لا جدال في أن الحب باعتباره عاطفة إنسـانية قد
حظي في تراثنا العاطفـي فكريا وجماليا بالنصيب الأوفى والأوفر، الأمر الذي تؤكـده كثـرة
المؤلفات التراثيـة التي عنيت برصد هذه العاطفـة، وتسجيل أثرها البالغ في النفس البشرية
على نحو ما يتجلى في هذا التراث الضخم في آثارها الشعرية والسردية والدينية والصوفية
والفـولكلورية، وعلى نحو ما ترك أيضا في ضوء الدراسات الاستشراقية من تأثير إيجـابي
في الآداب الغربـية، إلى الحد الذي قال معـه السـير هاملتون جب شيخ المستـشرقين الإنجليز
عن تراثنا العاطفي إنه قدم للإنسانية (نظـرية حب أخلاقية هـي رسالة بلاد العرب للعالم).
تراث الحب
ومن أشهر هذه المؤلفات التراثية التي تفردت في
دراسة موضوع الحب: كتاب الزهرة لابن داود الظاهري (ت 297 هـ) ومن المعروف أن الزهرة
(الكوكب) هي إلهة الحب والزواج عند العرب في الجاهلية.
وكتاب الموشى أو الظرف والظرفاء لابن اسحق الوشاء
(ت 325 هـ) وهو كتاب يعنى بتحليل نفسية المحبين العذريين.
وكتاب طوق الحمامة في الألفة والألاف للفقيه العظيم،
مؤسس علم الأديان المقارن ابن حزم الأندلسي (ت 456 هـ) وربما كان هذا أول كتاب متخصص
في سيكولوجية الحب بالمعنى المعاصر، لهذا لا غرو أن يتنازعه معنا التراث الإسباني.
وهناك أيضا كتاب (مصارع العشاق) للسراج (ت 500 هـ) وروضة المحبين لابن قيم الجوزية،
وكتاب ديوان الصبابة لابن أبي حجلة، وغيرها كثير، ناهيك عما كتبه إخوان الصفا (الرسالة
37) والفلاسفة العرب، مثل الكندي وابن سينا، ولكل منهما (رسالة في العشق) وغيرهما كثير.
فضلاً عن كتب التراث العربي الموسوعية.
وإذا كانت هذه المصادر قد أفاضت في الحديث عن الحب،
وأنواعه وأسبابه وأعراضه وأطواره ومسمياته (يذكر ابن الجوزي منها خمسين اسما، ويبين
اشتقاقاتها ومعانيها والفروق الدقيقة بينها) بقدر ما أفاضت في أخبار المحبين وأشعارهم
وحكاياتهم.. وكيف يكون الحب في صورته الإيجابية قهرا للانفصال الإنساني، وتوقا إلى
التوحد الخلاق وتحقيق الذات وتأكيد الوجود.
أنماط من الحب
ونشرع في هذه الجولة التراثية في الوقوف عند بعض
أنماط الحب في التراث، وأولها الحب العذري الذي سطع نجمه مع فجر الإسلام وبتأثير ديني
وأخلاقي ونفسي منه. وقد نشأ أول ما نشأ في نجد وبادية الحجاز، (وعرف بهذا الاسم نسبة
إلى بني عذرة) بما هو ظاهرة نفسية واجتماعية وفنية في آن، فأبدعت أدبا جديدا يصفه طه
حسين (في حديث الأربعاء) بأنه (لا يقل شأنا عما نرى من فنون القصص الغرامي في العصر
الحديث) وكان أول من أذاع هذا المصطلح (الحب العذري) هو ابن قتيبة (ت 276 هـ) في كتابه
الشعر والشعراء، في إشارة منه لقصص الشعراء العشاق، مثل عروة بن حزام، وقيس بن الملوح
المعروف بمجنون ليلى، وجميل بثينة، وكثير عزة وغيرهم. كثير ممن عرفوا بهذا الضرب من
الحب العذري، باعتباره حبا مثاليا، ممعنا في الطهر والعفاف والتسامي.
ثمة نمط آخر من أنماط الحب في التراث العربي، كالحب
الإلهي (خاصة عند الشعراء المتصوفة) وهناك كذلك الحب العاطفي، وأبطاله من آحاد الناس
العاديين الذين أثُرت عنهم أخبار ومواقف وأحداث كانت موضوعا أثيرا ومرغوبا فيه، خاصة
في أحاديث العرب وأسمارهم وأشعارهم وقصصهم ومروياتهم التي تهدف إلى تصوير أدق خلجات
النفس الإنسانية في جانبها الإيجابي الخلاق. كما أنها في الوقت نفسه تشكل تعويضا نفسيا
لعنصر العاطفة المتوهجة الذي نفقده في حياتنا اليومية الرتيبة تحت ضغط القيود الاجتماعية
التي يفرضها المجتمع علينا، لكبت نزعات الحب الدفينة في النفس الإنسانية، في كل مكان
وزمان. ومما حببها أيضا كما يقول ابن حزم أن أحاديث العشاق (تزيد في العقول، وتحرك
النفس، وتطرب الأرواح.
من أشعار العشاق
من أدبيات الحب في الثقافة العربية القديمة ما
روي في الخبر عن ابن عباس من أن (من حب، فعشق، فعفَّ، فصبر، فمات فهو شهيد). وقوله
أيضاً: قتيل الهوى هدر ولا عقل ولا قود، وأن ذنوب العشاق ذنوب اضطرار لا اختيار. وقيل
أيضا: ليس هناك حق أشبه بباطل من العشق، هزله جِدٌّ، وجده هزل، أوله لعب وآخره عطب،
على الرغم من اعتقادهم بأن الهوى قدر.. وابتلاء، ومن هنا يكون صبر العاشق على تباريح
الهوى.. وتتولد بذرة الصراع الدرامي في أشعارهم فهذا قدرهم الذي لا قبل لهم بمواجهته..
يقول مجنون ليلى:
خليلي
لا والله لا أملك الذي قضى الله
في ليلى ولا ما قضى ليا
قضاها
لغيري وابتلاني بحبها فهلا بشيء
غير ليلى ابتلانيا
ويؤمن العشاق العذريون بالتوحد في الآخر/المحبوب
(فليس في القلب حبان، ولا في السماء ربان) كما يقول المثل العربي القديم الذي رواه
ابن حزم، كما يؤمنون أيضا بالتوحد مع الآخر/الطبيعة، الأم الكبرى، بعد فشلهم في الوصال..
واستسلامهم.
ومن أدبيات هذا الحب حمام الأيك الذي يشكل، شأنه
شأن ريح الصبا، مثيرا حيا ودائما للعشاق، يقول ابن الدمينة (ت 031 هـ) الشاعر الفارسي،
موضحا أيضا أن المكان والزمان في الحب مسألة نفسية:
ألا
يا صبا نجد متى هجت من نجد فقد زادني مسراك
وجدا على وجد
أإن
هتفت ورقاء في رونق الضحى على فننٍ غض النبات
من الرند
بكيت
كما يبكي الوليد ولم تزل جليدا وأبديت
الذي لم تكن تبدي
وقد
زعموا أن المحب إذا دنا يمل وأن
النأي يشفي من الوجد
بكل
تداوينا فلم يشف ما بنا على ذاك
قرب الدار خير من البعد
على
أن قرب الدار ليس بنافع إذا كان من
تهواه ليس بذي ود
ويرتبط بهذه الغزليات ضرب آخر من شعر الفراقيات،
أي تلك النصوص الشعرية الرائعة التي تقال إثر الهجر أو الفراق بين العاشقين، من ذلك
مثلا نونية ابن زيدون الرائعة ومطلعها:
أضحى
التنائي بديلا من تدانينا وناب عن طيب لقيانا تجافينا
وقصيدة ابن زريق الحزينة التي بعث بها إلى زوجته
قبيل موته كمداً في الأندلس، ومطلعها:
لا
تعذليه فإن العذل يولعه قد قلت
حقا ولكن ليس يسمعه
من أخبار العشاق
طريفة هي أخبار العشاق وحكاياتهم، على الرغم من
طابعها الميلودرامي الذي جعلها محببة في مجالس السمر، عند الخاصة والعامة.. نختار من
بينها ما لا يخفي مغزاه الإنساني:
كان فتى من أهل الكوفة عاشقا لفتاة، وكان أهلها
قد أحسوا به فرصدوه، فلم يقدر على الوصول إليها، فواعدها في ليلة مظلمة، وأتى فتسلق
سور بيتها، فعلم به أهلها فأخذوه وأتوا به خالد بن عبدالله القسري وقالوا له: إنه لص
تسور علينا من الحائط. فسأله خالد عن ذلك فكره أن يجحد السرقة فيفضح الجارية، فقال:
أسارق أنت؟ قال: نعم، أصلح الله الأمير. فأمر بقطع يمينه.
وكان لهذا العاشق أخ كريم، قد علم ببعض شأنه، فأخذ
ورقة وكتب فيها هذه الأبيات:
أخالد
قد أعطيت في الخلق رتبة وما العاشق
المظلوم فينا بسارق
أقر
بما لم يجن عمداً لأنه رأى القطع
خيراً من فضيحة عاشق
ولولا الذي قد خفت من قطع كفه لألفيت في أمر الهوى غير ناطق
ثم حذف الرقعة فوقعت في حجر خالد فقرأها ثم أمر بالفتى إلى السجن، وصرف القوم.
فلما خلا مجلسه دعا به فسأله عن قصته فعرفه، فبعث إلى أبي الفتاة فقال: قد عرفت قصة
هذا الفتى فما يمنعك من تزويجـه؟ قال خـوف العار. قال لا عار عليك في ذلك، والعار ألا
تزوجه فتكشف أمره! فسأله أن يزوجه ففعل، فدفع إليه عن الفتى خمسة آلاف درهم، وأمره
بتعجيل إهدائها إليه.
من أحاديث الأعراب
سُئل أعرابي عن الهوى، فقال: هو أظهر من أن يخفى
وأخفى من أن يرى، كامن كمون النار في الحجر، إن قدحته أورى، وإن تركته توارى؟
وقـال
أعـرابـي: إنمـا سُمِّي الحب هوى لأنه يهوي بصاحبه!
وقال
آخر:
هو
السحر إلا أن للسحر رقية وإني لا ألقى من
الحب راقيا
وقالت
أعرابية:
ولو
نظروا بين الجوانح والحشا رأوا من
كتاب الحب في كبدي سطرا
ولو
جربوا ما قد لقيت من الهوى إذن عذروني أو
جعلت لهم عذرا
من نوادر الأعراب
قال أعرابي: خرجت في بعض الليالي الظلماء، فإذا
أنا بجارية حسناء، فأردتها عن نفسها. فقالت: ويلك! أما لك زاجر من عقل، إذا لم يكن
لك ناه من دين؟ فقلت: إنه والله ما يرانا إلا الكواكب. قالت: فأين مكوكبها ؟!
وقيل لأعرابي: من لم يتزوج امرأتين لم يذق حلاوة
العيش، فتزوج اثنتين، ثم ندم، فأنشـأ يقول:
تزوجت
اثنتين لفرط جهلي بما يشقى
به زوج اثنتين
فقلت
أصير بينهما خروفا أنعم بين أكرم نعجتين
فصرت
كنعجة تضحي وتمسي تداول بين أخبث ذئبتين
من قصص الأمثال:
إياك أعني واسمعي يا جارة ذكر الميدانـي في مجمـع
الأمثال أن أول من قال ذلك سهـل بن مالك الفزاري، وذلك أنه خرج يريد النعمان، فمر ببعض
أحياء طيء، فسأل عـن سيـد الحي، فقيل له: حارثة بن لأم، فأم رحله فلم يصبه شاهداً،
فقالت له أخته: انزل في الرحب والسعة، فنزل فأكرمته ولاطفته، ثم خرجت من خبائها فرأى
أجمل أهل دهرها وأكملهم، وكانت عقيلة قومها وسيدة نسائها، فوقع في نفسه منها شيء، فجعـل
لا يدري كيف يرسل إليها ولا ما يوافقها من ذلك، فجـلس بفناء الخباء يوما وهي تسمع كلامه،
فجعل ينشد ويقول:
يا
أخت خير البدو والحضارة كيف ترين في فتى
فزاره؟
أصبح
يهوى حرة معطاره إياك أعني واسمعي
يا جاره
فلما سمعت قوله عرفت أنه إياها يعني، فقالت: ما
هذا بقول ذي عقل أريب، ولا رأي مصيب، فأقم ما أقمت مكرما ثم ارتحل متى شئت مسلماً،
فاستحيا الفتى، وقال: ما أردت منكرا واسوأتاه، قالت: صدقت، فكأنها استحيت من تسرعها
إلى تهمته، فارتحل، فأتى النعمان فحباه وأكرمه، فلما رجع نزل على أخيها، فبينا هو مقيم
عندهم تطلعت إليه نفسها، وكان جميلا، فأرسلت إليه أن اخطبني إن كان لك إلي حاجة يوما
من الدهر، فإني سريعة إلى ما تريد، فخطبها وتزوجها وسار بها إلى قومه.
والمثل
يضرب لمن يتكلم بكلام ويريد به شيئا غيره.
ملحة الوداع
قال الراغب الأصفهاني: رأى أعرابي امرأة، فقال
لها: قد أخذت قلبي فلست أستحسن سواك: فقالت: إن لي أختا أحسن مني، وها هي خلفي، فالتفت
الرجل (ملهوفا) فقالت: يا كذاب، تدعي هوانا وفيك فضل لسوانا ؟!
المصدر:
1
إقرأ أيضاً
للمزيد
أيضاً وأيضاً
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق