الترجمة
عندما خرج العرب من صحرائهم وسيطروا على الأقطار المجاورة والبعيدة، كانوا يحملون معهم ثروة من أدبهم الجاهلي تمثّلت في اللغة والخطابة والشّعر والحِكَم والأمثال، إضافة إلى ثروة من المفاهيم الدينية والأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية والتشريعية الجديدة التي أمدّهم بها الإسلام لتنظيم حياتهم.
وكانت
الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الكثيرة التي تحثّ على طلب العلم وتكريم أربابه
سببًا مهمًا في إقبالهم على تلقي العلم والبحث عنه أينما وُجد، حتى ولو في الصين،
باعتباره فريضة على كل مسلم ومسلمة، ومن الأسس الرئيسية لتطور الإنسان
والحضارات.
بعد أن استقرت الأوضاع السياسية في الدولة الإسلامية الجديدة، شرعت في إنشاء المدارس لتعليم القراءة والكتابة ليتمكّن أكبر عدد من الناس من مطالعة القرآن الكريم وفهم أوامره ونواهيه ونشر تعاليمه في المجتمع الجديد.
لكنّ العلم الذي يدعو إليه الإسلام ليس علم الدين فقط، بل أيضًا علوم الدنيا النافعة للإنسان، كالطب والصيدلة والفلك والطبيعة والرياضيات وغيرها، ولمّا كانت هذه العلوم غير متوافرة باللغة العربية، كان لا بدّ من ترجمتها من لغاتها الأصلية في اليونانية والسريانية والفارسية والسنسكريتية إلى لغة القرآن، لكن أيّ معنى للترجمة؟ وأيّ دور لعبته في نشأة الحضارتين العربية الإسلامية والأوربية الحديثة؟
معنى الترجمة
لو أن جميع البشر يتكلمون لغة واحدة، أو يلهجون لهجة واحدة، ويعبّرون عن أفكارهم بلسان واحد، ولهم أبجدية واحدة، لما كانت الترجمة من الضرورات الأساسية لحياتهم الدينية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية والحضارية، لكنّ وجود آلاف اللغات واللهجات في العالم، جعل من الترجمة والمترجمين حاجة حياتية ملحّة حتى لا يتحول العالم إلى برج بابل عظيم لا أحد يفهم على أحد، ولا أحد يتفاعل مع أحد، ولا تتخطى الأفكار والقيم مجتمعاً إلى آخر.
فالترجمة تعني نقل أو تحويل نص مكتوب أو شفاهي من لغة إلى لغة أخرى، أي أنها بمنزلة جسر تعبُر عليه الأفكار بين الأمم والشعوب، وهي مهنة قديمة قِدَم المجتمعات البشرية وتجري على عدّة أوجه؛ الترجمة الحرفية، وترجمة المعنى، والترجمة بتصرُّف، والترجمة الفورية، والترجمة الآلية... إلخ.
ومن خلالها يستطيع الإنسان أن يتجوّل في أرجاء مجتمعات العالم، وفي عقول العلماء والأدباء والمفكرين في الأزمنة الماضية والحاضرة.
ويقول علماء الأنثروبولوجيا إنه كان يوجد دائمًا بين القبائل القديمة أفراد أو تجار يتقنون لغات القبائل الأخرى كوسيلة للتواصل الاقتصادي والاجتماعي والفكري بينهم، وأشهر ما وصل إلينا بهذا الشأن معاهدة معقودة بين الفراعنة والحيثيين، منذ أكثر من3 آلاف سنة باللغتين الهيروغليفية والحيثية.
وكان المترجمون عند الفراعنة يحتلون مراكز اجتماعية مرموقة تعادل مراكز الأمراء، كما أن الكتب الدينية القديمة ترجمت من لغاتها الأصلية إلى لغات أخرى من أجل نشر أفكارها ومعتقداتها وشرائعها بين الشعوب التي لا تعرف لغة تلك الكتب، وترجمة العهد القديم من العبرية والآرامية إلى اليونانية من أقدم هذه الترجمات، لكنّ حركة الترجمة على نطاق واسع ومؤثر وبرعاية كبار المسؤولين في الدولة لم تحدث إلّا بالعصور الوسطى في عاصمتين عربيتين هما بغداد العباسية في الشرق، وقرطبة الأموية في الغرب، ونتج عن ذلك تفاعل ثريّ وخلّاق بين الأفكار كان من نتائجها ولادة حضارتين عظيمتين؛ العربية الإسلامية، والأوربية الحديثة، وقد اعتبرها الباحثون أعظم حدث ثقافي عرفه تاريخ العالم حتى العصر الحديث.
النهضة الحقيقية
على الرغم من ظهور بعض الترجمات في العصر الأموي (661 - 750 م) ، فإنه لم يتحقق تقدّم كبير في هذا الميدان، لأنّ اهتمام الأمويين انصبّ أولًا على ترسيخ سلطتهم السياسية وحلّ المشكلات الإدارية والاقتصادية التي واجهتهم جراء تولّيهم امبراطورية واسعة الأرجاء تضمّ شعوبًا ومجتمعات مختلفة الأعراق واللغات والأديان والثقافات، إلّا أن هذه الفترة لم تخلُ من بعض المحاولات والاهتمامات بالعلوم والفلسفة، كمحاولة الأمير الأموي خالد بن يزيد.
إلّا أن النهضة الحقيقية لحركة الترجمات لم تحصل إلا بعد قيام الخلافة العباسية في أواسط القرن الثامن الميلادي( 750 - 1250 م) وبلوغ ذروتها في عهد الخليفة المأمون( 786 - 833 م / 170 - 218هـ).
وقد أدت ترجمة الفكر اليوناني إلى العربية، لا سيما منطق أرسطو، إلى انقسام حاد بين العناصر التقدمية التي سعت إلى إخضاع نصوص القرآن الكريم إلى تدقيق النظر الفلسفي، وبين العناصر المحافظة التي عزلت نفسها عزلًا تامًا عن الفلسفة لاعتقادها بأنها منافية للتقوى، (وقد عبّر عنها الغزالي في كتابه تهافت الفلاسفة)، مما أدى إلى ظهور الفرق الكلامية الدينية المختلفة، والمذاهب الفلسفية الإسلامية.
عندما أنجز العرب سيطرتهم العملية على الشرق الأدنى عام 641 م، وهي العام نفسه الذي سيطر فيه عمرو بن العاص على مدينة الإسكندرية، كانت هذه المدينة مركزًا مهمًّا للدراسات الفلسفية اليونانية، لكنّها لم تكن المركز الوحيد لتلك الدراسات، بل كانت الثقافة الإغريقية مزدهرة في مصر وسورية والعراق، إلى القرن الرابع الميلادي، وكانت أنطاكيا، وحران، والرها، وقنّسرين من أهم هذه المراكز في سورية. أما في العراق فقد نشطت مثل هذه الدراسات في نصيبين، ورأس العين، وكانت الغاية الرئيسة لدراسة اللغة اليونانية إفساح المجال أمام العلماء السريان للاطلاع على المؤلفات اللاهوتية والمنطقية اليونانية التي صدرت معظمها عن مدرسة الإسكندرية وتُرجمت إلى السريانية لتدعيم النقاش الديني بين النساطرة واليعاقبة الأرثوذوكس (المندائيين) حول طبيعة المسيح.
حرية العمل الفكري
أبقى الفتح العربي على حرية العمل الفكري في تلك المراكز، كما واصل علماء دير قنّسرين في شمال سورية دراساتهم اللاهوتية بكل حريّة، وهذا ما حصل أيضًا في معهدين شهيرين للعلوم اليونانية هما حران في شمال سورية التي كان ثابت بن قرة من كبار علمائها، وكذلك ابنه سنان وحفيداه ثابت وإبراهيم؛ الذين أدوا دورًا مهمًا في ترجمة الكتب العلمية اليونانية إلى العربية، ثم مدرسة جنديسابور غربي بغداد التي أنشأها كسرى أنّو شروان عام 555 م، لمحاكاة مدرسة الإسكندرية، وجعل منها مؤسسة كبرى للعلوم اليونانية القديمة في غرب آسيا، حيث امتد تأثيرها في العصر العباسي إلى العالم الإسلامي كله، وقد اشتهرت بأطبائها ومدرستها الطبية ومرصدها الفلكي، ونشاطاتها العلمية والفلسفية المهمة، وعندما أنشأ الخليفة العباسي المنصور مدينة بغداد (عام 762 م) كانت هذه المدرسة لا تزال على جانب من الازدهار والنشاط، فصارت تزود الخلفاء في بغداد بالأطباء خلال ما يزيد على القرنين، وكانت أسرة بختيشوع النسطورية من أهم هؤلاء الأطباء، حيث أقاموا في بغداد إبان خلافة هارون الرشيد( 786 - 809 م) وابنه المأمون (813 - 833 م) أول مستشفى ومرصد على غرار جنديسابور.
ويعود الفضل أيضًا إلى هذه المدرسة في الاهتمام بالفلسفة اليونانية والعلوم النظرية التي شجع على ترجمتها إلى العربية ماديًا ومعنويًا جعفر البرمكي (وزير هارون الرشيد) لولعه بتلك العلوم.
وكان يوحنا بن ماسويه ( عام 875 م)، تلميذ جبرائيل بن بختيشوع معلم حنين بن إسحق، أول المترجمين البارزين للمؤلفات العلمية والفلسفية من اليونانية إلى العربية، وأول رئيس لبيت الحكمة الذي أنشأه المأمون عام 830 م.
نهضة علمية عظيمة
ازدهرت حضارة العرب المسلمين ما بين القرنين التاسع والحادي عشر الميلاديين، بعد أن حققوا فتوحاتهم الشاسعة خلال نصف قرن تقريبًا من وفاة النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، فامتد سلطانهم من الصين شرقًا حتى الأندلس غربًا، ومن المحيط الأطلسي إلى الهندي.
وقد اتّسمت هذه الفترة بنهضة علمية عظيمة اشترك في صياغتها المسلمون والنصارى واليهود والوثنيون وغيرهم، نتيجة التسامح الديني الذي أبداه المسلمون تجاه أصحاب الديانات الأخرى، مما جعل عملية التفاعل الثقافي والاجتماعي بين العرب المسلمين وغيرهم من الشعوب من أروع الأحداث التي عرفتها المجتمعات البشرية في تاريخها القديم والحديث، حتى أن بعض المؤرخين أعجبوا بظاهرة التسامح هذه إعجابًا شديدًا، فأشادوا بها، واعتبروها ظاهرة حضارية نادرة تفرّد بها العرب المسلمون، فقال العالم والمؤرخ الفرنسي لويس سيديو في كتابه «تاريخ العرب العام» (ترجمه إلى العربية عادل زعير): «إن المذهب النسطوري المسيحي تغلغل وانتشر في الأجزاء الشرقية من آسيا تحت الحماية العسكرية الإسلامية».
واستغرب العالم والمؤرخ الأمريكي جون دريبر (1811 - 1882 م) كيف أن «العرب المسلمين سمحوا للنساطرة المسيحيين بممارسة شعائرهم الدينية بحريّة تامة، بل وعهدوا إليهم في غالب الأحيان بمهمة تثقيف أبنائهم واستعانوا بأطبائهم في قصورهم».
وأضاف دريبر «أن هذا الموقف هو تحرر مذهل إذا ما قورن بتعصّب أوربا في ذلك العصر، وهو تحرّر دفع بهارون الرشيد إلى أن يجعل من يوحنا بن ماسويه النسطوري مشرفًا عامًا على التعليم في عصره، ودفع بابنه المأمون إلى أن يضمّ في مجلسه ممثلين عن جميع طوائف مملكته.
ولم يكتفِ العرب المسلمون بذلك، بل سمحوا لأصحاب الديانات الأخرى بأن يتقلّدوا المناصب الرفيعة في الدولة كالمسلمين تمامًا، وكان لهذا التسامح أثره العميق في عملية البناء العلمي والحضاري عند المسلمين.
بداية حركة الترجمة والنقل عند العرب المسلمين
يقول ابن النديم في كتابه «الفهرست» إن الأمير خالد بن يزيد بن معاوية (المتوفى عام 704 م)، كان أول من تعاطى العلم بعد ضياع حقه بالخلافة، فأمر بنقل كتب الكيمياء والطب والتنجيم من اليونانية والقبطية إلى العربية، فاشتغل بالكيمياء والبحث عن خرافة حجر الفلاسفة الذي يحوّل المعادن ذهبًا، كما كان شائعًا، واستعان في سبيل ذلك براهب يُدعى مريانوس استقدمه من مدرسة الإسكندرية، فعلّمه مبادئ الكيمياء وترجم له بعض كتبها.
وفي عهدَيْ مروان بن الحكم( 643 - 685 م)، وعمر بن عبدالعزيز (681 - 720م، ) نقلت بعض كتب الطب عن السريانية إلى العربية، من بينها «الكنّاش»، أي كتاب الطب الذي وضعه القسّ هارون وترجمه الطبيب اليهودي البصري ماسرجويه لمروان بن الحكم، وهو من أقدم الترجمات العربية الطبية، ثم انتقلت عدوى النقل إلى الإدارة، فتمّ ترجمة كل ما يتعلّق بإدارة الدولة والدواوين إلى اللغة العربية التي أصبحت لغة البلاط.
وفي عهد أبي جعفر المنصور ترجمت بعض كتب الطب، وكتاب «السند هند» في الرياضيات والفلك الذي ترجمه إبراهيم الفزاري من السنسكريتية، وفي عهد الخليفة هارون الرشيد، نشطت حركة الترجمة نشاطًا عظيمًا، بعد أن أولاها عناية خاصة ورفَع من شأن المترجمين والعلماء وأكرمهم.
وفي عهده نقل إلى العربية كتاب الأصول في الهندسة لإقليدس، وكتاب المجسطي في الفلك لبطليموس، ونظّم شؤون الترجمة، فجمع المترجمين في مكان واحد تحت إشراف يوحنا بن ماسويه الذي كان من أشهر المترجمين في عصره.
العصر الذهبي للترجمة
بلغت حركة الترجمة عصرها الذهبي أثناء خلافة ابنه المأمون، الذي كان مولعًا بدراسة العلوم والفلسفة، فأكرم المترجمين إكرامًا جمًّا، ورعى شؤونهم، وبنى لهم دارًا خاصة دُعيت «بيت الحكمة»، التي كانت بمنزلة أكاديمية علمية للأبحاث والترجمة حشد فيها أبرع المترجمين من سريان ومسيحيين وفرس ووثنيين، ووضعهم تحت إشراف شيخ المترجمين في ذلك العصر، حنين بن إسحاق.
وقد بذلت هذه الدار جهودًا ضخمة في ترجمة الكتب العلمية والفلسفية والطبية والفلكية والهندسية، وغير ذلك من المعارف القديمة.
وكانت هذه الترجمة تتم إما من السريانية إلى العربية، أو من اليونانية والفارسية والهندية إلى العربية مباشرة. وما إن حلّ منتصف القرن التاسع الميلادي حتى كانت لدى العرب ثروة هائلة من الكتب المترجمة من علوم الأقدمين ومعارفهم، خاصة اليونان.
وقد استمرت حركة الترجمة في نشاطها حتى القرن العاشر، وكانت الدولة والعائلات المعروفة تغدق العطايا من الذهب والفضة على المترجمين، فكانت مَرْو حاضرة فارس العلمية متفرغة لترجمة التراث العلمي الهندي والفارسي إلى العربية، لا سيما كتب الفلك والحساب والعقاقير، وكانت جنديسابور مهتمة بنقل الكتب الطبية من اليونانية أو الفارسية إلى العربية، وكانت حران مركزًا لنقل آثار اليونان في الفلك والرياضيات والفلسفة، كما كانت بغداد خزانة تتجمّع فيها أقيم الكتب العلمية الواردة إليها من الأصقاع البعيدة، ومركزًا من أهم المراكز العلمية في العالم الإسلامي كله.
لم يأخذ العرب ما في هذه الكتب المترجمة على أنها حقائق مطلقة لا تقبل النقد والتجريح، بل صححوا الكثير من معلوماتها، وأضافوا إليها معارف مبتكرة وعلومًا جديدة، كالكيمياء والجبر وعلم البصريات وعلم المثلثات والحساب الذي نقلوه عن الهنود وطوّروه ونشروه، وقد تم كل ذلك نتيجة للمنهج التجريبي الذي اتبعوه في أبحاثهم العلمية، واستطاعوا خلال قرنين تقريبًا من بداية الترجمات أن يحققوا إنجازات عظيمة في شتى حقول المعرفة، بعد أن استوعبوا كلّ ما نقلوه واقتبسوه، مما دفع جورج سارطون (أحد كبار مؤرخي العلم في العصور الحديثة) إلى القول في كتابه «مقدمة في تاريخ العلم»: «حقق المسلمون، عباقرة الشرق، أعظم المآثر في القرون الوسطى، فكتبت أعظم المؤلفات قيّمة، وأكثرها أصالة، وأغزرها مادة باللغة العربية التي كانت لغة العلم الارتقائية للجنس البشري كله منذ منتصف القرن الثامن حتى نهاية القرن الحادي عشر، وكان ينبغي على كلّ من يريد أن يلمّ بثقافة عصره بأحدث صورها أن يتعلم اللغة العربية. ولقد فعل ذلك كثيرون من غير المتكلمين بهذه اللغة».
طريقتا الترجمة
كان للترجمة طريقتان: أ. الترجمة الحرفية، وهي التي اتّبعها المترجمون الأوائل، وعلى رأسهم يوحنا بن البطريق وعبدالمسيح بن ناعمة الحمصي. تعتمد هذه الطريقة على ترجمة كل كلمة بمفردها، وعندما يستعصي وجود كلمة عربية مرادفة للترجمة المطلوبة، كانت توضع اللفظة اليونانية نفسها، ولكن بحروف عربية، وكانت هذه الطريقة رديئة جدًا، خصوصًا أن أتباعها كانوا في أحيان كثيرة لا يجيدون اللغة العربية أو اليونانية.
ب- ترجمة المعنى، وهي طريقة حنين بن إسحاق وأتباعه، وتعتمد على فهم المعنى في اللغة اليونانية وترجمته إلى اللغة العربية بمعناه لا بكلماته الحرفية، وهي الترجمة الصحيحة.
ت- لم تقتصر هذه الحركة الفكرية العظيمة على بغداد، بل انتقلت مع الأمويين إلى قرطبة وطليطلة في الأندلس، ومنهما إلى صقلية جنوب إيطاليا.
وقد استطاع الأمويون في قرطبة محاكاة النهضة العلمية نفسها التي أحدثها العباسيون في بغداد، حيث أصبحت قرطبة جوهرة العالم كما وصفتها إحدى الراهبات الألمانيات، إذ عرفت قرطبة ازدهارًا ثقافيًا وحضاريًا عظيمًا في عهد الخليفة عبدالرحمن الثالث (الناصر)، وابنه الحكم الثاني (المستنصر) (961 - 979 م)، حيث أصبحت مع بغداد والقسطنطينية أهم المراكز الثقافية في العالم، وكان من عناصر شهرتها مكتباتها ودورها الثقافية الكثيرة ومساجدها وقصورها الفخمة، وشوارعها المضاءة بالقناديل، وحماماتها الوثيرة في وقت كانت جامعة أوكسفورد والكنيسة تعتبران الاستحمام عادة وثنية محرّمة، فصارت مقصدًا للعلماء والباحثين من الشرق والغرب، وكان أبو قاسم الزهراوي أشهر من قصدها من الشرق، وكان الراهب جيربير دورياك، الذي أصبح فيما بعد بابا الكنيسة المسيحية تحت اسم سلفستر الثاني، من أهم الشخصيات التي وفدت إليها من الغرب للدراسة والاستطلاع (967 - 970 م) فبهرته بما تحويه جامعتها ومكتباتها من مصادر العلوم العربية المترجمة والمؤلفة، فكان من أوائل الذين دعموا ترجمة هذه المصادر من العربية إلى اللاتينية ونشرها في أوربا المسيحية.
دور أساسي
أدى تقدير الحكم الثاني للعلم والثقافة والعلماء دورًا أساسيًا في نهضة قرطبة ومكانتها العالمية، إذ استدعى إليها أشهر العلماء من الأقطار الإسلامية، وأجرى عليهم مرتبات عالية وأنشأ 27 مدرسة لتعليم أطفالها مجانًا، وأصبحت جامعتها التي أسسها والده في جامع قرطبة من أهم مراكز العلم في العالمين العربي والإسلامي، حيث غدت مقصدًا للطلاب المسيحيين والمسلمين من إسبانيا وأوربا ومن بلدان آسيوية وإفريقية، وخصوصًا أن مكتبتها الضخمة التي جمع الحكم الثاني كتبها من عملاء أرسلهم إلى الأقطار المشرقية، لا سيما الإسكندرية وبغداد ودمشق لشراء المخطوطات العلمية أو نسخها، حيث ضمت المكتبة أربعمئة ألف كتاب، فأصبحت مرجعًا رئيسيًا للدارسين والباحثين.
وقد بلغت الثقافة في الأندلس في ذلك العهد مستوى رفيعًا من التقدم دفع بالعالم الهولندي دوزي إلى القول «إن كل فرد تقريبًا في الأندلس الإسلامية كان يحسن القراءة والكتابة، بينما كانت العلوم في أوربا المسيحية مقصورة على رجال الدين».
أما في ميدان الفلسفة، فقد كان تأثير ابن رشد القرطبي كبيرًا على الجامعات الأوربية في القرن الثالث عشر، لا سيما جامعات جنوب إيطاليا وباريس وأوكسفورد، حيث قال عنه روجر بيكون «إن ابن رشد يستحق أن يحتل إلى جانب أرسطو مركز العلم في ميدان الاختبار»، إلا أنّ حركة الاحتكاك بين الثقافة الإسلامية والغرب لم تبلغ أوجها إلا في طليطلة التي استردها ألفونس السادس من المسلمين عام 1085 م، وأصبحت على الحدود بين الدولة الإسلامية في الأندلس وبين الدولة المسيحية في سائر إسبانيا، وكذلك في صقلية التي استردها النورمان من المسلمين عام 478 هـ.
المصدر: 1
مواضيع تهم الطلاب والمربين والأهالي
إقرأ أيضًا
تطبيقات
فلاتر التجميل وآثارها النفسية
التسامح
أفقاً للتفكير والتدبير
المستهلكون
وجاذبية المنتجات الطبيعية
قيادة
الذات والتعلم من المستقبل
للمزيد
معالجة المشكلات
السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل
المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق