الأربعاء، 4 مارس 2020

• البريد من الحمام الزاجل حتى مرحلة الفاكس


البريد- في اللهجات العربية المتأثرة بالوافد من لغات أجنبية البوستة، والطاء أثر صدقا من التاء.. البوسطة، وفي حقبة الأربعينيات من هذا القرن انتشرت أغنية شهيرة على كل الألسنة حيث كانت تشدو رجاء عبده "البوسطجية اشتكوا من كتر مراسيلي"، أي أن عمال البريد أرهقوا ارهاقا قاسيا- إلى حد التشكي- من كثرة مراسلاتها إلى ذي القلب الجامد، القاسي.

ولعل شكري سرحان - الممثل الراحل- أدى أجمل أدواره في فيلم يحي حقي الرائع: البوسطجي هذا الذي كان قدره في صعيد مصر في عصور مصادرة العواطف وأحاسيس الغرام كما يعتقد كثير من الذين لا يفهمون الصعيد- حيث أودى به السأم والملل إلى التسلل لمضمون بعض الرسائل، والتي كان من بينها رسالة تكشف عن أخطر ما يمكن أن يحدث في هذه النواحي: الغرام، لتكون النهاية المقومة: ضياع طرفي العلاقة، وأقدم نص لغوي وردت فيه لفظة البريد كانت فيما رُوي عن الرسول الكريم أنه- صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أبردتم إليّ بريداً فأبردوه حسن الوجه حسن الاسم"، ولعل البريد هنا تعني- كما هو واضح- حامل الرسالة- شفوية أو مكتوبة، وجاء في الموروث من الأقدمين أن الحمى بريد الموت، وهو ما يوازي قولهم الآن: جوابك تحت جلدك، والجواب هو الرسالة كما هو معروف.
وسيظل الحمام الزاجل مرتبطا بالبريد المبكر في التاريخ، عرفه الملوك والجيوش والأفراد، وظل نشاطا حتى بعد استخدام اللاسلكي وانتشاره في الحرب العالمية الثانية وقد أودي بالبريد المنقول عن طريق الحمام الزاجل التطور المروع في التخابر العلمي الذي شاع في "الفاكس" أخيراً- وهو النوع المعلن منه حتى الآن.
وفي كل التجمعات العربية التقليدية يصعب التراسل الغرامي عن طريق البريد، فنشأ نشاط لم ينتبه إليه أحد، وهو حامل الرسالة السرية- أي الغرامية- بين الطرفين، وفي العادة يكون هذا الوسيط امرأة لسهولة اتصالها بالطرفين، وكثيرا ما وقع العاشقان في حالة ابتزاز من "حامل أو حاملة" الخطابات، وهو أمر لم ينتبه إليه كثير من ذوي الاهتمام بمثل هذه الأمور الاجتماعية، وهم "مراسيل الغرام" والذين تجد صداهم في كثير من الأغاني والمواويل لقد وقعت- أنا- في هذا المأزق في أسوان.
وكل النظم والدول تراقب بريدها، مع أن الأقمار الصناعية والتصوير عن بعد قطع أبعاداً واخترق أغوارا- لا يصلها البريد العادي، لكن دولا عديدة تعتبر الخطابات مسألة شخصية لا يصح الاطلاع عليها إلا بإذن قضائي، وهناك وقائع عن أفراد رفعوا دعاوى للحصول على تعويض بسبب اطلاع السلطات على رساتلهم الخاصة، بل أن القانون في بعض الولايات الأمريكية والمقاطعات الأوروبية يبيح لأصحاب الرسائل المطالبة بالتعويض لو أن رسائلهم تعرضت للتلف أو التمزق دون ثبوت الاطلاع عليها، وهناك واقعة نشرتها فيما أظن مجلة المختار "ريدرز دريجست" الأمريكية الشهيرة عن زوج فتح رسالة قادمة لزوجته، فاتضح له أنها مليئة بما يثبت أثباتا قاطعا خيانتها له، فتقدم بالرسالة إلى المحكمة التي استجابت إلى طلباته بطلاقها دون أي حقوق للزوجة، وفي إجراء متواز قامت الزوجة بإقامة الدعوى ضد زوجها لقيامه بالاطلاع على رسائلها دون إذن منها، وحكمت لها المحكمة بالتعويض المناسب.
ومن قصص العصور الوسطى التي كنا مغرمين بها في السنوات المتألقة بالبريد الغرامي النادر- أي منذ ما يقرب من أقل من نصف قرن، كانت حكاية ذلك الشاب الذي جاءته رسائل تهديد إن لم يدفع ما يطلبونه من أموال، وارتاع والده الذي كان ثريا مما قد يحيق بابنه، فدفع مرات لابنه ما يقوم بتسليمه لهؤلاء المبتزين الغامضين، ولاحظ الأب أن ثمة تغييرا أصاب ابنه في الشهور الأخيرة، كثرة الانتقال والسهر في المدينة القريبة مع ارتداء ملابس ليس سهلاً الحصول عليها دون معونة مباشرة منه، ثم تطورت الأحداث ليكتشف الأب أن ابنه يكتب الرسائل بخطه ويسلمها لصديقته التي تقوم بإعادة كتابتها بخطها، ليعيش الاثنان في ترف ما يحصلان عليه من الأب.
ويمتلئ الأدب- بعيداً عن أمور المغامرات ووقائع القصص البوليسية- بفن كتابة الرسائل أشهرها في الأدب العربي رسالة الغفران ثم رسالة إلى أهل روما التي أرسلها القديس بولس في العهد المسيحي المبكر طالباً نشر المحبة بين الرومان، وهناك رسالة الإمام الشافعي وهو مؤلف وضعه الإمام الشافعي في أصول الفقه الإسلامي وقبل ذلك رسائل تل العمارنة والتي تحمل أنواعا من الود السياسي بين اخناتون فرعون مصر إلى حكم الشام وأمرائه، في القرن 14 قبل الميلاد، وهي منقوشة بالخط المسماري الشهير، وعليك أن تضيف المجلدات التي ظهرت في نصف القرن العشرين- النصف الأخير والتي احتوت على كثير من مراسلات هيمنجواي ونيتشه واينشتين ويحي حقي وآخرين
غير أن أخطر رسالة كانت هذه البقعة المرسومة بأناقة وتلقائية من السيدة مونيكا إلى السيد الرئيس كلينتون عندما كان كلينتون رئيساً للولايات المتحدة الأميركية.
المصدر: 1

إقرأ أيضًا                           
للمزيد
أيضاً وأيضاً






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق