الأحد، 24 أبريل 2022

• رمزيّة الأم بين محفوظ وإدريس


نجيب محفوظ ويوسف إدريس

تمثّل كتابة القصة القصيرة بإشكالياتها المغايرة للسائد، ورمزيتها الفنية الفاعلة الموازية للواقع والمتقاطعة معه، لدى كل من الكاتبين العظيمين نجيب محفوظ، ويوسف إدريس، ملمحًا مائزًا ومؤثرًا من ملامح التجربة الإبداعية الكبيرة لكل منهما، بالرغم من أنها كانت تمثّل لدى إدريس ما يمكن أن نسميه «بقعة الضوء الساطعة» لإبداعه السردي، الذي تراوح بين القصة أولًا ثم الرواية، ثم المسرح.

وبالرغم من تواريها المتوهم في مسيرة محفوظ بفعل الآلة الإعلامية/ النقدية، التي ربما أنكرت عليه ريادته وسابقيته في كتابة القصة القصيرة منذ بداية أعماله، فكلاهما قاصّ من المستوى الذي يضع كلّا منهما على ناصية من نواصي فن القصة القصيرة الأصعب والأجدر بتمثيل خلجات الذات الإنسانية، والتعبير عنها في أقسى حالاتها مع المعاناة البشرية والإنسانية النفسية العميقة.

ثمة نقاط تـــــــماسّ وتـــــقاطع واختـــلاف وتمايز - بعيدًا عن لعبة المقارنة التي قد يعقدها البعض - في نماذج من قصص الكاتبين، وثمّة علامات تعمل على إبراز آليات الكتابة لدى كل منهما، فتشغل الرمزية - على سبيل المثال - ركنًا مهمًّا من أركان صناعة الدلالة، للعملية الإبداعية على النحو الذي قد يقدمه نصان قصصيان هما االصدىب لنجيب محفوظ، واأمهب لإدريس، فالتوجه في النصين يمضي نحو غاية الرجوع إلى حضن الأم/ الطبيعة/ الوطن.

الصدى... والصراع الأزلي

في نص االصدىب تبدو عودة الشخصية الغائبة إلى الأم/ الوطن من خلال إشكاليات عدة تتناوب الحدوث على وعيها المختزن لمرارات من التفاعل مع الحياة، وكنموذج للهروب من واقع يفرض سلطته وحاكميته، ويربطه مع الأم/ الرمز بهذه العلاقة التي ربما بعثت من بعد العدم:

 دخل الحجرة متمهلاً وبلا صوت، وبقلب يزداد انفعاله بصلابة معهودة، ثم أغلق الباب وراءه. وقف في وسط الحجرة وهو ينظر إليها بتمعّن واستطلاع. ورغم غلظته تأثر بعض الشيء. تسربت إلى أنفه الأفطس رائحة غريبة وأليفة معًا، كما تنبلج ذكرى ضائعة، فدفعته إلى أحضان الماضي... ها هو يعود إلى صميم نفسه.. وتربعت المرأة على كنبة قابضة بأصابعها على مسبحة طويلة لامست شرَّابتها البساط، ولكنها لم ترفع رأسها إليه، وكأنما لم تشعر بوجوده.

تفرض الحالة المشهدية المواجهة المرتقبة مع تلك الأم التي يشي السرد بتهتّك وشيجة العلاقة معها بفعل تلك الهوة البعيدة من الزمن، وبانسلاخها إلى عالمها الجديد المتوحد بالاتجاه إلى طقوس العبادة، المنفصل تمامًا عن عالم الابن/ الشخصية العائدة بشهوة المعرفة، وتلك الملامح المتعطشة إلى الجذور التي تحتوي وتعرّش على البدن المتلهف، في مقابل حالة السكون والجمود التي تبدو عليها المرأة/ الرمز، التي يتحول الصراع على اختراقها إلى مناجاة من طرف واحد، ترمز من ناحية أخرى إلى انقطاع هذا الأمل في التواصل، والذي أدت إليه جملة من التداعيات والحوادث المريرة، فهي التي تفتح باب رد الفعل الانفعالي الذي يساعد في فك العديد من الرموز للعلاقة المتوترة:

ومذ قدمت وأنا أتكلم وأنت تقتلين، سأذهب أقسى مما جئت، والساقية تدور ولا تحمل من باطن الأرض إلا العلقم، لم يجئ الأبناء خيرٌ منا، هيهات أن أعترض، اليوم يقطبون ويتبادلون نظرات ممتعضة، وغدًا ينطلق الرصاص، ها أنا أرى المستقبل بعين الماضي الدامية، واليوم تجمعهم صورة عائلية، كما جمعتنا صورة يومًا ما، ولكن ماذا عن الغد؟ب.

علاقات مبتورة

هذا الذي يشير إلى ميراث مُر من العلاقات المبتورة والمغرقة في الدم والصراعات، وما يعمق من قيمة الرمزية في تلك الشخصية التي أنجبت كل هذه الرموز الأخرى الممسوسة بالصراع، والتي يرى السارد برؤيته الاستشرافية انحدار الكل في ذلك السبيل الذي يمثّل صورة كربونية من الماضي الملوث، والذي تشير كل أصابع الاتهام في هذا المقام إلى تلك الأم/ الوطن الذي ترك الحال لتصل إلى ما هي عليه من التشرذم والضياع، ومن خلال الدلالة العكسية التي تسوقها رمزية الصورة العائلية التي تضغط على الوعي لتفرز هذه الحالة من عدم الثقة والأمان.

إلا أن الشخصية تعود لتقف على بعض الحقائق الغائبة حين تغيب الأم وتصبح في مرمى العدم بهذه الحالة من الصمت والقهر، لتمثّل بعدًا أكثر التصاقًا بالمعنى/ المفهوم الأعلى للوطن الذي ربما راح في غيبوبة يجسدها السارد بضميره الواخز له، والمخاطب لذاته المقموعة والنادمة، لتتجسد علاقة شائكة ربما أسقطها النص ــ بدهائه ــ على جيل كامل، وجب عليه تحمّل المسؤولية تجاه الوطن/ الأم بكل ما تعنيه الكلمة من احتواء، وبما يبرز من علاقة عكسية.

لم يكن الموقف كما تصورت، ولكنه في الحقيقة أفظع. وأنت شريك في الخيانة لا مفر. جئت تتخفف من أثقالك فضاعفتها أضعافًا مضاعفة. وها هي أنفاسها تتردد على يديك، ولكنها أبعد من نجم. كالموت غير أنه ينضح بالعذاب. وها هو الصمت وها هو السرب.

أمه... وأنسنة الطبيعة

ثمة اتجاه مغاير، واختلاف في التناول والتوجه، لتحقيق غاية من غايات الوجود الإنساني المتمثلة في شخصية نص اأمهب لإدريس، تلك التي يتجه إليها الرمز المتمثل في الشجرة/ الطبيعة الأم، وما تمثله من ملجأ للتائه الباحث عن وجود/ حضن/ احتواء، ضد واقع يفرض عليها سماته وشذوذه، ويقرّبه من الاندثار والعدم، وما يجعله إيجابيًّا في مواجهة ظروف أكثر إحباطًا وسلبية، على العكس من شخصية نص االصدىب على مستويات عدة، فالمسرود عنه في النص تنطرح سماته من خلال تجسيد حكاية السارد له، بنفس ضمير الغائب الراصد:

منذ أن طرده زوج أمه وهو يطفش، كان يحب أمه، وكانت أمه تحبه، وأبدًا لم ير أباه، إلى أن جاء ذلك الرجل وبدأت أمه تبدو ضعيفة لا حول ولا قوة لها أمامه، سكران يأتي هائجًا ومسطولًا مرة يأتي ويفرغ هياجه وسطلته في أعماق أمه المسجاة تتلوى، يأتيه صوت أنينها ولهاثها وقد أحاله وأحالها الزوج الجديد إلى سائل أنثوي ذائب من لحم طيّع وقلب بالتدريج يلين، وعنه يتحول ويبتعدب.

على عكس الأم في نص االصدىب، يأتي هنا التحول من جهة الأم الحقيقية التي يلتمس منها الولد الحنان والمقاومة من أجله، لتذيبها أحوالها الجديدة، فتضع لها ملامح مغايرة في نص مختلف يعانق ضغوط الوجود في الحياة وتأثيرها على ردود الأفعال المحتملة والمتوقع صدورها من الولد الذي لا يجد إلا الشارع كي يتلقفه ببراحة.

أمّ من نوع آخر

هنا تبدو صورة الأم( الحقيقية) بعيدًا عن الرمزية التي يُعوّل عليها في التعاطي مع هذا النموذج السلبي لها ، لتفسح المجال من خلال النص القصصي لأم جديدة من نوع آخر ــ تأتي على النقيض من نموذجي الأم والزوج الجديد الذي استهلكها ووضعها في الخانة السلبية والسليبة في الآن ذاته، والطاردين لهذا الكيان الصغير في العراء بلا مأوى - ربما لكي تلعب الشجرة/ الطبيعة/ الأم البديلة (التي صارت حقيقية) هذا الدور الذي كان ينبغي أن تلعبه الأم الأصلية، لتصير الشجرة - برغم قسوة الطبيعة في غالب الأحيان - رمزًا مجسدًا للإحساس بالأمان:

ولجأ إلى الشجرة يحتمي من السيول التي بللته حتى وصلت لنخاع عظمه، وعلى الضوء القليل القادم من عامود نور ساطع الضوء، رأى الفتحة واقترب، وبعينيه راح يتفحصها واستغرب حين وجد لها عمقًا وكأنها كهف، وللكهف من الداخل بروزات وتجعيدات، وكأنه فم عجوز يحفل ببقايا أسنان معوجة... دخل، وكأنه إلى سرداب سعادة دخل، فمجرد إحساسه أن قذائف الأمطار وسباخها المائية قد كفّت عن الدق فوق رأسه واختراق أسماله، وأنه قد أصبح في مأمن، مجرد إحساسه بهذا، سعد، فرحة كبرى غمرته، وكأنه الصعلوك قد أهدته السماء قصرًا من عجبب.

أركان حياة

هكذا تأسست له أركان حياة، تلعب فيه الطبيعة دور المنقذ، من خلال أنسنتها وتحويلها من جماد أو كائن غير واع إلى ذلك الكيان الواعي النابض بالحياة التي سلبت من الأم الحقيقية، وتبادلتا الأدوار، لتكون النتيجة هذا الزخم المعنوي عظيم الشأن، والحائز على نبض الوجود من خلال هذا التجويف الذي ربما مثّل حضنًا ورحمًا دافئًا، جاذبًا غير طارد، وممثلاً للجانب الأمومي المفتقد في حياة الصبي الذي امتلك مفاتيح التفاؤل، ومن ثم النجاح في خوض تجارب الحياة، التي تدور دورتها من خلال الطبيعة، وما إن تستقر أموره بعيدًا عنها، حتى تفاجئه بتحولاتها، لتلعب الشجرة دور الأم مرة أخرى بامتياز، بانتقال الطبيعة البشرية ودورة الذبول ومن ثم الفناء، إليها:

وفجأة وجد نفسه يقفز من الأتوبيس عند نهاية قصر العيني، ويسرع إليها ويقف مشدوهًا يرقبها. كانت أوراقها الخضراء قد جفّت وأعضاؤها الجديدة والقديمة تخشبت وبابها النباتي اندثر، كما لو كانت قد ماتت، وأحسّ بغصة ما قبل البكاء، وبكى، أمهب.

تأتي مفارقة النهاية هنا لتجسيد حالة الحزن التي جمعت الشخصيتين، وكل منهما في اتجاه مغاير للآخر، حيث أحس الأول بالندم على رحيل أمه الحقيقية التي ربما رمزت للوطن أو الحياة في مجملها، في حين حزن الولد على الرمز في أمه المتأنسنة/ الشجرة، كصورة للمفارقة الحسية المجسدة لألم من نوع آخر، مما يعبّر عن نجاح الرمز في تجسيد القيمة .

المصدر: 1

تابعونا على الفيسبوك

مواضيع تهم الطلاب والمربين والأهالي

حكايات معبّرة وقصص للأطفال

www.facebook.com/awladuna

إقرأ أيضًا                                         

السعادة دهشة الحياة وسحرها

التصرفات الخاطئة... خلع الكتف والكوع عند الأطفال

طعامك يدل على شخصيتك

سيكولوجية السوبرماركت

التعامل مع الطفل الحساس... 6 استراتيجيات

للمزيد

حدوثة قبل النوم قصص للأطفال

كيف تذاكر وتنجح وتتفوق

قصص قصيرة معبرة

قصص قصيرة معبرة 2

معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب

الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية

إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن

استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط

قصص قصيرة مؤثرة

مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم

تربية الأبناء والطلاب

مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات

أيضاً وأيضاً

قصص وحكايات

الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور

شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور

الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها

تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات

كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها

مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق