السبت، 6 يناير 2024

• تحكم بأوراق اللعب


اجعل الآخرين يختارون من البدائل التي تحددها لهم. القاعدة 31 من كتاب 48 قانون للقوة (قواعد السّطوة) للكاتب روبرت جرين

الحكمة:

أفضلُ الطرق لاستدراج الناس والتَّحَكُّم بإرادتهم هي التي تمنحهم ظاهرياً الحق في الاختيار، بينما تجعلهم في الحقيقة لُعبةً في يدك، وذلك بأن تُحَدِّد خياراتهم في البدائل التي تَصبُّ جميعاً في صالحك، أو أن تضعهم بين قرني مُعضِلَةٍ بحيث يختارون بين شَرّين أحلاهما مُرٌّ. وسوف تُعجَبُ من أن إحساسهم بأنَّ لهم حرية الاختيار يجعلهم يتقبلون أموراً كانوا ليرفضونها بشدة لو فَرَضتَها عليهم.

مراعاة القاعدة 1:

في الفترةِ المُبَكِّرَةِ من حُكمِهِ كان إيفان الرابع المعروف بإيفان الرهيب يواجِهُ واقعاً صعباً، فقد كانت البلادُ في حاجةٍ ماسَّةٍ إلى الإصلاح، ولكن لم يكن في وسعِهِ أن يفرضَه لأن البكوات الذين كانوا يُسيطرون على أنحاء البلاد ويرهبون الفلاحين كانوا يحدّون كثيراً من سلطته.

في عام 1553 مَرِض إيفان مَرَضاً خطيراً وهو في الثالثة والعشرين من عمره، وظنَّ أنه قد شارَفَ على النهاية، فطلبَ من البكوات أن يبايعوا ابنه قيصراً جديداً، فَتَرَدَّدَ بعضُهم ورَفَضَ آخرون صراحةً، وحينها أَدركَ إيفان أنه لا يملكُ أيَّ سَطوةٍ على البكوات. تعافي إيفان بعدها من المرض، لكنه لم ينسَ أبداً الدَّرسَ الذي تَعَلَّمَهُ، فالبكوات متأهبون دائماً للانقضاض عليه في أيِّ لحظةٍ.

الحقيقة أنه في السنوات التالية ارتَدَّ أكثرُ البكوات سطوةً إلى أَلَدِّ أعداءِ روسيا، أي إلى بولندا وليتوانيا، وتآمروا معها على العودة إلى روسيا وخَلْعِ القيصرِ عن العرش بالقوة، بل حتى أن أَحدَهم وهو أندريه کوريسكي وكان من أقرب المقربين من إيفان انقلبَ عليه فجأة وتآمرَ مع ليتوانيا في عام 1564 وأصبح بعدها من أَلَدِّ أعداء القيصر.

حين بدأ كوريسكي في حَشدِ الجيوش لِغزوِ روسيا، ظهرت الأسرةُ الملكية فجأةً مُهَدَّدَةً أكثر من أي وقت مضى: كان النبلاءُ الخَوَنَةُ يكيدون من خارج البلاد للغزو من جهة الغرب، وكان التتارُ يحملون على البلاد من الجنوب، بينما كان من تَبَقّى من البكوات يُثيرون الفتن في الداخل، وكان اتِسّاع الأراضي الرُّوسية يعمل ضدها، ويجعل من الصعب الدفاع عنها. ووجد إيفان أنه لو ضَرَبَ في اتجاهٍ ينكشف ضعفُه في اتجاهٍ آخر، ولم يكن في مقدوره أن يتعامل مع هذا الخطر الأخطبوطي مُتعدد الأذرع إلا إذا كانت له السلطة المطلقة؛ لكن لم تكن له مثل هذه السلطة.

ظلَّ إيفان يُفكِرُّ مَلِيّاً بحثاً عن حلٍّ إلى أن جاء صباح الثالث من ديسمبر عام 1564. في هذا اليوم استيقظَ سكان موسكو على مشهدٍ أدهشهم وحيرهم: مئات الزَّلّاجات تملأُ ميدان الكريملين تنقل القيصر ورجال الصفوة الحاكمة مع ممتلكاتهم إلى مَقَرِّهم الجديد في إحدى القرى جنوب العاصمة. لم يعرف الناس الأسبابَ، واجتاحَ العاصمةَ خوفٌ من أن يكون القيصر تخلى عنهم للبكوات القُساة، وتصاعدَ الشغبُ، وأُغلِقَت المحلات طوال الشهر التالي، وأخيراً وَصَلَ خطابٌ من القيصر يَشرحُ فيه أنه لم يعد يَحتمِل خِيانَة البكوات، وأنه قَرَّرَ التنازلَ نهائياً عن العرش.

كان لِخطابِ القيصرِ تأثيرٌ مُرَوِّع: اتَّهَمَ التجارُ والعامةُ البكوات بأنهم السببُ في قرار القيصر، وخرج الناسُ إلى الشوارع، وخافَ النبلاءُ على حياتهم من غضب الجماهير. بسرعة تَشَكَّلَ وفدٌ من ممثلين عن الكنيسة والأمراء والشعب، وتوجهوا إلى المقرّ الجديد للقيصر يتوسلون إليه أن يعودَ للحُكم، فاستمعَ إليهم حتى انتهوا وفي النهاية رَفَضَ، ظلَّ الوفدُ يَتَرّجى القيصرَ لأيامٍ، وأخيراً عَرَضَ عليهم إيفان الاختيار بين إمرين: إما أن يَمنحوه السلطةَ المطلقة، أو أن يبحثوا لهم عن حاكمٍ جديد.

في مواجهة الاختيار بين القبولِ بحاكمٍ طاغيةٍ، أو الدخول في حربٍ أهلية، «اختارت» أغلبُ الطبقات في روسيا القبول بالقيصر القوي، وطالبوا بعودة إيفان لاستعادة القانون والنظام. بالفعل عاد القيصرُ وحاشيتُه في فبراير وسط احتفالات شعبية حاشدة، بعدها لم يمكن للروس أن يتذمّروا من طغيان إيفان، لأنهم هم من مَنحوه هذه السطوة باختيارهم.

التعليق:

كان إيفان الرهيب يواجه مأزقاً صعباً: إما أن يذعن للبكوات ويترك البلاد للخراب أو يقاتلهم فيدفع البلاد لخراب آخر، لأنه حتى لو مَنَحَته الحربُ سيطرةً أكبر، فإنه لم يكن لِيَجد أمامه إلا الدمار والضعف والمزيد من الانقسامات. وكان السلاح الذي يستعمله إيفان دائماً هو الجرأة والهجوم، لكن أي هجوم كان سيقوم به حينها لم يكن يمنحه إلا المزيد من العداء والمزيد من تدهور الأمور.

العيبُ الأساسي في استخدام العنف أنه يُوَلِّدُ لدى الناس سَخَطاً يُنَمِّي بينهم ردود فعل تُقَوِّضُ سلطتك في النهاية، لكن إيفان كان خلافاً للغاية في استخدام سَطوته، ورأى بوضوح أن وسيلته الوحيدة لتحقيق الانتصار الذي يريده هو التظاهر بالتَّنَحِّي، وبذلك لن يُجبِرَ أحداً على فعل شيء بل يمنحهم «الاختيار» بين القبول بتخليه عن السلطة وترك البلاد للفوضى أو إعطائه السلطة المطلقة، ولكي يؤكد حركته أكدَّ لهم أنه يُفَضِّلُ التَّنَحّي، وبَيَّنَ لهم بانسحابة لشهر واحد عَيِّنَةً مما قد تواجهه البلاد إذا تنحى نهائياً من غزو التتار والحرب الأهلية والدمار، (وبالفعل حدث كل ذلك لاحقاً بعد موت إيفان في عهد الاضطراب، الشهير).

يُعَدُّ الانسحابُ أو التَّنَحّي من الطرق التقليدية للتَّحَكُّم بالخيارات؛ فهو يُشعِرُ الآخرين بما تؤول إليه الأمور في غيابك، ويُقَدِّم لهم «الاختيار» التالي: إما أن ابتَعِدَ وتُعانون أنتم العواقب، أو أعود بالشروط التي أُمليها عليكم. حين تتحكم بخيارات الناس بهذه الطريقة يختارون البديل الذي يمنحك السطوة، لأن الاختيار الآخر يكون مزعجاً لهم، وبذلك تكون قد أجبرتهم ولكن بطريقة غير مباشرة: لأن الناس حين يشعرون بحريتهم في الاختيار يَدخلون الشَّرَكَ الذي تَنصبه لهم بسهولة وبدون مقاومة.

مراعاة القاعدة 2:

تَأَمَّلَتْ مَحظِيَّةُ القصور في القرن السابع عشر نينو دي لينكلو حياتَها وَوَجَدَت أن بها ما يُسعِدها؛ فكان لديها عشاقٌ من الطبقة الملكية ومن النبلاء، وكانوا جميعاً يدفعون لها المالَ بسخاءٍ، ويحاولون استرضاءَها بالتعليقات اللطيفة والحوارات العميقة، ويرغبون في صحبتها أكثر من رغبتهم في جسدها، بل كانوا يعاملونها وكأنها نِدُّ لهم، وقد جعلها ذلك تُفضِّل تلك الحياة عن الزواج. لكن في عام 1643 تَوَفَّت والدتُها فجأةً، وتركتها وهي في الثالثة والعشرين من عمرها وحيدة تماماً دون أُسرةٍ أو مَهرٍ أو أي شيء آخر يدعمها، فانتابها الخوفُ والتَحَقَت بالدَّير، وتَخَلَّت عن كل عشاقها من المشاهير. بعد عامٍ تركت الدير وانتقلت إلى ليون، وفي عام 1648 عادت إلى باريس، وتَجَمهَرَ حولها العُشّاق والمعجبون بأعداد أكبر من أي وقت مضى، لأنها كانت أكثر محظيات عصرها خِفَّةً في الروح، وكان الجميع يفتقدون حضورها.

لكن حَدَثَ تَغَيُّرٌ في أسلوبها لاحظه سريعاً كلُّ معجبيها، فقد وضعت لهم نظاماً جديداً من الخيارات والبدائل. بالنسبة للسادة والإقطاعيين والأمراء المستعدين لِدفعِ الأموال لها، سَمَحَت لهم بالاستمرار في الدفع، إلا أن التَّحَكُّمَ لم يَعُد في أيديهم؛ فكانت تنامُ مع من تريد منهم في الوقت الذي تريده هي، ولم يكن المالُ يمنحهم سوى الفرصةِ والأملِ في نَيْلِها في وقت ما، وكان على الجميع الالتزام برغباتها.

ومَن لم يرضَ بالالتحاق بهذه الفئة من المُمَوِّلين كان يُمكنه أن يَنضَمَّ إلى فئة أخرى كبيرة ومتزايدة من الرجال التي كانت نينو تُسمّيهم شهداء غرامها، وهم الرجال الذين كانوا يَتَقَرَّبون منها طلباً لِصُحبتها والاستمتاع بتعليقاتها اللاذعة وعزفها على العود، وكذلك مُجالسة ضيوفِها من كبار المُفَكِّرين في عصرها من أمثال موليير ولاروشفوكو وسان إيفرمون. كان لشهدائها أيضاً الفرصةُ في مرافقتها، فكانت من آنٍ لآخر تَنتَقي من بينهم حبيباً مُقَرَّباً تَمنحه جَسَدَها، وتخضعُ له بالكامل دون أن يدفعَ لها المالَ إلى أن تَزهدَه بعد شهرٍ أو سنة، ونادراً ما كان يطولُ تَعَلُّقُها بأحدهم عن هذه الفترة. لم تكن للمُمَوِّل أيُّ فرصةٍ في أن يصبح حبيبها، ولكن لم يكن لأيٍّ من شهدائها أيضاً ما يضمن له أن يصبح حبيباً، وكان بعضهم يظل يتمناها يائساً طوال حياته، فالشاعر شارليفال مثلاً لم يستطع في أيِّ وقتٍ أن يكون حبيبها، ولكنه لم يتوقف أبداً عن زيارتها لأنه لم يكن يحتمل إبعادها عن حياته.

أَدّى انتشارُ الأخبار في الأوساط الراقية بباريس عن المنظومة التي وضعتها نينو إلى إثارة الكثير من العَداوات ضدها، وذلك لأنها قَلَبَت الوَضعَ المعتاد للمَحظِيَّة، وجعلت لها السيطرة ولعشاقها الخضوع، وهو دورٌ أَحرجَ الملكة والنساء الحرائر من حاشيتها. ما أخافهم حقاً أن هذه المنظومة لم تكن تُبعِدُ الرجال عن نينو بل کانت تزيد من رغبتهم فيها، وتُقَرِّبهم إليها بأعداد متزايدة، وأَصبحَ المُمَوِّلون يفخرون بأنهم يدعمون نينو في حفاظِها على نَمَطِ حياتها، وأنهم يصحبونها أحياناً إلى المسرحِ، ويتمتّعون بممارسة الحب معها حين تكون راغبةً بهم. وكان الفخرُ الأكبر لشهدائها الذين كانوا يستمتعون بصحبتها دون أن يدفعوا لها شيئاً، كما كان لدى كل منهم أملٌ وإن كان ضئيلاً في أن يصبح يوماً حبيبها، وهو أملٌ كان يشعل الرغبة في شباب النبلاء، حيث شاعَ بينهم أنه لا توجد امرأةٌ تنافسُ نينو في فنون الحبّ، لذلك كان الرجالُ متزوجين أو عزاباً، شيوخاً أو شباباً يدخلون في شبكتها ويختارون ما يناسبهم من البديلين الذين وضعتهما لهم نينو، وأَيّاً ما يختارونه كان يُرضيها ويُشبِعُ احتياجاتها.

التعليق:

كان لدى المَحظِيّة فرصةٌ في تحقيق سطوةٍ لا تستطيع المرأة أن تُحقِّقها حين تتزوج، ولكن كانت تَتَهَدَّدها أيضاً مخاطرُ حقيقية: كان الرجل الذي يدفع لها المال يعاملُها وكأنه اشتراها وينالُها وقتما يريدُ وأين يُحِبّ، وبعد فترة كان يَملّها ويهجرُها. وبِتَقدّمها في السن كانت المَحظيّةُ تَفقِد قدرتها على جذب الرجال، ولذلك ولكي تَتَجَنَّب الفقرَ والمَذَلَّة في شيخوختها، كانت تبذل كل ما تستطيع في شبابها للحصول على المال، كان هذا الجشعُ ضرورةَ حياةٍ لدى المحظية، ولكنه كان أيضاً يُنَفِّرُ الرجالَ منها لأن أيَّ رجلٍ يُحِبُّ أن تريده المرأة لِشَخصِه، ويَنفُرُ كثيراً من المرأة التي لا تهتَمّ إلا بمالِه.

على عكس ذلك كان يُرعِبُ نينو أن تَشعرَ بأنها تَعتَمِدُ على أحد، ومن البداية كان عُشّاقُها يعاملونها بنوع من النّدّيَة والمساواة، ولم تكن تحتملُ منظومةً لا تترك لها إلا ما كان للمحظية من خياراتٍ قبيحة، والغريبُ أن المنظومة التي ابتدعتها كانت تُرضي الرجال على قدر إرضائها لها: فحقيقة أن الدّفعَ ليس ضامناً للمُمَوِّل بأن ينالها، جعله يشعرُ حين تُمارس الحب معه بأنها تريده وترغبه، ويمنحه نَشوَةً واشتياقاً لا يجده مع أي محظية أخرى، بينما كان شعور شهدائها أنهم غير مُجبرين على الدفع، يعطيهم إحساساً بالتَّمَيُّز، وكأنهم جماعةٌ من المُريدين يجمعهم الأمل في أنّ أَيّاً منهم قد يصبحُ يوماً ما حبيبها، وأخيراً لم تكن نينو تُجبر أحداً أن يصبح ممولاً أو شهيداً، فكان كل شخص «يختار» ما يريد، وكان ذلك يُرضي كبرياء مريديها وإحساسهم برجولتهم.

إعطاؤك للناس حرّيةُ الاختيار، أو الأدق تَوَهُّم حرية الاختيار، يمنحك سطوةً كبيرة حين تُحَدِّد لهم البدائل التي يختارون منها، وفي حين كان من بين البديلين الذين حددهما إيفان بديلاً يخسره ويعني فقدانه لسلطاته، كان البديلان الذين وضعتهما نينو يُشبعان رغباتها، فالأول كان يُوَفِّر المال لسد احتياجات صالونها، والآخر كان يعطيها أقصى ما قد تمنحه لها السطوة، وهو طائفة من المعجبين، وفريق من الرجال تختار من بينهم عشاقها.

كانت المنظومة في مجملها تعتمد على محرك واحد أساسي وهو الأمل حتى وإن كان ضئيلاً لشهيدها أن يصبح يوماً ما عشيقاً؛ لذلك اجعل دائماً من بين خياراتك أن تضع لرعاياك وضحاياك الأمل في أنهم سينالون يوماً ما الثروة أو المجد أو المتعة، وسيجعل ذلك أكثر الرجال اتزاناً وتعقلاً ينقادون لك ويسلكون المسارات الأشدّ سُخفاً ولا عقلانية، لأنك تمنحهم أهم ما يريدون وهي الأحلام والتمنيات. الجمع بين إيهام الناس بحريتهم في الاختيار وإمكانية تحقيقهم مكاسب في المستقبل يغري حتى أكثر الناس عناداً للسقوط في شباكك الحريرية.

مفاتيح للسطوة:

توحي لنا الكلمات مثل «الحرية» و«الاختيار»، و«البدائل» بإمكانات أكثر كثيراً مما تفيدنا في الواقع. إن دَقَّقتَ في الخيارات المتاحة لنا في الأسواق أو الانتخابات أو العمل ستجد أنها محدودة للغاية، فلا يُسمح لنا غالبا بالاختيار إلا بين «أ» أو «ب» دون باقي حروف الأبجدية. ومع ذلك وحين يلوح لنا أوهن وهمٍ للاختيار، لا نرى البدائل التي حُرمنا منها، و«نختار» أن نظن أننا أحرار، وأننا عملنا بكرامة، وننفر من التفكير العميق الذي يُبَيِّنُ لنا مدى تفاهة الحرية المتاحة لنا.

السببُ في عزوفنا عن التفكير في تفاهة اختياراتنا هو أن الإكثارَ من الحرية يُوَتِّرُنا ويُقلقنا، وفي حين يوحي لنا التعبير بأن «خياراتنا غير محدوة» بالبشر والآمال نجد في الواقع أن الخيارات غير المحدودة تشلّ تفكير الناس وتُعجزهم عن اتخاذ قرار، ويشعرون بالراحة حين يتوجب عليهم الاختيار بين بدائل قليلة.

هذه الحقيقةُ تُوَفِّرُ للأذكياء والماکرين فُرَصاً هائلةً للخداع؛ ذلك لأنها تجعلُ الناسَ لا يشعرون بأنك تخدعهم أو تتلاعب بهم حين تفرض عليهم الاختيار بين بدائل قليلة، ولا ينتبهون إلى أنك تمنحهم القليل من الحرية مقابل الكثير من فَرضِ إرادتك. عليك أن تجعل دائماً من ضِمن مهاراتك أن تُحدِّدَ للناس نطاقاً محدوداً من الخيارات، وهناك مَثَلٌ يقول أن الطائر الذي يدخل قفصه باختياره يُغَرِّدُ أكثر عذوبة.

وفيما يلي عرضٌ للطرق الشائعة «للتحكم بالبدائل»:

مَوِّه البدائل. تمويه أو تلوين البدائل كان من التقنيات المُفَضَّلَة لدى هنري کيسنجر، فحين كان وزيراً للدولة في عهد الرئيس ريتشارد نيکسون، كان يعلم أنه أكثر خبرةً وأكثر قُدرةً على اتخاذ القرارات من الرئيس، ولكنه لم يستطع أن يُحَدِّد له سياساته، لأن ذلك كان سَيُحرجه ويُظهِر ما لديه من خَوَر. لذلك كان كيسنجر يضعُ ثلاثة أو أربعة حلولٍ لأيِّ موقفٍ، وكان يعرضها بحيث يجعل البديل الذي يُفَضِّله يبدو كأفضل الحلول. وفي كل مرة كان نيکسون يبتلع الطُّعمَ دون أن يشعر أن كيسنجر يُجبره على الاختبار. وهذه الطريقة تفيدك إن كنت تتعامل مع وليٍ خائر.

اضغط على من يقاوم. كان انتكاسُ المرضى أكبرَ مشكلةٍ تواجه د. ملتون ه. اريکسون رائد العلاج بالتنويم المغناطيسي في الأعوام 1950، فقد كان التَّحَسُّنُ السريعُ للمرضى يُخفي مقاومةً عميقةً للعلاج: فكان المرضى يعودون لحالاتهم الأولى ويلومون الطبيب على الفشل ويتوقفون عن متابعة علاجهم. لكي يَتَجَنَّبَ الطبيبُ هذا السلوك كان يَستَبِقُ بأن يأمرَ المريضَ بأن يدخل في انتكاسةٍ، وأن يشعرَ بالمعاناة التي جاء بها للعلاج، أي أن يعود إلى نقطة الصفر، وحين كان المريض يواجه هذا البديل كان «يختار» أن يَتَجَنَّبَ الانتكاسة - وهو بالطبع ما كان يريده إريكسون.

تلك التِّقَنِيَّةُ جيدة في التعامل مع الأطفال والمعاندين الذين يحبون أن يفعلوا عكس ما تطلبه منهم: اجعلهم «يختارون» ما تريده منهم بالتظاهر بأنك تطلب منهم أن يفعلوا عکسه.

بَدِّل ساحةَ التَّلاعب، في أعوام 1860- قرر جون د. روکفلر أن يحتكر صناعة النفط، ورأى أنه لو بدأ في شراء شركات النفط الصغيرة لَعَرَفَ الجميعُ نواياه وقاوموها، ولذلك بدأ سراً في شراء شركات القطارات التي تنقل النفط لهذه الشركات، وحين كان أصحابُ شركةٍ يرفضون مَطلبه في شرائها يُذَكِّرهم بأنهم يعتمدون عليه لِنَقل نفطهم، وأن رَفضَهُ للنَّقلِ أو رَفعَ أسعاره يُدَمِّرُ أعمالهم. بذلك لم يترك تبديل روكفلر لساحة التلاعب للشركات الصغيرة إلا اختيار ما فرضه عليهم.

هذا التكتيك يُجدي مع الخصوم الذين لا يهمك أن يعرفوا أنك تفرض عليهم ما تريد، ومع من قد يعارضونك في كل الأحوال.

تقليص البدائل. كان تاجر الفنون في أواخر القرن التاسع عشر أمبرواز فولار يجيد هذه الحيلة.

كان يأتي الزبونُ إلى فولار يطلب عملاً فنياً للفنان "سيزان"، فيعرض عليه فولار ثلاث لوحاتٍ دون أن يذكر السعر، وبعدها يتظاهر بأنه ينعس؛ فيرحل الزبون دون أن يتخذ قراراً بالشراء، وفي اليوم التالي كان الزبون يعود عادة وحينها يعرض عليه فولار لوحاتٍ أقل إبداعاً مُدَّعِياً أنها نفس اللوحات التي رآها الزبون أمس، وحينها يتأملها الزبون متحيراً ويرحلُ ليفكر في الأمر، ثم يعود في اليوم التالي وحينها يعرض عليه أعمالاً أقلّ جمالاً من سابقتها، حينها يدرك الزبون أن الأفضل له أن يقتنص الفرصة بدلاً من أن يأتي غداً ولا يجد إلا أعمالاً أقل جمالاً وبسعر أعلى.

من الصور الأخرى لهذه الطريقة أن ترفع السعر في كل مرة يتردد فيها المشتري ويرحل دون أن يقرر، وهي حيلة ممتازة في التفاوض مع المعروفين بالتردد، لأن فكرة أنهم سيحصلون اليوم على ما لن يحصلوا عليه غداً تُشَجِّعهم على اتخاذ القرار.

حيلة الرجل الضعبف على حافة الهاوية. يسهلُ التَّحَكُّمُ بالضعاف حين تتحكم بالبدائل المتاحة لهم. كان الكاردينال دي ريتز المحرض الشهير في القرن السابع عشر يعمل كمستشار غير رسمي لدى دوق أورليانز، وهو رجل كان معروفاً بالتردد، وكان من الصعب إقناعه بالإقدام على فعل شيء، فكان دائماً يُسَوِّفُ ويَزِنُ بين البدائل، وينتظر إلى آخر لحظة، ويُوَتِّرُ أعصابَ كلَّ من يعمل معه. لكن استطاع ريتز أن يكتشف حيلةً للتعامل معه: كان يذكر له ما يحيط به من مخاطر ويبالغ في وصفها على قدر ما يستطيع إلى أن يعتقد أن الهاوية تحيط به من كل اتجاه إلا إن فعل ما ينصحه به ريتز.

تشبه هذه الحيلة حيلة «تموية البدائل» لكن مع الضعفاء عليك أن تكون أكثر حِدَّةً؛ لأن إثارتهم للإحساس بالخوف والهلع هي وحدها التي تجعلهم يتخذون قراراً، وإن حاولت إقناعهم بالمنطق ستجدهم يجادلون ويماطلون حتى يصيبونك بالملل والإعياء.

حيلة الشركاء في الجريمة. هذه حيلة تقليدية لدى المحتالين الكبار: تستدرج ضَحِيَّتَك إلى المشاركة في مخطط إجرامي لتشعره بأنه يشاركك الذنب والمصير. تجعله يخطط معك في الاحتيال وفي ارتكاب جريمة (غالبا مُتَوَهَّمَةً كما حدث مع سام جيزيل القاعدة 3) وحينها يسهل عليك التلاعب به. كان المحتال الفرنسي الشهير في 1920- سيرج ستافسكي يُشرِكُ أعضاءَ الحكومة في حِيَلِهِ وخِداعه لدرجة أن أحداً منهم لم يجرؤ على توجيه الاتهامات إليه، و«اختاروا» أن يتركوه يفعل ما يريد. والأفضل لك أن تُوَرِّط معك في الخداع الأشخاص الذين قد يؤذونك كثيراً إن فشلت مخططاتك؛ حتى وإن كان توريطك لهم غير مباشر، لأن مجرد التلميح بِتَوَرُّطِهم يُضَيِّقُ خياراتهم ويضمن سكونهم.

قرنا المعضلة، ظهرت هذه الحيلة بوضوح في زحف الجنرال ويليام شيرمان على ولاية فيرجينيا أثناء الحرب الأهلية في أمريكا؛ فعلى الرغم من الاتحاديين كانوا على معرفة بالاتجاه الذي يسلكه شيرمان إلا أنهم لم يستطيعوا التخمين إن كان سيهاجم من الميمنة أم من الميسرة، لأن الجنرال قَسَّمَ جيشه إلى جناحين، وإن هرب المتمردون من جناح يحاصرهم الجناح المقابل. هذه الحيلة من الحيل التقليدية للمحامين في المحاكم: يدفع المحامي الشاهد للاختيار بين تفسيرين محتملين لنفس الحادثة يحمل كل منهما ثُغرة، ويظل يضغط المحامي عليه ليجيب عن السؤال، وهكذا وأياً ما يجيب به الشاهد يقوض شهادته. سِرُّ النجاح لهذه الحيلة هي سرعة الهجوم: لا تدع للضحية وقتاً للتفكير، بل اجعلها تتقلب بين قرني المعضلة حتى تقضي على نفسها بنفسها.

ولتفهم: أَنَّ في صراعك مع خصومك يلزمك في أغلب الأحيان أن تؤذيهم، وإن ظَهَرَ لهم بوضوح أنك مَن آذاهم يَردّون بانتقام، لكن إن ظَهَرَ لهم أنهم هم من آذوا أنفسهم بأنفسهم يخضعون لك سريعاً. حين قَرَّرَ إيفان تَرْكَ موسكو والإقامة في الريف، وافق المواطنون على طلبه للسلطة المطلقة، وفي السنوات التالية لم تكن معارضتهم قوية للترهيب الذي فرضه على البلاد لأنهم هم من منحوه هذه السلطة. لذلك، فإن الأفضلَ لك دائماً أن تتركَ لضحاياك أن يختاروا السمَّ بأنفسهم، ثم تسعى جاهداً لإخفاء أنك من قدمته لهم.

الصورة

قرنا الثور: يحاصرك الثور بقرنيه- ليس قرناً واحداً ليسمح لك بالهروب، لكن قرنين يمسكان بك. وسواء تَوَجَّهتَ يميناً أو يساراً تطعنك أطرافه الحادة والمميتة.

اقتباس من معلم: يستطيع الناس أن يتحملوا وينسوا الجراح والشرور التي يُسَبِّبونها لأنفسهم بأنفسهم، ولكنهم لا يَتَحَمَّلون أو يغفرون الجراح والشرور التي يرتكبها ضدهم الآخرون. (نيقولو مكيافيللي، 1596-1527).

عکس القاعدة

لِلتَّحَكُّم بالبدائل غرضٌ واحد: أن تُخفي عن الآخرين سَطوَتَك وأنك من سببت هم الأذى، ولذلك تُفيد هذه الحيلة من سَطوَتُهم هَشَّةٌ، والذين لا يستطيعون أن يفعلوا ما يريدون دون أن يكونوا بمنأىً عن ارتياب الآخرين أو حقدهم وانتقامهم. لكن الحقيقة هي أنه في أغلب الأحوال لا يُعَدُّ من الحكمة أن تُظهر سطوتَك صراحةً وبعنفٍ، حتى وإن کنت آمناً وقوياً، ويظلُّ من رشاقةِ السلوك ومن قوة التأثير أن تجعلَ الآخرين يتوهّمون أن لهم الحق في الاختيار.

لكن أحياناً يُؤَدِّي التَّحَكُّمُ بخيارات الآخرين إلى تقليل خياراتك أنت أيضاً، ويفيدك في بعض المواقف أن تسمح لخصومك مدى متسع من البدائل والخيارات: فملاحظتك لهم وهم يتصرفون يوفر لك الفرصة لجمع المعلومات عنهم والكيد لهم. كان المصرفي الشهير في القرن التاسع عشر جيمس روتشلد يحب هذه الطريقة: وكان يرى أنه لو قَلَّلَ من حرية خصومه تضيع عليه فرصة مراقبة استراتجياتهم والتخطيط للمستقبل، فكانت الحرية التي يمنحها لهم على المدى القصير تفيده في قوة الهجوم عليهم على المدى البعيد.

المصدر: THE 48 LAWS OF POWER, ROBERT GREEN (ترجمة د. هشام الحناوي)




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق