم المبتدئة، وسط صعوبات عالم الغناء المحترف، الذي عرف في عشرينيات القرن العشرين، حالة من الهبوط بل والانحطاط.
وقد اكتملت الظروف التاريخية في البداية الوعرة لأم كلثوم، بوجود الشاعر أحمد رامي، العائد من التخصص في باريس، والذي تحول من كتابة الشعر باللغة الفصحى إلى العامية المصرية، للارتقاء بفن المغنية التي أعجب أشد الإعجاب بصوتها.
ولم يكتف رامي بذلك الدور المؤسس، بل تحول إلى أستاذ متخصص في تزويد أم كلثوم بأعماق الثقافة العربية، عن طريق جلسات أسبوعية( دامت سنوات طويلة)، كان يضع فيها بين أيديها أمهات كتب التراث العربي القديم والحديث.
وهكذا استقرت أم كلثوم في عز شبابها بقوة على أبواب نهضة القرن الموسيقية التي كان قد أرسى دعائمها الشيخ سيد درويش، وواصل الجهد فيها بعد الرحيل المبكر لسيد درويش (1923) كل من العبقريين محمد عبدالوهاب ومحمد القصبجي.
وما إن استقر كل من عبدالوهاب وأم كلثوم، على عرش الغناء العربي في نهاية عقد العشرينيات، حتى دخل العبقري الآخر في تجديد الموسيقى العربية محمد القصبجي في خدمة أم كلثوم( حتى نهاية حياته)، ففجر من خلال صوتها العبقري، كل عبقريته الموسيقية التجديدية من أواخر العشرينيات (مونولوج «إن كنت أسامح وانسى الأسيّة») حتى منتصف الأربعينيات (مونولوج رق الحبيب)، قبل أن يدخل في خدمة صوت أم كلثوم العبقري زكريا أحمد، في مطلع الثلاثينيات، والعبقري رياض السنباطي، منذ منتصف الثلاثينيات.
وانتقلت المنافسة التاريخية منذ ذلك الوقت حتى أواخر القرن العشرين، بين صوت محمد عبدالوهاب، الذي يلحن لنفسه، وصوت أم كلثوم الذي يتخصص في التلحين له العباقرة محمد القصبجي وزكريا أحمد ورياض السنباطي.
ووسط هذه المنافسة التاريخية، دخلت أم كلثوم بعد رسوخ صوتها على عرش الغناء العربي، في حالة تنويع للمواضيع التي تغنيها من عاطفية إلى دينية (عبر القصائد العبقرية لأحمد شوقي بعد رحيله)، إلى وطنية، حتى دخلت أم كلثوم في سنواتها العشرين الأخيرة، عصر تجديد شباب صوتها عبر ملحنين شباب مثل كمال الطويل ومحمد الموجي، وبعد ذلك بليغ حمدي، وسيد مكاوي، وهم أشهر ملحني النصف الثاني من القرن العشرين، وكذلك التقت أخيرًا مع ألحان العبقري محمد عبدالوهاب، بعد أن اعتزل الغناء، وزالت المنافسة بينهما، حتى تحولت أغنية أم كلثوم الوطنية في حرب 1956 (والله زمان يا سلاحي) من ألحان كمال الطويل وشعر صلاح جاهين، إلى نشيد مصر الوطني طوال عصر عبدالناصر، وحتى توقيع اتفاقات كامب ديفيد.
لقد كتب الكثير في محاولة تفسير أسرار العظمة الكامنة وراء صوت أم كلثوم، التي كان يحدد عند انطلاقه حدود الوطن العربي بين المحيط والخليج، عند الخميس الأول من كل شهر، ولا شك في أن الأجيال العربية القادمة التي سيبقى صوت أم كلثوم يرن في آذانها، ستكتب الكثير، في إلقاء مزيد من الأضواء عن أسرار هذه العظمة التاريخية الفنية التي تتحدى الزمن.
ويبدو أن أم كلثوم ستحتفظ بلقب «سيدة الغناء العربي» طويلاً .
المصدر: 1
مواضيع تهم الطلاب والمربين والأهالي
إقرأ أيضًا
5 مهارات اجتماعية
علموها لأطفالكم باكراً
للمزيد
معالجة المشكلات
السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل
المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق