مي زيادة
مي زيادة اسم أدبي لامع، هي شاعرة ومترجمة وصحافية وناشطة حقوقية لبنانية معروفة، وقد عاشت أزهى سنوات حياتها بمصر في النصف الأول من القرن العشرين.
هي
امرأة حرّة وذات كبرياء، وقد تم اختزال كل إسهاماتها الأدبية ومبادراتها الثقافية
وحيويتها الاستثنائية في أمرين اثنين: صالونها الأدبي الذي أشرفت عليه ومنحته
الحياة بانتظام خلال سنوات طوال بالقاهرة، وعلاقتها الوجدانية مع المبدع المتفرّد
جبران خليل جبران التي دامت هي الأخرى لسنوات، وأثمرت نصوصًا أدبية جذابة على شكل
رسائل لم يتوقفا عن تبادلها. واظب العديد من المثقفين العرب المكرّسين على حضور
صالون مي الأدبي، لأنهم كانوا يحسون أنهم إزاء منتوج ثقافي جديد في لحظة تاريخية
لم تكن واضحة الملامح.
كان ذلك الصالون سابقًا لأوانه بمعنى من المعاني، وكان مساحة للانطلاق وتبادل الآراء واستكشاف المغاير في عالم الثقافة والأدب، وقد اشتهر بين نخب البلدان العربية، وأصبح نموذجًا يحتذى.
ويكفي أن نذكر أنّ من بين الذين كانوا يرتادونه، نجد الأسماء الوازنة التالية: طه حسين وعباس العقاد ولطفي السيد ولوي ماسينيون وسلامة موسى.
في ذلك الصالون، كانت مي، التي اختارت أن توقّع بعض إصداراتها تحت اسم إزيس كوبيا، تحاور وتساجل وتنصت وتستمتع وتدير الأحاديث بسلاسة ودراية وبمسحة أرستقراطية واضحة، متشبهة في ذلك بأرقى الصالونات الأدبية في باريس أو لندن.
غير أن ذلك كشف من جهة عن عدم نضج وانفصام في الشخصية لدى بعض مرتادي الصالون الذين لم يروا في مي سوى الجانب الأنثوي الجذاب، ولم يقدّروا كما يجب أنهم يتعاملون مع مثقفة وأديبة تحترم نفسها وإبداعها وقناعاتها، فسعى البعض منهم إلى نسج علاقات عابرة معها.
وقد رفضت مي ذلك بصرامة، وفضّلت أن ترتبط، بشكل يدعو إلى الدهشة، بالأديب جبران خليل جبران، وحرصت على أن تظل علاقتهما عن بُعد ولم يلتقيا ولا مرة واحدة، رغم أنهما لم يتوقفا عن تبادل الرسائل ما بين عامي 1914 و1931، إلى أن توفي مبدع العمل الرائع (النبي).
بعد لحظة المجد الموصوفة أعلاه، جاءت لحظة انهيار تضافرت جملة ظروف لتجعل منه انهيارًا مؤلمًا وسقوطًا مدويًا على إثر مؤامرة كُتب لها أن تنجح، فقد توفي والدا مي، ثم توفي أخوها، وبفارق زمني قصير، توفيت الوالدة هي الأخرى، فأصيبت مي باكتئاب شديد، فقام بعض أقاربها بالتآمر لإدخالها مستشفى العصفورية للأمراض العقلية في بيروت، بهدف الاستيلاء على أملاكها، بحجّة أنها في وضع صحي مهتز وتحتاج إلى رعاية وحجر، وكذلك كان.
ومما راج، أنه خلال مقامها بـ «العصفورية»، قاومت مي بشدّة لتظل على قيد الحياة وقيد العقل، وأنها كانت تستمد قوتها من الكتابة، وأنها كتبت بذلك المستشفى الكئيب عملًا عبارة عن يوميات سجلت فيها معاناتها. وتم الحديث في أكثر من مناسبة وسياق عن هذه اليوميات، لكن لا أحد تصفّحها واطلع على محتواها.
فهل كتبت مي بالفعل تلك اليوميات، أم أن الأمر يتعلق بإشاعة تداولها البعض دون التأكد من صحتها؟
صيغة تخيلية
يبدو أنه لا أحد يمتلك الإجابة الحاسمة، لكن ما هو مؤكد أن الأمر نوقش في العديد من الجلسات الثقافية بهمس واحتراس، كما أن من المؤكد أن صيغة تخييلية روائية لهذا المخطوط الضائع اقترحها علينا الكاتب الجزائري واسيني الأعرج في روايته "مي... ليالي إيزيس كوبيا، ثلاثمئة ليلة وليلة في جحيم العصفورية".
لقد التقط المؤلف فكرة المخطوط المفقود وجعل منه ومن شخصية مي محور روايته في جزأيها: التقديم ومتن المخطوط، وجعل من مي شخصية تتأرجح بين البعد الواقعي باعتبارها أديبة عاشت بالفعل وخلّفت العديد من المؤلفات، وكانت طرفًا في العديد من الوقائع التي يمكن التأكد من حدوثها، وبين مي باعتبارها شخصية روائية تخيّل الروائي الأعرج تفاصيل مقامها بمستشفى العصفورية، وكتب نيابة عنها، بعد تماهيه معها وتسقُّطه لأخبارها، يومياتها الأليمة، فملأ فراغاتها وبياضاتها باختلاقه ما اعتبره الأقرب إلى تجربتها، خاصة أنه لم يُخف على الإطلاق انحيازه لصفّها واقتناعه بريادتها.
تتوزع رواية «مي» إلى جزأين: التقديم ومتن المخطوط. يمتد التقديم على أزيد من أربعين صفحة، وهو يضيء عملية البحث عن المخطوط الذي قد تكون مي خلّفته وسجلت فيه عذاباتها بمستشفى العصفورية. وموضوعة البحث عن مخطوط ما هي حيلة سردية وذريعة فعالة لشد انتباه القاري وإثاره فضوله، وقد سبق لعديد الأدباء أن استثمروها في إبداعاتهم، مثلما هو الأمر مع الأديب اللبناني أمين معلوف في رواية سمرقند، أو مع الروائي والمنظّر الإيطالي أمبرتو إيكو في رواية اسم الوردة، وغيرهما.
ومن يقوم بعملية البحث عن المخطوط في رواية مي هو ياسين الأبيض الذي يشتغل بمكتبة جامعية في باريس والباحثة الكندية روز خليل، وهما معًا كُلّفا بإنجاز فيلم وثائقي لفائدة قناة تلفزية غربية عن حياة مي وعن إسهامها في الحياة الأدبية خلال النصف الأول من القرن العشرين وعن مخطوطها الثمين الذي تبخّر في ظروف غامضة.
نهاية سعيدة
وهنالك عدة مكونات وتوابل جعلت الجزء الأول من رواية الأعرج يقترب من أجواء روايات الملاحقات والتشويق والمغامرات، فقد تعرّض ياسين، الشخصية الرئيسة ومرافقته روز، لتهديدات بالقتل من طرف مجهولين لم يكن من مصلحتهم، على ما يبدو، أن يتم العثور على المخطوط والاطلاع على مضامينه، ووجدا نفسيهما بأزقّة متربة ومنازل معتمة في حواري القاهرة العتيقة، بل وحتى في بناية مستشفى العصفورية المهجورة، طرفًا في مفاوضات ومساومات مع وسطاء وسماسرة غير مأموني الجانب، ومع شهود لا يريدون الكشف عن هوياتهم، ويطرقون أكثر من باب للحصول على المخطوط، ولو كان ذلك مقابل تأدية مبالغ مالية محترمة. بل إن الشخصيتين الرئيستين، ياسين وروز، أجّلتا سفرًا إلى باريس للقاء أحد الوسطاء، وكان هذا التأجيل سببًا في أنهما ظلا على قيد الحياة بعد تحطُّم الطائرة التي كان من المفترض أن يستقلانها. لقد أنقذ المخطوط حياتهما. وينتهي هذا الجزء الأول نهاية سعيدة، إذ تمّ العثور على المخطوط، وقرر ياسين نشره لننتقل بذلك إلى الجزء الثاني من الرواية.
الجزء الثاني من الرواية هو بمنزلة إعادة كتابة لمخطوط مي زيادة المفقود وتخيّل لتفاصيل المأساة التي عاشتها. هو صيغة تخيّلها الأعرج اعتمادًا على معطيات متناثرة ومنح للمخطوط العنوان التالي: «مي زيادة (إيزيس كوبيا)، ليالي العصفورية... تفاصيل مأساتي، من ربيع 1936 إلى خريف 1941 »
وتم تأكيد أن النسخة المعتمدة هي «النسخة الأصلية الكاملة التي تم العثور عليها في صحراء الجيزة، ودير عينطورة في بيروت، بتحقيق وترتيب وتعليق روز خليل وياسين الأبيض». وبالطبع فروز وياسين المذكوران هاهنا هما الشخصيتان اللتان تعرّفنا عليهما في الجزء الأول من الرواية.
يتعلّق الأمر بيوميات مكتوبة بضمير المتكلم، أو بالأحرى بضمير المتكلمة، وتندرج ضمن أدب الأنا والمكاشفة. في هذه اليوميات نعثر، منذ البداية، على تعاقد سيرذاتي واضح تبرمه الكاتبة مع القراء، وكأنه تصريح بالشرف مفاده ما يلي: «أنا مي ماري إلياس زيادة، ولدت في عام 1886، من خلطة دينية ومكانية غريبة (فلسطين ولبنان) عمري اللحظة تخطى عتبة الخمسين بقليل، لا شهادة لي وأنا أكتب هذه اليوميات إلّا صرختي التي لن يسمعها أحد غيري (ص 56 من الرواية) » يتعلق الأمر بصرخة استغاثة ويأس تصف فيها كاتبة اليوميات تفاصيل المحنة والمأساة التي عاشتها.
وضع ضاغط
يبتدئ المخطوط، المبني على بعض العناصر الواقعية ووقائع حدثت بالفعل، كما يلي: «باسم الحياة ألقاني أولئك الأقارب في دار المجانين أحتضر على مهل» (ص 51) وودار المجانين تلك هي «سجن قبل أن يكون مستشفى» (ص 54)
ولتقاوم هذا الوضع الضاغط، شرعت الساردة في الكتابة: «أكتب فقط، وأعاود الكتابة، لكيلا أموت اختناقًا بالجنون والجحود» (ص 54)
وحينما أتيحت لها الفرصة، عرضت قضيتها على من بدا أنه مستعد للإنصات إليها: «أنا مظلومة، أنا هنا عن طريق الخطأ. يا سيدي الحكيم، لا مسؤولية لي فيما حدث، لست مجنونة
(...) أنا كاتبة معروفة، وكان لي في القاهرة صالون كبير معنيّ بأكبر الكتّاب» (ص 109)
وعن هذا الصالون تحديدًا وعن علاقتها بمجمع المثقفين، تقول الساردة: «اكتشفت وأنا بينهم في الصالون أن هذا العالم الجديد الذي كانوا يبشّرون به ليل نهار، محكوم عليه بالموت اختناقًا، اليوم أو غدا أو بعد مئة سنة، ما دامت المرأة لا سلطان لها فيه، ولا تشترك في صناعته» (ص 158)
حكم قاس من طرف امرأة متنورة. وتستنجد مي، حتى لا تجنّ حقيقة، بذكرياتها وتستحضر صورًا قريبة من قلبها ومن طفولتها: «أول ما كنت أسمعه في كل صباح بالناصرة هو صوت العصافير، ممزوجًا بريح خفيفة تذكرني دومًا بأن الربّ يسمع كل نداءاتي الخفية» (ص 139)
وتقول لنا بزهو لا تستطيع إخفاءه: «كان أبي يضمني إلى صدره ويقول: لا يمكن للعالم أن يسير بلا مغامرين رائعين ولا مجانين أحرار ( ص 118) ثم تعود إلى الحاضر الضاغط وإلى الواقع المؤلم لتعلن «لن أسهل للموت مهمته» ( ص 188)، وليصبح التشبث بالعيش في حدّ ذاته مقاومة.
ظلم فظيع
ومعركة مي، كما يصورها الأعرج، هي سعيها الحثيث للبرهنة على أنها كانت، لما أودعت مستشفى العصفورية، في كامل قواها العقلية والإبداعية، وأنها تعرّضت لظلم فظيع لتجريدها من أملاكها وحقوقها. والساردة تدافع عن قضيتها وتمنحها قوة الاستعارة التي تتجاوزها وتربطها بوضع سياسي وثقافي وفكري محدد: «في النهاية لست إلا امرأة صغيرة، سقط متاع أمام ذكورة متجبرة وقوانينها» ص(88) ولتؤكد أن حالتها ليست استثنائية ولها ارتباط وثيق بالعلاقة المتوترة التي تنسجها النخب العربية مع الحداثة وقيمها ولتسلّط الأضواء على التعامل المتذبذب للمثقفين العرب مع النساء حينما تُطفأ الأضواء ويغيب الشهود، خاصة إذا كان هؤلاء النساء متميزات ولهنّ صوتهن الخاص والمسموع.
وسرعان ما أصبحت قضية مي قضية رأي عام، وخصصت لها مجلة المكشوف، التي كانت مؤثرة حينذاك، عددًا كشفت فيه عن المستور، وتدخّل في تدبير القضية سياسيون وصحفيون وأدباء وأمير مشرقي ورجل أعمال سخيّ، وكانت النتيجة أن خرجت ميّ من مستشفى العصفورية، وحلّقت كعصفورة في سماء الإبداع مجددًا، واستقرت بمنزل أهداه لها الأديب أمين الريحاني.
وكان أن تلقت دعوة لإلقاء محاضرة بالجامعة الأمريكية في بيروت، بتاريخ 22 مارس 1938 في موضوع «رسالة الأديب في الحياة العربية».
في البدء، ترددت في قبول الدعوة، إلّا أنها اقتنعت بأن المطلوب منها هو «النجاح في مهمة انتحارية» ص 314))، وكان للمحاضرة صدى مدوّ، وحققت نجاحًا على الطريقة الأمريكية، أو هكذا صوره على الأقل الروائي الأعرج، حينما نقل على لسان الساردة هذا الوصف الوردي: «رأيت باقات الورد مع العشرات من شباب الجامعة، كلها كانت تتزاحم نحوي. والأيادي تتدافع لتحيتي، بينما كانت الزغاريد تشقّ فضاء الويست هول الواسع» ص (323)
ومما ورد في المحاضرة تأكيد صاحبتها أن: «رسالة الأديب تعلّمنا ألا نخشى كارثة، ولا نتهيب مغامرة» ص (321) وكان ذلك ينطبق بشكل باهر على مي التي جنبتها تلك المحاضرة «نهاية مأساوية» ص (345) ومنحتها إحساسًا دفينًا وعميقًا بالحرية، وبأنه قد أعيد لها الاعتبار.
الأمنية الأخيرة
وعادت مي إلى القاهرة، وبعد فترة وجيزة وافتها المنيّة، وبالضبط في شهر أكتوبر عام 1941 ، ومزجت في زفرتها الأخيرة بين إحساس بالألم وشعور بالخلاص: «أخيرًا دوّنتك يا وجعي وهمّ قلبي» ص(367).
في حين عبّرت عن أمنيتها الأخيرة بهذا الهدوء الجارح: «إني أموت، لكني أتمنى أن يأتي بعدي مَن يُنصفني» ص (382)، ولم تكن جنازتها تليق بمقامها وبوجاهتها. وهكذا تعرّضت للظلم وهي حيّة، ولاحقها الجحود وهي ميتة.
وينتهي الجزء الثاني من الرواية لنعود إلى أجواء الجزء الأول، وليقول لنا ياسين بكل أسى: «كانت رائحة المخطوط حزينة وأنا أغلقه» ص (370)، وكانت هذه هي الخلاصة التي اقتسمها معنا عند زيارته لقبر ميّ: «هذا قبر كاتبة لم يظلمها أفراد عائلتها فقط، ولكن عصرًا ذكوريًا جامدًا بكامله» ص (377).
وأضاف ياسين بعد لقائه متعهد القبور: «حكيت له قصة مي كاملة، من يومها حفظها لدرجة أنه نسي أنّي أنا من لقّن له تلك الجمل التي يكررها أمام الزائرين، وأصبح يعيدها حتى على مسمعي» ص(379).
ربما بهذه الطريقة وصلتنا قصة مي ومخطوطها المفقود، قصتها الحزينة والمؤثرة التي انتقلت من كونها مجرّد إشاعة رائجة إلى استعارة عن وضع عام ينسحب على نساء عربيات كثيرات واجهن قدرهن باستماتة وشجاعة. هي قصة تبناها الروائي الأعرج وأعاد تكييفها، ومنحها حياة جديدة وجعلنا أساسًا نتلقاها تلقيًا مغايرًا وملتبسًا نحاول عبره فصل الواقعي فيها عن المتخيل، وتمييز ما هو جوهري عن العرضي.
المصدر: 1
مواضيع تهم الطلاب والمربين والأهالي
إقرأ
أيضًا
الروائح مدخل للتسامح وفهم العالم
للمزيد
معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً
وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق