السبت، 2 أبريل 2022

الْقَصِيدَةُ الْعَرَبِيَّةُ... مُثِيرَاتُ فِتْنَتِهَا ومَظَاهِرُ شِعْرِيَّتِهَا


القصيدة العربية

لم تتوقف القصيدةُ العربيَّةُ منذ ارتجالها على أَلْسنةِ الشعراء في عُصورها الأُولى عن مواصلة طريقها نحو افْتِتَانِ مُتلقِّيها؛ حيث ينصرفُ شاعرُها إِلى ما يُمكن أَنْ يجعل من جسدها كائنًا حيًّا، لا تُخطِئ عينٌ ناقدةٌ رؤية الحياة فيه، سوف تراها بِكلِّ إِسرارها وإِعلانها، هَدْأَتها وهبَّتها، سُكُونها وحركتها، طيبتها وقسوتها، مُترادفاتها ومُتَضادَّاتها، أَلوانها، وعجائبها.

وسوف تظلُّ القصيدةُ تَسْتَفِزُّ القصيدةَ؛ فتكون القصيدة ذلك المُثير والمُثَار؛ عندما يكون المُتلقي ذلك الشاعر الذي اهتاج قلبُه وعقلُه لقصيدة ما، فكتب أُخْتَها قصيدةً تُشْبِهُهَا على قالبها، بِوزنها وقافيتها؛ فكانت المُعَارضة تلك التي أَغْرَقَهَا كثير مِن الشعراء والنقاد في المُمَاثلةِ مع الأُولى، بَيْد أنَّها تكون فِي أَبْهى صُورها عندما تَنْزَاحُ عن تلك المُمَاثلة؛ فتأخذ نصيبًا من الانحراف، وقدرًا من المُخَالفة.

المُعارَضَةُ الشعريَّة فنٌ قديم، تعود جُذُورُه إِلى العصر الجاهليّ، وهي من «عارَضَ الشيءَ بالشيءِ مُعارضةً: قابَلَه، وعارَضْتُ كِتَابِي بِكِتَابِهِ أَي قَابَلْتُهُ. وَفُلَانٌ يُعارِضُني أَي يُبارِيني».

وسبيل من عارض صاحبه في خطبة أو شعر أن ينشئ له كلامًا جديدًا ويحدث له معنى بديعًا، فيجاريه في لفظه ويباريه في معناه ليوازن بين الكلامين، فيحكم بالفلج لمن أبرّ منهما على صاحبه، وليس بأن يتحيّف من أطراف كلام خصمه فينسف منه ثمّ يبدل كلمة مكان كلمة، فيصل بعضه ببعض وصل ترقيع وتلفيق، ثم يزعم أنَّه قد واقفه موقف المعارضين وإنما المعارضة على أحد وجوه: منها أن يتبارى الرجلان في شعر أو خطبة أو محاورة، فيأتي كل واحد منهما بأمر محدث من وصف ما تنازعاه، وبيان ما تباريا فيه يوازي بذلك صاحبه أو يزيد عليه، فيفصل الحكم عند ذلك بينهما بما يوجبه النظر من التساوي والتفاضل، نحو ما تنازعه امرؤ القيس وعلقمة بن عبدة من وصف الفرس في قصيدتيهما المشهورتين، فافتتح امرؤ القيس قصيدته بقوله: «خلِيليَّ مُرَّا بي على أمِّ جُنْدَبِ»، فلما صار إلى ذكر الفرس وسرعة ركضه قال:

فللزجر أُلهوبٌ وللسَّاق دِرةٌ

وللسَّوطِ منه وقْعُ أهوجَ مُنْعِبِ

وابتدأ علقمة قصيدته بقوله: «ذهبْتِ مِنَ الهجْرانِ في غيرِ مَذْهَبِ»، فلما صار إلى ذكر الفرس وركضه قال:

فعَفَّى على آثارِهِنَّ بحاصِبٍ

وغيبةِ شؤبوبٍ من السَّد ملهبٍ

فأَدْرَكهُنَّ ثانيًا من عنانه

يمرُّ كمرِّ الرائح المتَحَلِّبِ

وكانا قد حكَّما بينهما امرأة امرئ القيس، فقالت لزوجها: علقمةُ أشعر منك، فقال: وكيف ذلك؟ قالت: لأَنَّه وصف الفرس بأَنَّه أدرك الطريدة من غير أن يجهده أو يكده، وأنت مريت فرسك بالزجر وشدة التحريك والضرب، فغضب عند ذلك وطلّقها.

ولا يعتبر الصنعاني «في المُعَارضة بالمعاني وإِنَّما العبرة باللفظ في الفصاحة والبلاغة بأنواعها، فلو كان المعارض يأخذ معنى ما يعارض فيه ويكسوه ألفاظًا من عنده ويستعين ببعض ألفاظه، لكان هذا احتذاءً وسرقة ولم يكن معارضة، ولكان يظهر للناس سقوط المعارض وخذلانه وافتضاحه»، ومن ذلك ما قاله امرؤ القيس:

خَلِيليَّ مُرَّا بي على أمِّ جُنْدبِ

لنقضيَ حاجاتِ الفؤادِ المُعَذَّبِ

وما قاله علقمة في معارضته:

ذهبتِ مِنَ الهجران في غير مذهبِ

ولم يكُ حقًا كلُّ هذا التجنبِ

 فتباين معناهما لأنَّه وصف الهجران الذي هو نقيض الوصال، وعُدَّ مع ذلك معارضًا، لأنَّه لما كان ما أتى به مثلًا لما أتى به امرؤ القيس في الفصاحة.

ما جَاءَ في حَديثِ أُمِّ جُنْدب من أَسباب الحكم بالتفوُّق والسبق لعلقمة، ثُمَّ ما عَرَضَ له الصنعاني بعد ذلك بقرون في إِطار كلامه عن المُعَارضة، وهو ما ينطبق على قصيدتي امرئ القيس وعلقمة، ويصحُّ معه إِقامة المُعَارضة مع تباين المعنى؛ اعتبارًا لأَسبابِ الفصاحةِ والبلاغة؛ لهذا لم تكن المُعَارضة في شعر العصر الجاهليّ بِمنأى عَمَّا هي عليه فيما بعد، أو ما هي عليه الآن، وإِنَّ المظاهر التي كانت تُسْتَجْدَى في القصيدة المُعَارِضة قديمًا وثيقة الصلة بِمَا تُنَادِي به الشِّعْريَّةُ الحديثة.

المُعَارَضَةُ فِيمَا بَعْدَ العَصْرِ الجَاهِلِيّ

على الرغم من أَنَّ أقدم صورة للمُعَارضة الشعريَّة قد وُجِدتْ في شعر العصر الجاهليّ، كما في قصة تحكيم أُم جُنْدَب، وأَنَّ العصر الجاهليّ قد شهد الملامحَ الأُولى لهذا الفن؛ فلم تَتَّضح معالمُه كاملة إِلَّا فيما بعد، على عكس النقائض الشعريَّة، فقد كانت أكثر وضوحًا، إِذْ أثبتتْ وجودها، وامتدَّت منذ العصر الجاهليّ حتى اسْتعر أُوارها في العصر الأُموي، ومع ذلك فقد بَدَتْ المُعَارضات في بعضٍ من أشعار هذه الفترة، لكنَّها لم تُعْرفْ بعد بِوصفها فنًا مثلما اشتهرت النقائض، ومن ذلك مُعَارضة عمر بن أبي ربيعة:

جَرَى ناصِحٌ بِالْوُدِّ بَيْني وَبَيْنَها

فَقَرَّبَني يَوْمَ الْحِصَابِ إِلى قَتْلي

فَطَارَتْ بِحَدٍّ مِنْ فُؤادي، وَنَازَعَتْ

قَرِيبَتُها حَبْلَ الصَفاءِ إِلَى حَبْلِي 

حيث عارضَ قصيدةَ جميل بن معمر:

لَقَد فَرِحَ الواشونَ أَنْ صَرَمَتْ حَبْلي

بُثَينَةُ أَو أَبدَتْ لَنا جانِبَ البُخْلِ

يَقولونَ: مَهلاً يا جَميلُ! وَإِنَّنِي

لَأُقسِمُ ما لي عَن بُثَينَةَ مِن مَهْلِ

وقد جاءتْ مُعَارضةُ عمر بن أبي ربيعة على بحر الطويل، وفي اثنين وعشرين بيتًا مثلما جاءت قصيدة جميل.

كذلك أَطلَّ العصرُ العباسيُّ، والمُعَارضات كما هي في مهدها التأسيسي، تبدو أكثر ما تبدو في مُعَارضة بعض أقطاب هذا العصر، خاصة من أمثال أبي نواس، وأبي تمام، والمتنبي، على نحو مُعَارضة وزير مصر طلائع بن رُزِّيْك المعروف بـ «الملك الصالح»، وكان قد كتبها إلى أُسامة بن منقذ، ومطلعها:

أَلاَ هكَذَا فِي الله تُمْضَى العَزَائِمُ

وَتمْضِي لَدَى الْحَرْبِ السُّيوفُ الصّوارِمُ

وَتُسْتَنْزَلُ الأَعْدَاءُ مِنْ طَوْدِ عزِّهم

وَلَيْسَ سِوَى سُمْرِ الرِّمَاحِ سَلاَلِمُ

فَأَجَابَه أُسامة بقصيدةٍ، مطلعها:

لَكَ الْفَضْلُ مِنْ دُون الْوَرَى وَالْمَكَارِمُ

فَمَنْ حَاتِمٌ، مَا نَالَ ذَا الْفَخْرَ حَاتِمُ

وصَلْتَ، فَأَغْنَيْتَ الأَنَامَ عَنِ الْحَيَا

وَصُلْتَ؛ فَخَافَتْ مِنْ سُطاك الصَّوارِمُ

وكلاهما يُعدُّ مُعارِضًا لقصيدة المتنبي:

عَلَى قَدْرِ أَهْلِ الْعَزْمِ تَأْتِي الْعَزَائِمُ

وَتَأْتِي عَلَى قَدْرِ الْكِرَامِ الْمَكَارِمُ

وكان المتنبي قد قالها في مدح سيف الدولة الحمداني، بمناسبة بنائه قلعة الحدث، وهي من بحر الطويل.

وتبقى الفترة ما بين العصرين الجاهليّ والأَندلسيّ هي فترة الحضانة لهذا الفن الذي اكْتملتْ معالمُه مع مرور الوقت، وتقوم في الأَساس على إِعجاب الشاعر المُتَلقي بالقصيدة الأُولى وافتتانه بها، وكان لهذا الشاعر أَنْ يَتَمَثَّل المعنى نفسه، أو يَحِيد عنه بِمقدار ما يشاء، لَكِنَّه لا يَدَّخر وسعًا في مراعاة الإِجادة الشعريَّة؛ رغبةً في مُجَاوزةِ الأُولى، أو عدم النزول عن مستواها البنائي والأُسلوبي.

فن أصيل

وبمجيء العصر الأَندلسيّ كان مصطلح المُعَارضة قد استوى فنًا أَصيلًا له سماته الخاصة، وعلى الرغم من أَنَّ معظم الباحثين والنقاد يُؤكِّدون أَنَّ المُعَارضات كفنّ أصيلٍ لم ينشط إِلَّا في الشعر الأندلسي؛ (وذلك لانبهار الأندلسيين وافتتانهم بالمشارقة، وهو سبب حقيقي)، فلا يمكن إغفال المرحلة السابقة باعتبارها مرحلة تأسيسيَّة لهذا الفن.

وقد انبرى كثير من شعراء الأندلس من أمثال ابن زيدون، وابن عبدون، وابن درَّاج القسطلي، وابن هاني لمعارضة أشهر شعراء المشرق مثل أبي فراس، وأبي نواس، وأبي تمام، والمتنبي، ومسلم بن الوليد وغيرهم. ومن ذلك مُعَارضة ابن درَّاج القسطلي، التي قالها في مدح المنصور بن أبي عامر، وهي من الطويل:

دَعِي عَزَمَاتِ الْمستضامِ تسيرُ

فَتُنْجِدُ فِي عُرْضِ الفَلَا وتَغُورُ

لَعَلَّ بِمَا أَشْجَاكِ مِنْ لَوْعَةِ النَّوَى

يُعَزُّ ذَلِيلٌ أَوْ يُفَكُّ أَسيرُ

حيث عارضَ قصيدة أبي نواس المشهورة، التي قالها في رحلةٍ إلى مصر، قصد فيها مدح الخصيب، وقد عارضها كثير من الشعراء القدامى والمحدثين:

أَجارَةَ بَيْتَيْنا أَبوكِ غَيُورُ

وَمَيْسُورُ ما يُرْجَى لَدَيْكِ عَسِيرُ

وَإِنْ كُنْتِ لا خِلْمًا، وَلا أَنْتِ زَوْجَةٌ

فَلا بَرحَتْ دوني عَلَيكِ سُتورُ

ولا يكاد ينسلخ عصرٌ حتَّى يأتي آخر تكون المُعَارضات فيه أَحَدَ أسباب رواج الشعر وذيوعه، لا سيَّما وقد أصبحت المُعَارضات تُمثِّل ضربًا من تجويد الشعر وتحسينه، بل وتعليمه.

وقد جاء الشعر في العصر المملوكي يحمل نماذج عديدة من المُعَارضات، ومن الشعراء من عارض سابقيه، ومنهم مَن عارض مُعاصريه، كما في مُعَارضة البوصيري لكعب بن زهير، ومُعَارضة صفيّ الدين الحلّي للبوصيري، وفي هذه النماذج مثلما تتَّضح الجوانبُ التقليديَّة؛ تَتَعَدَّدُ الجوانب الإِبداعية التي ينفرد بها أحد الشعراء عن الآخر، ولا نعدم جانب التفوق لدى المتأخر منهما.

الْمُعَارَضَاتُ فِي الشِّعْرِ الْحَدِيث

ذهب كثيرٌ من الشعراء العرب المعاصرين إِلى مُعَارضة النصِّ الشعري السابق القديم والحديث، وتعدُّ هذه المُعَارضات من الشواهد الحيَّة على التداخل النصيِّ، وقد تأتي المُعَارَضة من باب إِلصاق النص الحاضر بالنصِّ الغائب لغرض فنّي، أو لغرض إِكساب النص الحاضر الشهرة المُتَحَقِّقَة في النص السابق، بِالإِضافة إِلى أَنَّ الإِعجاب بالنصِّ السابق يُمثِّل في الأَساس الباعث الأَوَّل على إِقامة المُعَارَضة. وكان من أَشهر المُعَارضات في الشعر الحديث مُعَارضات محمود سامي البارودي، وأحمد شوقي، وقد شهدت هذه الفترة سيلًا من المُعَارضات لقصائد مشاهير الشعراء من العصور الأَدبيَّة السابقة، من أمثال امرئ القيس، والنابغة الذبياني، وأبي نواس، وأبي تمام، والبحتري والمتنبي، وابن زيدون والبوصيري وغيرهم، ومن ذلك مُعَارضة البارودي لقصيدة الشريف الرّضي، وقد نظّمها البارودي على بحر الطويل، وجاءت الباء المضمومة رويًّا:

سِوَايَ بِتَحْنَانِ الأَغَارِيدِ يَطْرَبُ

وَغَيْرِيَ بِاللَّذَّاتِ يَلْهُو وَيُعْجَبُ

وَما أَنَا مِمَّنْ تَأْسِرُ الْخَمْرُ لُبَّهُ

وَيَمْلِكُ سَمْعَيْهِ الْيَرَاعُ الْمُثَقَّبُ

حيث عارضَ قصيدة الشريف الرضي التي مدح فيها أهل البيت عليهم السلام:

لِغَيْرِ العُلَى منّي القِلَى والتَّجَنُّبُ

وَلَوْلَا العُلَى مَا كُنْتُ فِي الْحُبِّ أَرْغَبُ

إِذَا اللهُ لَمْ يُعْذُرْكَ فِيمَا تَرُومُهُ

فَمَا النَّاسُ إِلَّا عَاذِلٌ أَوْ مُؤَنِّبُ

ومن ذلك أيضًا قول شوقي في رحلته إِلى الأَندلس:

اختلافُ النَّهَارِ وَالليلِ يُنْسِي

اذْكُرَا لِي الصِّبَا، وأَيَّامَ أُنْسِي

مُعارِضًا البحتري في «سينيَّته» المشهورة التي يصف فيها إيوان كسرى بالمدائن ويتعزَّى به:

صُنْتُ نَفْسِي عَمَّا يُدَنِّسُ نَفْسِي

وَتَرَفَّعْتُ عَنْ جَدَا كُلِّ جِبْسِ

لقد تفوَّق البارودي وشوقي في إِعادة إِنتاج التراث الشعري، وهو ما أسهم في عودة القصيدة العربيَّة إِلى قوتها قبل أَنْ يتدنى محتواها، ويتراجع مستواها الفني، ومعظم الدراسات التي تناولتْ شعر الإِحيائيين تشهد له بالريادة والتفرّد، لا سيَّما قصائد المُعَارضات التي أَعادتْ للشعر العربيِّ جزالته ونصاعته ورصانته، فضلًا عن تجاوزها الأَنماط التقليديَّة.

عَوْدٌ عَلَى الْمَفْهُوم

لم يختلف مفهوم المُعَارضة حديثًا عمَّا استقرَّ في ذاكرة النقد القديم إِلَّا فيما يبدو من صياغةٍ تكون أكثر تفصيلًا؛ ويظلُّ تحرِّي الاتفاق في الوزن والقافية أَمرًا ضروريًّا باعتبارهما ركنًا أَساسيًّا في إِقامة المُعَارضة، أَمَّا تماثُل الموضوع فلم يكن بالضروريّ، وقد وضع الشايب تصورًا للمُعَارضة الشِّعْريَّة بِأنْ «يقول شاعر قصيدة في موضوع ما من أي بحر وقافية، فيأتي شاعر آخر فيعجب بهذه القصيدة لجانبها الفني وصياغتها الممتازة، فيقول قصيدة من بحر الأُولى وقافيتها، وفي موضوعها أو مع انحراف عنه يسير أو كثير، حريصًا على أَنْ يتعلق بالأَول في درجته الفنية أو يفوقه فيها دون أن يـعرِض لهجائه أو سبِّه، ودون أن يكون فخره صريحًا علانية؛ فيأتي بمعانٍ أو صور بإزاء الأُولى تبلغها في الجمال الفني، أو تسمو عليها بالعمق أو حسن التعليل، أو جمال التمثيل، أو فتح آفاق جديدة في باب المُعَارضة».

وعرَّفها جبور عبدالنور بأَنَّها «بابٌ من أبواب الشعر التقليدي الذي يتصدى فيه شاعر لقصيدة زميل له، قديم أو معاصر، فينظم أبياتًا على وزنها وقافيتها، ويقف منها موْقفَ المُقَلِّد إعْجابًا بها، أو يناقض زميله فيثبتُ ما أنكر، أَو يُنكرُ ما أَثبتَ».

وعلى الرغم من تأكيد أحد النقاد أَنْ يكون المُعَارِض «مُلتزمًا الوزن والقافية وحركة الروي، فضلًا عن المضمون بالمتابعة والاحتذاء مجاريًا ذلك الشاعر محاولاً بلوغ شأوه/ ثُمَّ محاولاً التفوق والإبداع»، فقد جعل من المُعَارضة أَيضًا «أن يلتزم الشاعر المتأخر الوزن والقافية وحركة الرويّ، ثم يعكس المعنى على نحو ما نجده في معارضة ابن عبدربّه لصريع الغواني»، وقد عَدَّ ما ذَهبَ إِليه أَوَّلاً مِنْ قبيل المُعَارضة التامة.

فلا يكون الاتفاق في الموضوع شرطًا، بل للمُعَارِضِ أَنْ يأتي بمُعَارضته في الموضوع نفسه، أو ينحرف عنه انحرافًا يسيرًا أو كثيرًا؛ مِمَّا يُدخل «قلب الموضوع» ضمن إِجراءات المُعَارضة اختيارًا، وهو ليس القلب المعهود في النقيضة، فالمُعَارضة ليست النقيضة، لكنَّها تُشْبِهُهَا.

المُعَارَضَةُ الْمُخَالِفَةُ والتَّنَاصُّ الإِيجَابِيّ

لقد أَفرختْ التعريفاتُ المختلفة للمُعَارضة، والأقاويل التي ذُكِرتْ حولها رَأْيًا يَكْمُنُ في أَنَّ المُعَارضة تقوم إِمَّا على الاتفاق من خلال التَّحقُّق التام لعناصرها مِنَ الوزن والقافية والمضمون، أو على الاختلاف بِقَلْبِ المضمون أو مُخَالفته (ليس أكثر من ذلك على الأَنْجح).

وقد شهدتْ القصيدةُ المُعَارِضة في الشعر الحديث نزعةً نحو المُخَالَفة والسُّخرية والتهكم، على أَنَّ المُجَارَاة في اللفظ والمباراة في المعنى لا يَقْتَضِيَان بِالضرورةِ الاتفاق الدلالي التام؛ فجاءتْ المُعَارضة في معنى المُخَالَفة، وهو ما تقوم عليه المُعَارضة السَّاخرة «أَي التقليد الهزلي أو قلب الوظيفة بحيث يصير الخطاب الجدي هزليًا، والهزلي جديًّا... والمدح ذمًّا والذم مدحًا»، وكنتُ أَشرتُ إِليها ضمن التناص الإِيجابي مِنْ كتابي «أُسلوبيَّة التناص والاستدعاء»، فالمُعَارضة السَّاخرة بِوصفها مظهرًا مِنْ مظاهر التناص، أو مجالًا مِنْ مجالاته تَتَحَقَّق مِنْ خلال نقض بنية النص الغائب، وتفكيكها، ورفض المعنى المنبثق عن النصِّ الأَصلي، بمعنى نفيه إِذا كان مثبتًا، أو إِثباته إِذا كان منفيًا، أو تحسينه إِذا كان مُقَبَّحًا، أَو تقبيحه إِذَا كان مُحَسَّنًا، أَو مدحه إِذا كان مذمومًا، أَو ذمِّه إِذا كان ممدوحًا، أَو غير ذلك من مظاهر رفض المضمون ومُعَارضته، كل ذلك في سياق جديد، ويتحقق التناص للبنية الجديدة من خلال التقاطع مع البنية القديمة، أو النص المُعَارَض في المضمون والشكل على السواء، ويبدو في المضمون من خلال قَلْبِه، ذلك أَنَّ قلبَ المضمون يُعَدُّ أحد صور التقاطع الإِيجابي. ومِنَ المُعَارضات السَّاخرة ما جاءَ (مُفْردًا) أَو مُستقلًا، مثل مُعَارضة إِبراهيم طوقان:

شوقي يقول: وما درى بمصيبتي

«قم للمعلم وفّه التبجيلا»

اقعدْ، فديتُك، هل يكون مُبَجَّلًا

من كان للنشءِ الصغارِ خليلا؟!

ويكاد «يَفْلقُني» الأَميرُ بقوله:

«كاد المعلمُ أَنْ يكون رَسُولا»!

لو جرَّب التعليمَ «شوقي» ساعةً

لقضى الحياةَ شقاوةً وخُمُولا

حسبُ المعلمُ غمَّةً وكآبةً

مَرْأَى «الدفاترِ» بُكرةً وأَصيلًا

والتي عارض بها قصيدة شوقي:

قُم لِلمُعَلِّمِ وَفِّهِ التَبجيلا

كادَ المُعَلِّمُ أَن يَكونَ رَسولا

ومِنَ المُعَارضات السَّاخرة ما جاءَ «غير مُفْردٍ»، أَو غير مُستقلٍ، وهي التي أَنشَأَهَا الشاعرُ أثناء سير القصيدة، حيث يَعْمدُ فجأةً إِلى مُعَارضة قصيدة ما، في جميعها أو في جزءٍ منها، ومثال ذلك مُعَارضة محمد الشهاوي:

أراها تقطع الأيام بحثًا

وما غيرُ الرمال لها سفينُ

تُراودها المُنى طوْرًا، وطـوْرًا

تُساورها الوساوسُ والظنونُ

تسير وملء عينيها ذهولٌ

وفوق جبينها ارتسمتْ شجونُ

تودّ لقاءهُ في أيِّ وادٍ

وآهٍ لو دَرَتْ أنَّى يكونُ!

(تسائلُ عن حُصَيْنٍ كلَّ ركْبٍ

وعند جُهيْنَةَ الخبرُ اليقينُ)!

ذلك أنَّه أَثناء سير القصيدة القائمة في الأصل على شعر التفعيلة عَمَدَ إلى مُعَارَضةِ أبياتِ الأخنس الجهنيّ التي مطلعها:

وَكَمْ مِنْ ضَيْغم وَرْدٍ هَمُوسٍ

أبي شِبْلَيْن مَسْكَنُهُ العَرِينُ

وقد استدعى النصَّ من سياقه، وزمانه، إلى سياق جديد وزمان جديد؛ ليصبح هناك أكثر من «صخرة»، تُسائل عن فقيدها، وأكثر مِنْ «حُصَيْن» ضلَّ سبيله، أو قُتِل ولم يتم التعرف عليه، أو الوصول إِلى جسده، كما أَنَّ هناك أكثر من خيانة، بل وأعظم وأفدح! ومن تلك المُعَارضات قوله:

 أخي إِنَّ أرضك نهبُ الرَّدَى

وجاوزَ فيها النجيعُ المَدَى

وأضحتْ بلادُك رهنَ الدمارِ

ولا من جهادٍ! ولا من فِدَى

ولا من جيوشٍ لنا «قادرينَ»

ولا من صليلٍ! ولا من صدَى

أخي أيُّها العربيُّ الخليُّ

لتبكِ الكنيسةَ والمسجدَا

وأبلغْ «يسوعًا» بما قد دهانا

وأخبرْ بخيبتِنا «أحمدَا»

أخي إنَّنا لم نمتْ ميتةً

تسرُّ الصديقَ وتُبكي العِدَى

ولكنَّنا - آهِ - مِتنا انزواءً

وذُقنا الرَّدَى لم نُحرّكْ يدَا!

يُعارِضُ قصيدةَ علي محمود طه:

 أَخِي، جَاوَزَ الظَّالِمُونَ المَـدَى

فَحَقَّ الجِهَادُ، وَحَقَّ الفِـدَا

حيث التحم مع النصِّ السابق في الوزن والقافية، مُخَلِّصًا النص القديم من سياقه، وداعمًا لسياق جديد فيه ملامح التهكم. ليس التهكم لذات التهكم، وإِنَّما للغصّة والاحتقان والمرارة التي عاشها الشعب والوطن العربي جرَّاء الهزائم، والتخاذل العربي.

ومِنَ المُعَارضات السَّاخرة أَيضًا مُعَارضة أحمد الطريبق:

يا دهر، البسطُ متى غدُه؟

أزمانُ الوصلة مطلقه؟

يُعارضُ بِها قصيدةَ الحصري القيرواني:

يا ليلُ الصبُّ متى غدُه؟

أقيامُ الساعةِ موعدُه؟

ومنها أَيضًا مُعَارضة سالم الرميضي، مِنْ قصيدته «ذي قار الألفية الثالثة»:

على قدر أهل الحزم تُجنى المغَانِمُ

وأكرم بصفّ بالوغى متلاحم

وللحزم أُسْد ليس تُرعبها الوغى

جميعهم للموت هاوٍ وهائم

تذكِّر في ذي قار والحنوِ من نسوا

فهيهات لن يقوى العدى أَنْ يُقاوموا

يُعارِضُ في ذلك قصيدةَ المُتنبي:

عَلَى قَدرِ أَهْل الْعَزْم تَأْتِي الْعزائمُ

وَتَأْتِي عَلَى قَدْرِ الْكِرَامِ الْمَكَارمُ

شِعْرِيَّةُ الْمُعَارَضَات

إِنَّ أكثر ما يشغل هذه القراءة هنا هو إِثبات شعريَّة هذا اللون الشعريّ، لاسيَّما وقد عدَّه بعضُ النقاد من قبيل الصَّنْعة والتقليد، غير أَنَّ المُعَارضة تَحْظى بكثير من المفاتن الشِّعْريَّة، وعلى الرغم مِنْ أَنَّ المُحَاكاة هي الأصل في المُعَارَضات؛ فإِنَّ هذه المُحَاكاة لا يُمكن أَنْ يكون الغرض منها التقليد وحسب؛ ذلك أَنَّ الشعر ينبثق في الأساس عن المُحَاكاة القائمة على الخلق والإِبداع، وليس النسخ، واللذة لإِتمام تلك المُحَاكاة، وإِنْ كان التقليد قد استغرقَ مساحةً كبيرةً مِنَ المُعَارَضات، فَإِنَّ هناك مساحةً كبيرةً أُخرى قد اجْتَمَعَ لها كثير مِنْ أَسباب الشِّعْرِيَّة.

ونحن إِزاء فن شعريّ لم يختفِ وُجوده فِي عصرٍ مِنَ العُصُور الأَدبيَّة؛ ذلك للرَّغبة المُلِحَّة لدى الشعراء في البحث عن النَّمُوذج مِنْ أَجلِ بناء قصيدة مُمَيَّزَة، ولعلَّ هذا ما يُؤكِّد لنا أَنَّ القصائد التي تمَّتْ مُعَارَضَتُها كان لها مكانٌ مِنْ قَلْبِ وعَقْلِ مُتَلقِّيها، وأَنَّ المُعَارَضةَ حدثتْ بناءً على إِثارة نابعة من القصيدة السابقة؛ لما توافر لها من مظاهر إِبداعيَّة سامِقَة.

ولعلَّ أَكثر المُعَارَضات فتنة تلك التي جاءتْ مُتَّسِقَةً فِي الوزن والرَّوِي، ومُخَالِفة، أو مُعَاكِسة في المعنى؛ ذلك أَنَّ الشاعر يكون فيها أكثر تَحَرُّرًا، ولديه فرصة لزيادة مناحي الشِّعْرِيَّة للنصِّ من لغةٍ وصورٍ ومُوسيقا وغيرها، وإِنَّ الْمُخَالَفَةَ أَو عملية القلب في حدِّ ذاتها تدخل ضمن المظاهر الأُسْلُوبِيَّة؛ حيث يَكْمن التناصُّ الإِيجابيُّ في مجيء المُعَارَضة بِمَعْنَى المُخَالَفة، في حين تكون المُعَارَضة التَّامة، أو المُمَاثِلة أقرب إِلى التناصِّ السلبيِّ الذي يكون أكثر احتمالاً للاجترار.

وإِنْ كان هذا اللون مِنَ الْمُعَارَضات المُخَالِفة مِمَّا يندرج تحت ما يُسَمَّى المُعَارَضة النَّاقِصة؛ فإِنَّ هذا النقصان سبيل إِلَى كسر التَّابُوهَات، وتجاوز النَّماذج الجاهزة التي تُقيِّد فكر الشاعر وتُلْجم لغته، عَلَى أَنَّ هناك كثيرًا مِنَ المُعَارَضات التَّامة، أو المُمَاثِلة قد أَثْبتَتْ تَفوُّقَها. ويكون الاتكاء على القالب الشعريِّ السابق في «الوزن والقافية» - مِمَّا يُقِيم المُعَارَضةَ - مع التصرف في الأَلفاظ والموضوع فيه شيء من الرَّمز، ويأتي بمنزلة قناع يُسقط من خلاله الشاعر تجربته، كما مرَّ في بعض النَّمَاذج السَّاخرة.

وتبدو المُعَارضة أَكثر شِعْرِيَّةً؛ عِنْدَ تَحَقُّقِ القدرة على هَدْمِ النصِّ السابق، وإِعادة بنائه، وقابِلِيَّته لِأَنْ يُصبح خلفيةً لكثير مِنَ المضامين التي يُمْكن أَنْ تُجْرَى مِنْ خلاله، ثُمَّ طواعيته وصلاحيته للغرض الحاضر، هذا بالإِضافة إِلى ما يُمكن أَنْ يستوعبه مِنْ مظاهر المونتاج التي تُعدُّ مِن الإِمكانات الأُسْلُوبِيَّة للتناصِّ، والتي تدرأُ شبهة التقليد وتنفي دعوى الاجترار.

المصدر: 1

تابعونا على الفيسبوك

مواضيع تهم الطلاب والمربين والأهالي

حكايات معبّرة وقصص للأطفال

www.facebook.com/awladuna

إقرأ أيضًا                                         

سنة الزواج الأولى وعواصفها

الكتابة للأطفال ليست ترفاً

سيكولوجية الموضة

موقع طفلك بين القيادية والتبعية

حياتنا اليوم وفن المحادثة الضائع

للمزيد

حدوثة قبل النوم قصص للأطفال

كيف تذاكر وتنجح وتتفوق

قصص قصيرة معبرة

قصص قصيرة معبرة 2

معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب

الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية

إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن

استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط

قصص قصيرة مؤثرة

مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم

تربية الأبناء والطلاب

مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات

أيضاً وأيضاً

قصص وحكايات

الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور

شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور

الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها

تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات

كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها

مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق