القاعدة 41 من كتاب 48 قانون للقوة (قواعد السّطوة) للكاتب روبرت جرين
الحكمة:
يحترم الناس الأصل ويحتقرون التقليد. إن كنت خَلَفاً أو ابناً لشخص عظيم سيكون عليك أن تبذل أضعاف جهده حتى لا تضيع صورتك في ظلاله. لا تلتزم أبداً بماضٍ ليس من صُنعك. أَسِّس هويتك الخاصة بتغيير مسار من سبقك. احتقر تراته وادفنه معه حتى يمكنك أن تصنع أَلَقَك المميز.
انتهاك
القاعدة:
بعد
أن مات لويس الرابع عشر بعد فترة حكم مجيدة استمرت خمسة وخمسين عاماً، توجهت كل
العيون إلى حفيده وخليفته لويس الخامس عشر وتساءلوا إن كان هذا الصبي الذي لم
يتجاوز الخامسة عشر من عمره سيحقق ما حققه جده من نجاح. استطاع لويس الرابع عشر أن
ينقذ فرنسا من شفير حرب أهلية وجعلها الدولة الأقوى في أوروبا، لكن السنوات
الأخيرة من عمره كانت أصبحت صعبة على البلاد حيث كان الملك قد أصبح مُسِنّاً ومُنهَكاً،
وكانت كل الآمال تتطلع لأن يصبح هذا الصبي الحاكم القوي الذي يعيد لفرنسا حيويتها
ويبني على الأساس الصلب الذي رَسَّخه جده.
لتحقيق
ذلك خصصوا أكبر العقول في فرنسا لتعليم الصبي فنون إدارة الدولة والطرق الأخرى
التي أتقنها الملك الشمس، ولم يُهملوا أي شيء في تعليمه، ولكن حين اعتلى لويس
الخامس عشر عرش البلاد حدث له تغير مفاجئ: فلم يعد يهتم بالدراسة أو بآراء من حوله
أو أن يثبت جدارته بل تَفَرَّد وحده بالسلطة والثروة، وكان يفعل كل ما يشاء.
في
السنوات الأولى من حكمه أطلق لويس الخامس عشر لنفسه العنان في الملذات، وترك إدارة
البلاد لوزيره المؤتَمن أندريه هنري دي فلوري، ولم يقلق الناس لذلك لأن لويس كان
لا يزال شاباً يريد أن يتمتع بالحياة كما أن دي فلوري كان رجلاً جيداً، ولكن بدا
للناس مع الوقت أن هذا النزق لدى الملك ليس عابراً فلم تكن لديه الرغبة في شغل
نفسه بشئون البلاد، ولم يكن السبب هو تعثر اقتصاد فرنسا أو صعوبات الحرب المحتملة
مع الإسبان بل لأنه لا يحب الحكم ويملّ منه. كان لويس شديد الإحساس بالملل ويحاول
دائماً أن يشغل نفسه بما يسري عن نفسه من صيد الغزلان ومطاردة الفتيات إلى
الانغماس في المقامرة وكان أحياناً يخسر أموالاً طائلة في الليلة الواحدة.
رجال
الصفوة عادة يقلدون صفات حاكمهم، وهكذا أصبحت المقامرة والاحتفالات المُسرفة هَوَس الجميع ولم يعد أي
منهم يهتم لمستقبل فرنسا بل كانوا يبذلون كل جهودهم لإرضاء الملك والتصارع على جَني
الألقاب التي تمنحهم معاشاً كبيراً وعلى المناصب الوزارية والتي لم تعد تتطلب
كفاءة كبيرة وتوفر رواتب هائلة - وامتلأ البلاط بحثالة البشر وتفاقمت ديون البلاد.
في
عام 1715
وقع لويس في حب مدام دي بومبادور وهي امرأة استطاعت أن تصعد من الطبقة الوسطى إلى
أعلى السلم الاجتماعي بجمالها وسحرها وذكائها وبزواجها من رجل مرموق، وأصبحت هي
العشيقة الملكية الرسمية ومرجع فرنسا في الذوق والأناقة، وكان لديها اهتمامات
سياسية أيضاً وأصبحت هي رئيس الوزراء غير المعلن - فكانت هي وليس لويس من يقرر
تعيين أو طرد الوزراء.
كان
تَقَدُّم لويس في العمر لا يزيده إلا أنغماساً في الملذات وابتعاداً عن مصلحة
البلاد، فبني ماخوراً للعربدة في حدائق الفرساي كان ينتقي له أجمل فتيات فرنسا،
وكانت الممرات تحت الأرض تسمح للملك بالوصول إليه في أي وقت من اليوم. بعد أن ماتت
مدام دي بومبادور في عام 1764
تلتها كمحظية ملكية مدام دي باري وبسرعة أصبحت مثل سابقتها مسيطرة على البلاط
وتتدخل في الشئون السياسية للبلاد، وكان إن لم يتلطف إليها وزير تعمل على طرده،
وقد ذُهلت كل أوروبا حين استطاعت دي باري وهي ابنة خباز أن تطرد إتيان دي شوازيل
وزير الخارجية وأكثر الدبلوماسيين خبرة وبراعة في فرنسا فقط لأنه لم يَكُن يكِنّ
لباري أي احترام. ومع الوقت أخذ المحتالون والدجالون يتدفقون على قصر الفرساي
لإشباع اهتمام لويس بالتنجيم والخرافات والدجل. وهكذا لم يزد العمرُ المراهقَ الغرّ
الذي تولى عرش فرنسا إلا سوءاً وانحلالاً.
كان
الشعار الذي التصق بحكم لويس هو «أنا ومن بعدي الطوفان»، أو فلتحترق فرنسا بعد أن
أرحل. الحقيقة أنه بعد أن مات لويس في عام 1774
منهکاً من نَهَمه للخمر والنساء، كان اقتصاد فرنسا قريباً من الانهيار وحين ورثه
حفيده لويس السادس عشر
كانت البلاد في حاجة ماسة إلى الإصلاح، ولكن لويس السادس عشر كان أضعف حتى من جده
وظل يراقب البلاد وهي تنزلق نحو الثورة. وفي عام 1792
أعلنت الجمهورية التي أنهت على الحكم الملكي وأطلقوا على لويس السادس عشر اسم
«لويس الأخير»، وبعد عدة شهور أطاحوا برأسه تحت المقصلة، وهي رأس كانت فارغة تماماً
من الحلم بالمجد والسطوة التي كانت تحرك لويس الرابع عشر من أجل رفعة بلده وكرامة
التاج.
التعليق:
استطاع
لويس الرابع عشر أن يُحَوِّل فرنسا من بلد على حافة الانهيار والحرب الأهلية في 1640
- إلى أقوى مملكة في أوروبا، وكان الجنرالات الكبار يرتعدون في حضوره وذات مرة
ارتكب طاهٍ خطأ في إعداد أحد الأطباق وفضل أن ينتحر عن أن يواجه غضب الملك. كان
للويس الرابع عشر عشيقات كثيرات لكن سطوتهن جميعاً كانت تنتهي عند الفراش. وملأ
بلاطه بأكثر العقول عبقرية في عصره، وكان الفرساي يرمز لقوته فقد هجر قصر اللوفر
الذي كان لأجداده وبني الفرساي في مكان مهجور ليرمز للنظام الجديد الذي شيَّده،
وهو نظام لم يكن له مثيل من قبل. جعل من الفرساي عاصمة قوية للحكم وكان الزعماء من
كل أوروبا يتدفقون لزيارته وينظرون إليه بحسد وإعجاب. الخلاصة هي أن لويس الرابع
عشر بدأ بفراغ هائل وملأه بالنور والإشعاع والمجد.
من
الناحية الأخرى كان لويس الخامس عشراً مثالاً ورمزاً لكل من يحلّ محلَّ رجل عظيم.
قد يظن البعض أن من السهل على الأبناء أو الخلفاء أن يبنوا على التراث العظيم الذي
ترکه لهم أباؤهم أو أسلافهم، لكن ما يحدث في عالم السطوة عادة هو العكس. فالأغلب
الأعم هو أن يبدد الأبناء المدللون والمنعمون ما يرثونه عن آبائهم لأنهم لم يرثوا
الحاجة التي جعلت آباءهم ينجزون ما أنجزوا، فكما قال مكيافيللي أن الضرورة هي التي
تجبر الرجال على الإنجاز وبمجرد أن يزول الإحساس بالضرورة لا يبقى إلا الانهيار
والتحلل. حين لم يجد لويس الخامس عشر أي ضرورة مُلِحّة
لزيادة سطوته كان من المحتم أن يستسلم للكسل، وفي عهده تحول الفرساي من رمز لسطوة
الملك إلى مكان للعربدة والابتذال وكأنها كان صورة مبكرة من لاس فيجاس صنعتها أسرة
البوربون الملكية. تحول الفرساي إلى رمز لكل ما يحتقره ويكرهه الفلاحون المقهورون
في السادة وحين قامت الثورة كانوا يشفون غليلهم بتدميره.
المَخرج
الوحيد من الفخ الذي تعرض له لويس الخامس عشر ويتعرض له أي ابن أو خليفة للرجل
الشمس هو أن يبدأ نفسيا من الصفر؛ أن يسخر من الماضي ومما ورثه ويبدأ في اتجاه
جديد ويصنع عالمه الخاص. إن كان بمقدورك الاختيار اختار أن تتجنب أن تحل محل رجل
عظيم من البداية وابحث لنفسك عن مكان فارغ من السطوة وأن تكون الشخص الذي يصنع
النظام من الفوضى دون أن تنافس شخصاً حقق نجوميته في ذلك المكان. السطوة تقوم على
أن تظهر أكبر من الآخرين، وحين تظهر ضئيلاً بعد أب أو ملك أو رئيس عظيم سيصعب عليك
أن تصنع لنفسك هذا الحضور.
لكن
حين أصبح الحكم وراثة أصبح الأبناء فاسدين لا يحاولون أن يحققوا ما حققه آباؤهم من
مجد أو فضيلة، وشعروا أن ما يجب أن يتنافس فيه الأمراء هو الكسل والانغماس في
العصر والملذات. (نيقولو مكيافيللي، 1469
1527).
مراعاة
القاعدة:
لم
يكن لدى الإسكندر الأكبر في صغره سوى شعور واحد مسيطر وهو نفوره الشديد من أبيه
فيليب ملك فرنسا، فكان يكره أسلوبه المراوغ والحذر في الحكم وخطبه المنمقة وحبه
الشديد للشراب والعاهرات والمصارعة وكل ما كان يراه الإسكندر مضيعة للوقت. وقرر
لنفسه أن يكون عكس ذلك تماماً وأن يصبح جريئاً وشديداً وأن يتحكم بلسانه فلا يتكلم
إلا قليلاً وأن لا يقضي عمره المحدود في الجري وراء الملذات التي لا تأتي بأي مجد،
وكان يكره أيضاً أن فيليب استطاع أن يخضع معظم اليونان وقال ذات مرة د أنه (فيليب
سيظل يخضع البلاد ولن يتبقي لي شيء من المجد».
وعلى عكس الأبناء الآخرين لرجال السطوة الذين كانوا يسعدون بما ورثوه من الترف
والرخاء كان همّ الإسكندر أن يتفوق على أبيه وأن يطمس اسمه من التاريخ بأن يتفوق
كثيراً على إنجازاته.
كان
الإسكندر يسعى دائماً أن يثبت للجميع أنه أقوى كثيراً من أبيه. ذات مرة أحضر تاجر
خيول من تيساليا حصان سباق يطلق عليه بوسافلوس ليبيعه لفيليب ولم يستطع أحد من
ساسة الخيل أن يقترب من الحصان لأنه كان شرساً للغاية، وَبَّخ فيليب البائع أن
يحضر له مثل هذا الحصان عديم الفائدة. كان الإسكندر يراقب ما حدث فتجهم وقال «ما
أجمله من حصان يريدون أن يخسروه لأن ليس لديهم المهارة أو الشجاعة لترويضه» وظل
يكرر ذلك حتى تحداه فيليب أن يركب الحصان وطلب من البائع أن يعود، وفي سره كان
يرغب أن يقع ابنه عن الحصان ليعلمه درساً قاسياً، لكن الإسكندر هو من فاز بالتحدي،
فلم يعتلي ظهر الحصان فحسب بل رَوَّضه وسار به في كامل المضمار؛ بل أنه الحصان
الذي استمر معه طوال فتوحاته حتى الهند. صفق رجال البلاط بحماس وشعر فيليب بالغضب
بغلّ داخله لأنه لم يكن يرى في الإسكندر ابناً له بل منافساً يتحداه في سطوته.
مرة
أخرى اشتد الجدل بين الإسكندر وأبيه أمام كافة رجال البلاط فاستلّ فيليب سيفه
وكأنه سيهوي به على ابنه ولكنه كان قد أسرف في الشراب فانهار توازنه وسقط، فأشار
إليه الإسكندر وصاح قائلاً «انظروا يا رجال مقدونيا، هذا الرجل الذي يعدكم أن يعبر
بكم من أوروبا إلى آسيا لا يستطيع أن يعبر من طاولة إلى أخرى دون أن يتهاوي».
حين
بلغ الإسكندر عامه الثامن عشر قام أحد رجال البلاط الساخطين بقتل فيليب، وحين
انتشرت الشائعات عن قتل الملك بدأت الكثير من المدن في التمرد على حكامها
المقدونيين. نصح المستشارون الإسكندر أن يدير الأمور بحرص وحذر وأن يخضعهم بالدهاء
كما كان يفعل فيليب، لكن الإسكندر كان قد اتخذ
القرار بأن تجري الأمور على طريقته ومضى إلى أبعد
أنحاء المملكة وقمع التمرد ووحّد البلاد بالقوة.
في
العادة يشعر المراهقون بالغضب من سلطة أبائهم ويرغبون في التمرد عليهم ولكن مع
تقدمهم في العمر يشبهون كثيراً ما كانوا يتمردون عليه. لكن ليس ذلك ما حدث مع
الإسكندر، فنفوره من أبيه استمر حتى بعد موته، وبمجرد أن وحّد اليونان وضع عينيه
على إيران وهي الأمنية التي كان يحلم بها أبوه للعبور إلى آسيا ولم يستطع أن
يحققها، ورأى الإسكندر أنه لو هزم الفرس سيكون قد تفوق على أبيه في المجد والشهرة.
عبر
الإسكندر إلى آسيا بجيش قوامه 35000
جندي لمواجهة قوة فارسية يتجاوز عددها المليون رجل. وقبل أن يشتبك مع الفرس في
المعركة مر على مدينة جورديوم، وفي معبد المدينة رأى مركبة حربية مثبتة بحبال
مصنوعة من لحاء أشجار الكورنيل وكانت الأسطورة تقول أن الرجل الذي يستطيع أن يحل
عقدة هذه الحبال (وكانوا يسمونها عقدة جورديوم) سوف يحكم العالم. كان الكثيرون قد
فشلوا من قبل في حل هذه العقدة الصعبة، وحين وجد الإسكندر أنه لن يستطيع أن يحلها
بيديه رفع سيفه وقطعها إلى نصفين. وكان ذلك إيحاء بأن ما يفعله الإسكندر لن يكون كأي
مما فعله الآخرون من قبله وأنه سيمهد لنفسه سبيلاً جديداً.
استطاع
الإسكندر أن يهزم الفرس على عكس توقعات الجميع، وظن الكثيرون أن سيقف عند هذا
الحد؛ فهذا النصر وحده كان كافياً لأن يضمن له المجد والشهرة إلى الأبد، لكن علاقة
الأسكندر بنجاحاته كانت علاقته بأبيه: كانت هزيمته للفرس من الماضي وهو لم يكن من
النوع الذي ينصر ماضيه على حاضره، فتوجه إلى الهند وفتحها ومد إمبراطوريته إلى
حدود أبعد من أي مملكة قديمة، ولم يوقفه عن طلب المزيد إلا إنهاك جنوده وتذمرهم.
التعليق:
كان
الإسكندر من النماذج التي لا تتكرر كثيراً في التاريخ: كان ابن رجل شهير وناجح ومع
ذلك استطاع أن يتفوق كثيراً على مجد أبيه وبطولاته. السبب في عدم شيوع هذا النموذج
بسيط: أن الأب غالباً ما يواجه عوز وصعوبات تدفعه للعمل الجاد حتى يُكَوِّن ثروته
أو مملكته، ولم يكن هناك ما يخسره من المكر والتهور لأنه لم يكن لديه الأب الشهير
الذي يريد أن ينافسه في بطولاته، وهكذا يجعله أي نجاح يحققه أكثر إيماناً بنفسه
وأكثر تيقناً من وسائله التي حققت له النجاح.
لكن
حين يكون هذا الرجل أب ناجح يستبد في تربيته ويفرض عليه الدروس التي تعلمها في
الحياة، بينما يكون الابن في ظروف تختلف تماماً عن تلك التي بدأ فيها الأب حياته.
وبدلاً من أن يترك هذا النوع من الآباء أبناءهم يكتشفون طريقهم في الحياة يحاولون أن
يجعلوهم يمشون على خطاهم، وربما من داخله يتمنى أن يفشل ابنه كما تمنى فيليب أن
يسقط الإسكندر عن بوسافلوس لأنه رأى فيه ما فقده من القوة والشباب. هؤلاء الآباء
تحكمهم غالباً الرغبة في السيطرة والتحكم، ويميل أبناؤهم إلى اكتساب الخوف والحذر
من أن يخسروا ما حققه أباؤهم ولا يخرج هؤلاء
الأبناء عن ظلال أبائهم إلا إن تمسكوا بإستراتيجية الإسكندر القاسية باحتقار
الماضي وصنع مملكتهم الخاصة، وأن يجعلوا أباءهم يتوارون في الظل بها يحققونه هم من
نجاح. من الصعب بالطبع أن تبدأ من الصفر مادياً لأن لا أحد يستطيع أن يتخلى عن
ميراثه، لكن من الممكن أن تبدأ من الصفر نفسياً بأن تزيح عنك ثقل الماضي وتبدأ في
اتجاه جديد. عرف الإسكندر بفطرته أن الميزات التي بناها الإنسان بالوراثة تعيق
سطوته، فلا تكن رحيماً مع الماضي - ليس فقط ماضي أبيك ولكن ماضيك أنت نفسك،
فالضعفاء وحدهم هم من يتمسكون بأكاليل وذكريات انتصاراتهم في الماضي. وفي لعبة
السطوة ليس هناك أبدا وقت مستقطع أو فترات للاستراحة.
أبسط
الطرق للهرب من ظل الماضي هو بالبساطة أن تقلل من شأنه وأن تلعب على التعارض
الأبدي بين الأجيال، وتستثير الشبان ضد الكبار، ولكي تحقق ذلك بكفاءة عليك أن
تختار شخصية مُسِنَّة لِتُشَهِّر بها. حين واجه ماو تسي تونج ثقافة تقاوم التغيير
بشدة عمل على استغلال الاستياء المكبوت من تحكم كونفوشيوس في الثقافة الصينية،
وحين أراد ج. ف. كينيدي أن يفصل نفسه عن سطوة الماضي ميز حكمه عن عقد 1950
الذي ميز سابقه القوي دوايت د. أيزنهاور، فلم يلعب الجولف الذي كان يعشقه أيزنهاور
والمرتبط بالشيخوخة والتقاعد والمميز لطبقة اجتماعية معينة بل كان يلعب كرة القدم
في مروج البيت الأبيض، وفي كل مجال جعل إدراته ترمز للشباب والتحمس على عكس سياسات
أيزنهاور القديمة والمحافظة. اكتشف كينيدي حقيقة قديمة وهي أنه من السهل تأليب
الشباب على الجيل الأقدم لأنهم يرغبون في أن يتخلصوا من سطوتهم وأن يتبوأوا مكانهم
في العالم الجديد.
لكي
تؤكد على المسافة التي تفصلك عن سابقيك وتعلن التغيرات للجمهور عليك أن تستخدم
الرموز، فقد استخدم لويس الرابع الرموز حين رفض أن يقيم في قصر اللوفر الذي
استخدمه ملوك فرنسا من قبله وبني بدلاً منه قصر الفرساي. وفعل مثل ذلك فيليب
الثاني ملك إسبانيا حين بنى قصر الإسكوريال في مكان ناء وجعله مركزاً لحكمه، ولكن
لويس مضى بالأمر لأبعد من ذلك: فلم يرتد تاجاً أو يحمل صولجانا أو يجلس على عرش بل
أكد حكمه الجديد برموزه ومراسيمه الخاصة، وجعل من رموز ومراسيم سابقيه آثاراً
مضحكة من الماضي. افعل مثله: لا تجعل الآخرين يرونك وكأنك امتداد لسابقيك، لأنك إن
فعلت ذلك فلن تصل أو تتجاوز ما أنجزوه أبداً. عليك أن تظهر اختلافك في المظهر بخلق
الأسلوب والرموز التي تميزك عن كل من جاء قبلك.
كان
الإمبراطور الروماني أغسطس الذي حكم بعد يوليوس قيصر يعرف هذه الحقيقة تماماً، كان
قيصر قائداً عظيماً ورجلاً يتقن إعداد العروض المسرحية التي تُرَفِّه عن المواطنين ومبعوثاً دولياً أغواه
سحر كليوباترا - الخلاصة أنه كان من الشخصيات التي يصعب تكرارها، كان أغسطس يحب
المسرح أيضاً ولكنه قرر أن يتميز عن يوليوس قيصر ليس بالتفوق عليه ولكن بالاختلاف
عنه: فقد بني سطوته على العودة إلى البساطة الرومانية والتقشف في المواد والأسلوب.
وفي مقابل ذكريات الناس عن حضور قيصر الطاغي بني صورته الجماهيرية على الرزانة
والوقار الرجولي.
المشكلة
في أن يكون لك سلف فرض نفسه أنه يكون قد ملأ الأفق برموز الماضي، ولا تجد مكاناً
تصنع فيه اسمك ومجدك. لكي تتمكن من التعامل مع هذا الموقف عليك أن تبحث عن الجوانب
الفارغة - أي مجالات الثقافة التي لم يهتم بها سابقوك والتي يمكنك أن تكون أول من
يشتهر بملئها وإعمارها.
حين
كان على بيركليس الأثيني أن يبدأ مشواره كرجل دولة بحث عن الشيء المفقود في
السياسة الأثينية ووجد أن معظم السياسة العظام في زمنه يربطون أنفسهم بالمترفين
وكان هو نفسه يميل لطبقة المترفين ولكنه قرر أن يتحالف مع القوى الديمقراطية
بالمدينة، ولم يكن ذلك بسبب ميوله الشخصية بل لأن ذلك سيمنحه مستقبلاً مبهراً.
هكذا فإن الضرورة هي التي جعلت بيرکلس رجل الشعب، وبدلاً من أن يتنافس في ساحة
مليئة بالقادة العظام المعاصرين والسابقين قرر أن يصنع لنفسه اسماً لا تحجبه
الظلال.
حين
بدأ الرسام ديجو دي فالسكيز مشواره المهني كان يعرف أنه لن يستطيع أن يتفوق على
الرسامين العظام لعصر النهضة الذين سبقوه في التقنية ودقة التفاصيل، فاختار أسلوباً
اعتبره أبناء عصره خشناً وقاسياً بطريقة لم يروا مثلها من قبل. وكان في مجتمع
الصفوة الإسباني من يريدون أيضاً أن ينقطعوا عن الماضي فسحرهم أسلوب فالسكيز
الجديد. معظم الناس يخافون أن ينقطعوا بهذه الجرأة عن الماضي ولكن في داخلهم
يعجبون بمن يتمرد على الأنماط القديمة ويعمل على إحياء الثقافة، ولذلك سوف تنال
سطوة عظيمة من إيجاد المساحات الخاوية وإعمارها.
هناك
نمط من الغباء يتكرر طوال التاريخ ويعيق الحصول على السطوة، وذلك الغباء هو
الاعتقاد أنه لو نجح أحد في الماضي باستخدام أسلوب معين فإنك ستنجح أيضاً لو
استخدمت نفس الأسلوب. طريقة وصفات النجاح هذه تغري من ليس لديهم إبداع لأنها سهلة
وتروق لكسلهم وخوفهم من تجريب الجديد ولكن الظروف لا تتكرر بنفس الطريقة أبداً.
حين
تولى الجنرال دوجلاس ماكارثر قيادة القوات الأمريكية في الفلبين أثناء الحرب
العالمية الثانية، تقدم إليه أحد مساعديه بكتاب يحوي أمثلة للأساليب العديدة التي
استخدمها سابقوه ونجحت معهم. سأله ماكارثر عن عدد النسخ الموجودة من هذا الكتاب
فأجابه المساعد أنها ستة فرد الجنرال "حسناً. اذهب وأتِ بها جميعا واحرقها،
فأنا لن أتقيد بالسوابق وحين تظهر مشكلة سأبتكر لها حلا". استخدم هذه
الإستراتيجية القاسية تجاه الماضي: احرق كل الكتب وتعامل مع المواقف متى تحدث.
أحياناً
تظن أنك انفصلت عن أبيك أو سلفك ثم تجد أنك كلما تقدمت في العمر تصبح أقرب وأقرب
من الأب الذي كنت دائماً تتمرد عليه. كان ماو تسي تونج يتمرد على أبيه وفي هذا
التمرد کَوَّن قِيَمه وهويته الخاصة، ولكن مع تقدمه في العمر بدأت خصال أبيه تزحف
إليه: كان أبو ماو يقدر العمل اليدوي أكثر من الفكر وكان ماو يسخر من ذلك وهو شاب
ولكن حين كبر عاد لاشعوريا إلى أراء أبيه وانعكس ذلك في إجباره جيلاً كاملاً من
الصينيين على العمل اليدوي وكان خطأ فادحاً كلف نظامه الكثير. تذكر أنك أنت أبو
نفسك فلا تنفق السنوات في بناء شخصيتك وفي النهاية ترخي دفاعاتك وتسمح لأشباح
الماضي - سواء الأب أو العادة أو التقاليد أن تتسلل إليك.
أخيراً
وکما لاحظت من قصة لويس الخامس عشر أن الوفرة والرخاء يدفعان الناس للكسل والخمول،
فحين نأمن على سطوتنا لا نشعر بالحاجة لفعل المزيد، وهذا خطير للغاية على من
يحققون سطوتهم في فترة مبكرة من حياتهم. انتقل كاتب
المسرحيات تنيسي ويليامز من شخص مجهول إلى نجم كبير
بعد نجاح مسرحيته السيرك الزجاجي وقد كتب لاحقاً «كانت حياتي قبل هذا النجاح تتسم
بالمحن والاحتيال والكفاح، ولكنها كانت حياة جيدة لأنها الحياة التي خلق الله من
أجلها الإنسان. ولم أدرك قدر الطاقة والحيوية التي بذلتها في هذا الكفاح إلى أن
زال عني. وبعد أن وجدت الأمان واسترحت ونظرت حولي شعرت فجأة بالكتابة الشديدة».
أصيب وليامز بالانهيار العصبي والذي ربما كان ضرورياً له: فبعد أن شعر بالمعاناة
من جديد استطاع أن يعود للكتابة بنفس الحيوية القديمة، وأبدع رائعته عربة اسمها
الرغبة. وبالمثل كان تيودور ديستويفسكي بعد أن يكتب رواية يشعر بالاستقرار المالي
ولا يجد ضرورة للإبداع بل يذهب بكل مدخراته ويقامر إلى أن يخسر آخر فلس معه وبعد
أن يعود للفقر يبدأ في الكتابة من جديد.
ليس
عليك أن تصل إلى هذا المستوى المتطرف ولكن عليك أن تعلم نفسك أن تعود بخيالك إلى
نقطة البداية حتى لا يصيبك الترف بالتخمة والكسل. كان بابلو پيکاسو قادراً على
الاستمرار في النجاح بالانقطاع دائماً عن الأسلوب الذي أكسبه النجاح والبدء في
أسلوب جديد. كثيراً ما تحولنا النجاحات المبكرة إلى صور کاريکوتيرية لأنفسنا،
وأصحاب السطوة الحقيقيون من أمثال الإسكندر الأكبر يتنبهون لهذه الكائن ويكافحون
دائماً لإعادة صنع أنفسهم، وعليك أنت أيضاً أن لا تسمح للماضي بالتسلل إليك وعليك
أن تذبحه في كل خطوة تخطوها.
الصورة:
الأب
يلقي
بظله ثقيلاً على أبنائه ويستعبدهم بالماضي لفترة طويلة بعد موته ويسحق أرواحهم
المتطلعة لاكتشاف الجديد. ويدفعهم للسير على نفس خطاه. وحيله لاستدراجك كثيرة
وعليك أن تتخلص من تأثيره عند كل
مفترق طرق وتتخلص من ظله الثقيل علبك.
اقتباس
من معلم: احذر من أن تحل محل رجل عظيم، فسيكون
عليك أن تبذل أضعاف جهده لتتفوق عليه. كما أن الناس ينظرون لمن يتبعون خطوات غيرهم
وكأنهم نسخة مقلدة ولن يستطيعوا أبداً أن يرفعوا عن كاهلهم هذا العبء. يندر أن
يبحث الناس عن الطرق الجديدة للتفوق والشهرة، لذلك ستجد أن هناك الكثير من هذه
الطرق أقل ازدحاماً بالمنافسين. ربما تراها طرقاً شاقة ولكنها غالبا ما تكون السبل
المختصرة لتحقيق المجد. (بالتسار جراتسيان، 1601
- 1658) .
عکس
القاعدة:
يمكنك
أن تستفيد من أمجاد من سبقك إن استخدمتها كحيلة أو سُلَّم يوصلك للسطوة وبعدها
تتخلى عنه. استخدم نابليون الثالث اسم جده نابليون بونابرت وسمعته الأسطورية
للوصول إلى رئاسة فرنسا وبعدها إمبراطوراً لها، وبعد أن وصل إلى العرش تخلى عن
تشبثه بالماضي وأظهر أن حكمه يختلف كثيراً عن حكم جده وحرص على أن ينهي على توقعات
الشعب منه أن يحقق أمجاداً كالتي حققها بونابرت.
هناك
غالباً إمكانات وعناصر في الماضي يمكنك أن تستفيد منها ومن الحماقة أن تتخلى عنها
لمجرد أن تثبت للناس تميزك. فالإسكندر الأكبر كان يقدر ويستفيد من مهارات أبيه
المميزة في تنظيم الجيوش. عليك أن تدير الأمور بحكمتك الخاصة ولكن التمرد على
الماضي لمجرد التمرد يظهرك للناس كأنك لست سوى طفل عنيد.
أراد
جوزيف الثاني ابن ماريا تريزا إمبراطورة النمسا أنه يختلف تماماً عن والدته. كانت
تريزا مثالاً للسلوك الراقي والمتحفظ لذلك أخذ جوزيف يرتدي مثل المواطنين العاديين
ويعيش في الفنادق بدلاً من القصور ويرسخ لنفسه صورة «إمبراطور الشعب». المشكلة أن
الناس كانوا يحبون ماريا تريزا التي أدرات البلاد بحكمة أصقلتها سنوات طويلة من
التجربة والمعاناة. إن كان الله قد وهبك الفطنة والذكاء لرؤية الصواب بنفسك فلن
تخسر شيئاً من التمرد؛ لكن إن كانت إمكاناتك متواضعة كما كان جوزيف الثاني مقارنة
بأمه فمن الأفضل لك أن تستظل بخبرة وأمجاد من سبقك والتي اكتسبها بقدرات حقيقية لن
تتفوق عليها بمجرد الادعاء والتمرد.
أخيراً
فإن من الحكمة أن تنتبه للشباب لأنهم منافسوك في المستقبل. وكما فعلت أنت للتخلص
من الماضي كذلك سيفعلون هم للتغلب عليك والتحقير منك ومن كل رموز زمنك. عليك أن
تراقبهم حتى لا تمنحهم الفرصة للقضاء عليك.
كان
بيترو برنيني الفنان والمعماري العظيم في عصر الباروك بارعاً في التعرف على
المواهب الصاعدة ويحرص أن يضمهم تحت عباءته. في إحدى المرات تقدم إليه معماري شاب
اسمه فرانسيسکو بورميني بتصميمات للبناء، واكتشف برنيني موهبته بسرعة ووظفه مساعداً
له. فرح الشاب كثيراً بهذا المنصب لكن الحقيقة هي أنها كانت حيلة قام بها برنيني
لمراقبة الشاب وإشعاره دوماً بالدونية، وعلى الرغم من عبقرية بورميني التي تتفوق
على أستاذه ظلت الشهرة والمجد في أيدي برنيني. كانت تلك استراتيجية برنيني طوال
حياته: فحين رأى أن النحات العظيم أليساندرو الجاردي قد يقضي على شهرته فعل كل ما
استطاع حتى لا يجد ألجاردي وظيفة إلا مساعداً له. وكان برنيني يدمر مستقبل أي
مساعد له يحاول أن يتمرد عليه أو يستقل بنفسه.
المصدر: THE 48 LAWS
OF POWER, ROBERT GREEN (ترجمة د. هشام الحناوي)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق