الأحد، 28 أبريل 2019

• التاريخ طفل عجوز أحمق


التاريخ علم مدلل عجوز صاخب يبدو ذكيا، مع أنه لا يزال يرضع من ثدي الاجتماع، ويعابث بطن الجغرافيا، يقضي معظم أوقاته على موائد الأقوياء ليمتعهم بعربدته ومظاهر حكمته، لكنه- وفي أوقات أخرى- يستجدي العلماء والذين هم بطبيعتهم مقترون شديدو الشح.

ولذا تجد المساحة التي احتازها كل علماء وفلاسفة ومصلحي مختلف العصور من حديقته الوارفة أقل مما استولى عليه الإسكندر ونيرون ونصف نابليون وربع هتلر، وقد فشلت بشكل ما كل النظريات والفلسفات التي حاولت إخراج التاريخ من تحت سطوة الحكام ليضعوه في مجال حركة الشعوب، إذ إن الأمر لم يتعد أن يذكر المؤرخ الواقعة الشعبية وعيونه على نوافذ الحاكم، وفي كثير من الأمور والوقائع ظل التاريخ نائما مرهقا تحت ظلال الدبابات والصواريخ، لكنه- حين يفيق لنفسه- تراه رث الملابس طويل الشعر زري السحنة يتعثر في مواكب المماليك، وعلى حافة مذابح كربلاء والنجف، وتحت طبقات أجواء آبار الزيت الكويتية المحترقة، وبين أجساد أطفال مذبحة دير ياسين، وبين جبال وممرات شبه جزيرة سيناء، وتحت سقف الأمم المتحدة، وفي أجواء نجازاكي وهيروشيما، لا يهتم بالعواطف والقصائد والأغاني، يتأرجح بين المواقع الدموية ويخوض في أشلاء المخلوقات والمكائد والمؤامرات والجدل والمواثيق والمعاهدات والخطب العصماء.
وقليلا ما يسترد التاريخ شبابه فتراه نظيفا وسيما له حلاوة وقسامة، حيث يفخر بأنه ارتدى ملابس العمال مرة أو مرتين وأطلق الحمام إلى عنان السلام ثلاث أو أربع مرات، تحس أنه بالغ الإنسانية وهو يفتح الطريق انتصارا للأنبياء والرسل، ومع ذلك فستظل علاقته بالأديان والأنبياء لغزا، إذ إن التاريخ المرصود لم يحتف إلا برسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم ولم يحفل إلا بالنبي عيسى عليه السلام، ولا تزال مجلدات معالم تاريخ الإنسانية الذي صاغه الإنجليزي ويلز تضم سيرتيهما، تاركة الأمر للباحثين والدارسين يسعون لتعيين واقعهم التاريخي، بالتقريب كما ورد بالنسبة لفترة النبي موسى عليه السلام ومن كان يعاصره من حكام في الشام أو فلسطين أو تحديد الفرعون المصري الذي طارده نحو سيناء، ذلك لأن التاريخ لا يزال لم يفصح - حتى الآن- عن سيرة إبراهيم وصالح ونوح وهود وداود وسليمان ولوط ويوسف، وغيرهم من الأنبياء المؤكدين دينيا، ويرجع الأمر إلى الانشغال الدائم بذوي السطوة والبأس أكثر من اهتمامه بأصحاب الرسالات المهتمين بإصلاح حال البشر.
ومع كثرة المدارس المعاصرة في تفسير فلسفة التاريخ من "مادية جدلية"، إلى "نظرية التحدي والاستجابة"، إلى "باب الحرية الحمراء الذي بكل يد مضرجة يدق"، ثم إلى:
إذا الشعب يوما أراد الحياة       فلا بد أن يـســتجـيـب القــدر
أو الأمر بأن تقيم من قبرك هرما كي تجد لك في التاريخ أثرا، فقد أصبح لزاما علينا أن نعترف بأن ثمة ثلاثة أنواع منه: التاريخ الديني المنزل من رب القدرة في الكتب السماوية، وتاريخ فولكلوري على ألسنة الناس يحوي حكايات أبطالهم وآمالهم وأحلامهم وأهازيجهم وخرافاتهم وأساطيرهم، وتاريخ يدرس هو الذي تحتفظ به في مكتبتك، وهو أبسط أنواع التواريخ، وأكثرها ترتيبا وسذاجة.
محمد مستجاب مجلة العربي




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق