الاثنين، 6 أبريل 2020

• مصرع كليوباترا


لم يكن شوقي أول من كتب عن كليوباترا ولكنه حاول في مسرحيته هذه أن يقدم وجهة نظر مختلفة ترى كليوباترا بطلة وطنية.. فهل نجح في ذلك؟

ظهرت "مصرع كليوباترا" في عام 1927 بعد أن توج أحمد شوقي أمير للشعراء في العالم العربي، وكأنه أراد بكتابتها هي وغيرها من مسرحياته اللاحقة إثبات أنه يستحق هذه الإمارة عن جدارة، لأنه يجدد في الأدب العربي ويضيف غليه إضافات جديدة لم يعرفها من قبل. وإذا كان قد هجر فن المسرح الذي حاول الاقتراب منه أثناء دراسته في فرنسا، حين كتب الصياغة الأولى لمسرحية " علي بك الكبيرط التي كانت محاولته الأولى، وحين لم تلق هذه الصياغة من التشجيع ما يدفعه إلى معاودة المحاولة، فإن مضي السنوات التي حملت الكثير من مظاهر التغير، وانتشار فن المسرح، فضلا عن فعل التتويج نفسه، كل ذلك دفع شوقي إلى فن امسرح وتطويعه للشعراء، أو تطويع الشعر له، فأصدر " مصرع كليوباترا" التي استعاد بها تاريخ مصر في فترة حاسمة من فتراته.
ولم يكن شوقي اول من كتب عن كليوباترا، إذ إن هناك الكثيرين قبله ممن استغلوا سيرة تلك الملكة التي حكمت مصر في عهد البطالمة، وجعلوا من حياتها نواة لأكثر من عمل مسرحي، ومن هؤلاء شكسبير أشهر من كتب عن هذه الملكة، وذلك في مسرحيته المشهورة " أنطوني وكليوباترا" التي ترجمت إلى العربية أكثر من مرة. ولعل إقبال الأدباء والشعراء على سيرة تلك الملكة بالذات كان يرجع إلى ما اقترنت به حياتها من أحداث عاطفية وتاريخية كبيرة، فضلا عن أنها ارتبطت بثلاث من أشهر شخصيات التاري الروماني: يوليوس قيصر، وأنطونيوس، وأكتافيوس الذي أطلق عليه اسم اوجستوس قيصر. ويقول الباحثون المختصون إن أغلب من كتبوا عن كليوباترا استقوا مادتهم التاريخية من المؤرخ الروماني بلوتارك، خصوصا بعد أن ترجم كتابه إلى الفرنسية سنة 1559 م، ثم إلى الإنجليزية سنة 1579 حيث تأثر به شكسبير. وكما اعتمد شكسبير على بلوتارك اعتمد شوقي أيضاً، ولعله طالع اثناء تعلمه في باريس الترجمة الفرنسية التي كان من مواد دراستها كتاب المؤرخ الروماني فيما يبدو.
اضطهاد صارخ
وأحسب أن الهدف الأساسي من نظم شوقي هذه المسرحية كان الدفاع عن الملكة المصرية التي صب عليها بلوتارك الكثير من الاتهامات، ولذلك نجد في الجزء النثري الملحق بالمسرحية ما يبدو كأنه دفاع مصري متعمد عن ملكة مصرية ظلمها مؤرخ روماني، تابعه أغلب من كتبوا عن هذه الملكة. ونقرأ: في ص 116-117) من تذييل المسرحية ما نصه: " ظهرت حية النيل العجوز- كما نعتوها- في هذا التاريخ، وعمدته " بلوتارخوس" وفي معظم الروايات التي استوحته واستقت من معينه، في مظهر امرأة خطالة متهمة في عفتها من حيث هي امرأة، وفي جلالها وإخلاصها لبلادها من حيث هي ملكة.
أليس المؤلف المصري إزاء هذا الاضطهاد الصارخ لهذه الملكة، المصرية بحكم القرون الثلاث التي قضاها أجدادها العظماء على ضفاف النيل، مستقلين عن كل نفوذ أجنبي، أبرياء إلا من العمل المتصل لمجد مصر وفاهتها، مستحيلة دماؤهم قطرة فقطرة إلى دماء مصرية خالصة على توالي الأيام، أليس المؤلف المصري في حل- مادام البحث العلمي يكشف بين الحين والحين في هذا التاريخ المتهم عن حلقات ضائعة أو أوهاوم نزلت فيه منزل الحقائق- من إنصاف هذه المصرية المضطهدة، ولو إلى الحد الذي يتفق مع هيكل هذا التاريخ المجرد، ولا يخرجها على الأقل من سمو الغاية ونبالة القصد ؟ أعتقد أنه ليس في حل من هذا الإنصاف فقط، ولكنه مسئول عنه".
وبغض النظر عما إذا كان شوقي هو كاتب هذه الأسطر، أو كتبها غيره، وذلك هو الأغلب، فأسلوبها غير أسلوبه النثري المعهود، فالمهم أن الأسطر تعبر عن وجهة نظر شوقي التي حاول أن يصوغها بواسطة مسرحيته، وكأن شوقي أراد بدفاعه عن كليوباترا أن يثبت أنها كانت امرأة مصرية تحرص أساسا على خدمة وطنها عن طريق لعبة السياسة الخطرة، فهي، حين مزجت سياستها بالحب، لم تكن تهدف إلى التهتك أو إظهار الضعف، وإنما استخدام ذكائها لتحقيق مقصدها النبيل في الحفاظ على مصلحة مصر وصيانة سيادتها.
ولكن هل حفظت كليوباترا استقلال مصر حقا ؟ ربما كانت تستطيع ذلك لو وقفت بجانب حليفها وعشيقها أنطونيو في مواجهة أسطول أوكتافيوس، ولكنها عندما تخلت عن أنطونيوس في مقوعة أكتيوم، كانت تساهم دون أن تدري في إضعاف شوكة حليفها والتمهيد لأعداء البلاد باحتلالها، وقد حدث ذلك بالفعل، ومن ثم فلم يكن في انسحابها من المعركة، وغدرها بحبيبها أنطونيو، أي علامة من علامات الذكاء أو الفطنة.
ولكن شوقي أراد أن يصور كليوباترا بطلة وطنية، ولما لم تسعفه أحداث التاريخ الفعلية حاول أن يفسرها على هواه، وله كل الحق في ذلك من حيث هو فنان، ليدافع عن كليوباترا، وكان دفاعه عنها دفاعا عن نفسه بمعنى أو غيره، ألم يكن هو الآخر سليلا لعناصر أجنبية عن مصر؟ وليس من الضروري أن نوغل في هذا الجانب فنتحدث عن الأصول الأجنبية في دماء شوقي، فالمهم أن هذه الأصول تفاعلت مع التراب الوطني لمصر، وأصبح وعي شوقي وعيا مصريا خالصا، يحب مصر كل الحب، ويخلص لها كل الإخلاص ويرى في أمثال كليوباترا مجالي من تركيبته العراقية التي انتهى بها المطاف إلى التمصر الكامل. وأحسب أن هذا النوع من الاتحاد الوجداني بين الشاعر الكبير وبطلته المتخيلة التي ابتعثها من التاريخ هو ما دفعه إلى الدفاع عنها، وإلى محاولة إنصافها من اتهامات بلوتارك، ورفعها إلى مرتبة الأبطال العظام الذين ضحوا بكل شيء في سبيل أوطانهم، ولكن كان هذا الاتحاد الوجداني أحد الأسباب الرئيسية لإصابة مسرحية " مصرع كليوباترا" بالضعف والسذاجة.
من أجل التمجيد
كان شوقي عاطفيا إزاء كليوباترا حريصا على تمجيدها. وإذا كان هذا يحمد له بوصفه محبا لوطنه، فإنه لا يحمد له بوصفه فنانا مسرحيا. لماذا؟ لأن النظرة العاطفية للفنان، وما تقترن به من حب انفعالي أو كراهية أنفعالية، سرعان ما تقضي على موضوعية النظرة الفنية فتتحول الشخصية المسرحية، نتيجة انفعال الفنان الشديد، إلى شخصية مسطحة أحادية الصفة، وذلك ما حدث لكليوباترا. فنحن نقابلها منذ البداية بطلة عظيمة تدافع عن مصر بأي وسيلة ممكنة، بل إنها تقدم على الانتحار دون أن تختلج شعرة واحدة في رأسها، فكل شيء عندها يهون في سبيل الوطن حتى الحياة نفسها: (ص102)
أموت كما حييت لعرش مصـر    وأبـذل دون عرش الجمال
حياة الـذل تدفـع بالمنايـا           تعالي حيـة الوادي تعالي
ومع ذلك كله لا تنسى كليوباترا، حتى في هذا الموقف المميت، كونها أنثى جميلة فتتغنى أمام الحية قائلة: ( ص101 ).
ياموت طف بالروح واسرقها كما     سرق الكرى عين الخلي السالي
حتى أموت كمـا حييت كأننـي       بيت الخيال ودميـة المثّال
وكأن إغماض الجفون تناعـس      وكأن رقدتي اضطجـاع دلال
سر بي إلى أنطونيو في نضرتي    ورواء جلبابي وزينة حالـي
قد نقول إن هذا تناقض واضح، ولكن علينا أن نرجع هذا التناقض إلى طبيعة الشخصية المسطحة، أحادية الصفة التي لا نرى بسببها سوى كليوباترا شديدة الوفاء لمصر شديدة الوفا لأنطونيو، أما كيف يمكن أن يكون ذلك، عبر تصارع الأضداد فهذا ما لم ينجح شوقي في توضيحه أو تبريره دراميا.
وما يقال عن كليوباترا يقال عن أنطونيوس الذي يظهر أمامنا رجلاً شديد الغفلة والسذاجة، لا يغضب من كليوباترا على الإطلاق مهما فعلت به، أو يثور عليهم فهو عبدها الخاضع الذليل الذي يستجيب لكل نزواتها وأوامرها حتى لو قاده ذلك إلى الدمار الكامل أو الخيانة الكاملة.
تعاطف مشكوك فيه
والسؤال الذي لا بد أن يسأله القارئ المعاصر لمسرحية شوقي هو: هل نستطيع أن نتعاطف مع كليوباترا أو أنطونيو بوصفهما بطلين في مسرح؟ والإجابة لن تكون إلا بالنفي مع الأسف، ذلك لأن النمطية في تقديم كل من الشخصيتين حرمتنا من التعاطف مع أي منهما. ولابد أن يرى القارئ في خضوع أنطونيو المطلق لنزواته وضعفه الهائل أمام كليوباترا أمر لا يكاد يستند شيء من الطبيعة الإنسانية للبشر، فالإنسان مجموعة من العناصر المتفاعلة والاتجاهات المتضاربة والنزعات المتعارضة، أعني أن الإنسان- أي إنسان- لا يمكن اختزاله في صفة وحيدة البعد، وسلوكه الإنساني لا يمكن ان يتحقق في النهاية الا نتيجة صراع يدور في الأعماق بين قوى الخير والشر معاً، بين الوعي واللاوعي، بين الهوى والواجب، وعظمة المسرح الكلاسيكي هي في تصوير هذا الصراع وتقديمه مؤثر للملتقى. وعندما يبرز الكاتب المسرحي الصراع الداخلي للشخصية الدرامية فإنه لا يمنحها الحياة الإنسانية فحسب، بل يمنحنا نحن أيضاً حياة جديدة للبصيرة التي نكشف بها العالم الداخلي للأبطال الذي هو عالمنا نحن بمعنى من المعاني، الأمر الذي يثري إدراكنا للحياة، ويخصب من تجاربنا الإنسانية، وهذا أمر نادر التحقق في علاقتنا- مشاهدين أو قراء- بكل من كليوباترا وأنطونيون بل علاقتنا بجميع أبطال هذه المسرحية، ولنتأمل، مثلا ن شخصيتي " شرميون " و " هيلانة " في المسرحية نجد أن كل واحدة من الوصيفتين تقدسان كليوباترا، رغم أنهما أدرى من غيرهما بكل نقائصها. قد نقول إن هذا أمر طبيعي في مصر القديمة التي كانت الرعية تنظر إلى الحاكم فيها بوصفه إلها أو شبه إله ! ولكن هل من المنطقي أن تنتحر الوصيفتان لمجرد أن الملكة قد أنتحرت ؟ ( راجع ص103 ). إن انتحارهما على هذا النحو غير الواقعي يؤكد صفة التسطيح الغالبة على الشخصية الدرامية في المسرحية، وما يقال عن هيلانة وشرميون يقال عن "حابي" الذي يكره كليوباترا، ثم- فجأة- وبلا مبرر- يحترمها ويقدسها. وقس على ذلك شخصية أولمبوس " النذل الخئون" كما يسميه شوقي.
خلاصة الامر أن نظرة شوقي العاطفية انسحبت على شخصياته فإذا به يمجد كليوباترا وكل من يرتبط بها من المصريين، ويحقر أنطونيوس وكل من يرتبط به من الرومانيين، ولا يرى سو الجانب الحدي للخير أو الشرفي كلا الجانبين المتضادين تضاد البياض المطلق والسواد المطلق.. قد يكون في هذا التصعيد الحدي لرموز الأعداء، شيء من الوطنية لا بأس به ولكنها وطنية انفعالية دمرت الشخصيات من الناحية الدرامية تدميرا كاملا.
ولا أفلت هذا الجانب دون تنبيه على أن النظر العاطفية الانفعالية للمواقف، وما تحدثه من تأثير سيء على بناء الشخصية الدرامية وعلاقات الصراع، سمة لم ينفرد بها شوقي وحده، وإنما هي سمة عامة في أغلب المسرحيات الرومانسية، تلك المسرحيات التي تتحول إلى مطلقات متعارضة، لا تفترق جذريا عن نظائرها الكلاسيكية إلا في غلبة التناقص العاطفي على العلاقة بين اضدادها. وفي حدود هذه المنطقة المشتركة، كان شوقي يحرك شخصياته التي تبدو، دائما، سجينة داخل صفتها المطلقة، جامدة كما لو كانت قطعة من قطع اللعب. قد تكون ذات بريق وجاذبية في الترابطات العاطفية للقراءة على مستوح السطح، لكنها تظل ميتة منذ البداية لأنها لاتكشف عن أي حياة داخلية او صراع داخلي تعانيه الشخصية.
أصوات في القصائد
ولكن هناك سببا آخر اضعف العمل المسرحي عند شوقي، وأقصد به إلى طبيعة شوقي من حيث هو شاعر غنائي حريص أشد الحرص على غنائيته. إن المسرح بطبيعته الموضوعية القائمة على الصراع المتكافئ دراميا بين المتقابلات يختلف اختلافا جذريا عن الشعر الغنائي، فالقصيدة تقوم على صوت فردي، هو صوت الشاعر الذي يتحدث حديثا ذاتيا صافيا، يخضع إلى تداعي عواطفه وافكاره في موقف من المواقف. ولكن المسرحية عمل موضوعي إلى أقصى درجة، يتطلب أول ما يتطلب أن يتباعد الفنان عنها، ويضع بذرة حدث من الاحداث ينميها بعيدا عن عواطفه الشخصية عن طريق حوار الشخصيات التي تنفصل حياتها عن حياته، وعندما لا يدرك الشاعر- أي شاعر- هذا الفرق بين طبيعة الفن الدرامي وطبيعة الفن الشعري، لا يمكن- مهما كانت عبقريته- إن يكتب مسرحا ناجحا.
وكان من نتيجة ذلك أن أكثر الصور الشعرية والتشبيهات تزدحم بها المسرحية بلا مبرر، لسبب بسيط هو أنها نتاج قريحة الشاعر الغنائي وليس ضرورات الحدث المسرحي نفسه، ولذلك لا نستطيع أن نتحدث عن وظائف درامية للصورة في شعر شوقي، ولا نستطيع أن نصف التجاوب بين رمزيات هذه الصور ووقائع الأحداث الدالة في المسرحية، على نحو ما نجد في مسرح شكسبير مثلا، وما أصبح موضعا لدرس العديد من الباحثين، ابتداء من دراسة كارولين سبرجن الشهيرة عن الصورة في المسرح الشكسبيري. وكما كان الاسترسال في المونولوج الطويل يبطئ الحركة المسرحية عند شوقي، ومن ثم يحبط الإمكانات الدرامية، كان الإسراف في إلقاء التشبيهات وصياغة المجازات يحدث الأثر نفسه، بل يثبت الحركة المسرحية تثبيتا ينفي عنها صفة الحركة. والمثال الدال على ذلك حديث الكاهن أنوبيس ( ص23- 24 ) عن هيلانة، عندما يخاطب الملكة بقوله:
وهذا المـلاك كمـولاته             طليق الإرادة حر الحجي
تمشي على جنـبـات الحيا         ة، كما يتمشى شعشاع الضحى
يخوض الوحول ويغشى العلا     ويأوي الحضيض ويعلوا الذرا
ويخترق العرصات الفـسا          ح، وينفذ من ضيقات الكوى
ويرتع بين أنوف الأسـو            د، ويلعب بين عيون الظبا
ولكنه طاهر حيث طـا             ف، نفي الذيول عفيف الخطا
هنا نجد أن الشاعر يلقي بصور لا مبرر لها، وتوقف الحركة المسرحية في المشهد، قد تكون هذه الصور مبررة في القصيدة الغناية من حيث هي قصيدة وصفية، لكنها في المسرح تظل بعيدة عن العون الدرامي، ومن ثم لا تؤدي ما ينبغي أن تؤديه الصورة الشعرية في المسرحية من وظائف خاصة موصولة بالفعل المسرحي ذاته. ولا شيء من ذلك عند شوقي الذي كان يحسن صنعا لو نفض عن كاهل مسرحيته أغلب صور هذا الجزء واكتفى بهذين البيتين فحسب:
وهـذا الملاك كمولاته                طليق الإرادة حر الحجى
ولكنه طاهر حيث طاف            نقي الذيو عفيف الخطا
وأحسب أن المعنى الذي يمكن وراء الأبيات لم يتغير ولم يتأثر بهذا الحذفن وما ذلك إلا لأن الصور في مسرحيات شوقي زوائد وإضافات لا لزوم لها في أغلب أحوالها، ومن الدال في هذا المجال أن أغلب هذه الصور مستمد من الموروث الشعري القديم.
الشعر والأداء الدرامي
وثمة سبب ثالث أضر بالحركة المسرحية في " مصرع كليوباترا" هذا السبب هو الشعر التقليدي ذاته بطبيعته المعنوية والوزنية الخاصة. إن الشعر التقليدي، وأعني به الشعر الذي يلتزم بنظام الخليل بن أحمد في الوزن والقافية، له طبيعته الخاصة التي تقوم على وحدة البيت، والبيت الشعري في التصور العربي القديم وحدة معنوية وموسيقية كاملة، أو جملة ذات معنى كامل ينتهي بانتهاء القافية.
ويصعب على هذا النوع من الشعر أن يؤدي أداء دراميا، يتوثب فيه الحوار، وتتراسل الشخصيات بالجمل المكتملة أو المبتورة، وتتدافق اللغة في تباين مستوياتها الأدائية التي تعكس تباين المستويات الفكرية والشعورية والثقافية للشخصيات، وفي تقديري أن هذا النوع من الشعر لا يدخل المسرح إلا ويصيب الحركة المسرحية بالركود، وما ظل الشاعر حريصا على إبقاء صفات العمودية على حالها. لماذا ؟ لأن القافية هي فاصلة أو خاتمة معنوية وموسيقية في الوقت نفسه، ومن ثم تغلق جملة الحوار حتى من قبل أن تنتهي درامياً أعني أنها تقطع انسياب الحوار المسرحي، وتخلق فيه وقفات لا مبرر لها، وعندما تقطع القافية انسياب الحوار الذي قد يستمر لعدة جمل أو أبيات فإن حركة الحوار نفسها تتراخى وتجنح إلى البطء أو الرتابة على أحسن تقدير.
ويبدو أن شوقي قد اكتشف هذا الضعف في الشعر التقليدي عندما كان يكتب مصر كليوباترا، فحاول أن يتلافاه، وأخذ في بعض الاحيان يقسم البيت إلى شطرات، وذلك إلى درجة أن البيت الواجد يدور بني أكثر من شخص، ومع براعة هذا الحل الذي قدمه شوقي، فإنه لم يحدث تأثيرا إيجابيا جوهراً، لأن شوقي ظل ملتزما بالقافية، وظل حريصا على الوحدة المعنوية المقفلة في الوقت نفسه ( راجع مثلا ص26- 27 من المسرحية ).
ومن الغريب أنه لم يتحرر من أسر القافية تحررا كاملاً، رغم أنه كان يعرف أن شكسبير كتب أغلب مسرحياته بالشعر المرسل، أي الشعر الذي لا تتحد قوافيه، بل يكون لكل بيت قافية خاصة به.
ربما يقول أحد القراء: ولكن لماذا لم يخفق مسرح شكسبير رغم أنه كان يعتمد مثل مسرح شوقي على الشعر الموزون؟ والإجابة عن ذلك سهلة، ترجع إلى أن أساس العروض الإنجليزي أساس كيفي يعتمد على عدد النبر في المقاطع ولا يرتبط بطول محدد للمقاطع نفسها، أما العروض العربي فهو عروض كمي يقوم على طول المقاطع أولا وأخيرا.
سلبيات وأعذار
يتبقى بعد ذلك ملحوظتان، يمكن اعتبارهما ميزتين في مسرح شوقي، أولاهماا: أن شوقي لم يخضع في هذه المسرحية لقانون الوحدات الأرسطية الثلاث، وحدة الزمان ووحدة المكان ووحدة الحدث، فالمسرحية لا تدور احداثها في مكان واحد ولا زمان واحد، وإنما تمتد زمنيا عبر فترة تبدأ من وقعة أكتيوم البحرية حتى انتحار كليوباترا. كما تنتقل مكانيا في أكثر من مكان، ففي حين يدور المشهد الأول بين رحاب المكتبة، يدور مشهد آخر في داخل قاعة عرش كليوباترا، ثم يدور الفصل الثالث في أحد المعابد البعيدة، أما وحدة الحدث فقد التزم بها شوقي، ولكن على النحو الذي رأيناه من قبل، ولعل تحرر شوقي من هذه الواحدات الأرسطية الثلاث- التي لم يعد أحد يحرص منها إلا على وحدة الحدث- يرجع إلى أنه تأثر على نحو ما بمسرح شكسبير، كما ذهب أكثر من باحث معاصر.
الميزة الثانية: أن شوقي استطاع أن يطوع اللغة الفصحى ويجعلها قادرة على التنوع والتناسب مع طبيعة الشخصيات والمواقف، ولنقارن مثلا بين لغة إنشو مضحك الملكة ولغة زينون آمين المكتبة في الحوار الذي يدور بينهما في المشهد الأول من الفصل الأول في المسرحية ( ص17- 18 ). وكذلك في المشهد الثاني من الفصل الثاني ( ص40- 42 ) حيث نجد مثالا موازيا.
وأخيراً، قد نحاول أن نخفف سلبيات " مصرع كليوباترا" فنلتمس الأعذار لشوقي، ونقول إن مسرحيته هذه من الأعمال الرائدة، وإنها خطوة جريئة في طريق التجديد الشعري، وإن الشاعر كان ينطلق من خلال موروث لا يدعمه تراث مسرحي بعينه، وقد نضيف إلى هذه المبررات مبررات أخرى تؤكد القيمة التاريخية للمسرحية، لكنها جميعا تظل مبررات تدفعنا إلى العطف على شوقي لكن ليس التعاطف بوصفه شاعرا مسرحيا.
المصدر: 1
إقرأ أيضاً
للمزيد              
أيضاً وأيضاً



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق