الجمعة، 20 مارس 2020

• الدودة في الحرير والشوك والكبد والخوف والأدب


انشغلت فترة بالتمهـيد للكتابة عن الشرنقة، كنت شديد الانجذاب إليها بصفتها طوراً من أطوار الحشرة التي كثيرا ما كان للدود موقعه في تطورها، إلا أن الدود حاصرني ودمر شرنقتي من جميع الجهات، أحسست بأنني وقعت في مأزق "المش" العتيق الذي عانينا المرار في طفولتنا كي نأكله دون اهتمام بحركة الدود اللولبية الذي تنعكس على جلده أضواء المصباح الكليل القديم، وأصبح كل شيء حولي يماثل أم أربعة وأربعين:

هذه الدودة الشرسة التي تخترق التربة في المزروعات الجميلة وقد رفعت قرنيهـا علامة للشر، حيث يقال إن لدغتها تؤدي مباشرة إلى القبر، وكانت حركتها الدودية فوق سيقانهـا الأربعة والأربعين وراء إدراكي لشراسة الدبابات العسكرية ذات الجنازير والعجلات المتعددة، وعندما وصفني- بعد ذلك بأحقاب- واحدمن كبار المثققين بأنني دودة كتب، ثرت عليه بحدة لأفصح له عن جهلي المطبق، فلم أكن أعرف أن الثقافة الأوربية تطلق على الذي ينكب على القراءة متوحداً مع الكتب بأنه دودة كتب وهذا ما جعل للمكتبات- العامة والخاصة- اهتماماً عند المختصين كي ينظفوها بوسائل وطرائق أخرى غير تلك التي نستخدمها نحن في مكتباتنا عادة، إنهم يحاربون الدودة الرفيعة التي تخترم أوراق الأسفار والمجلدات.
وتكاد الدودة تهيمن علي الاهـتمام أكثر من الأطوار الأخرى للحشرات من بيضة إلى يرقة (التي هي بداية الدودة) ثم العذراء في الشرنقة أو من دونها لتبدأ الفراشة، ذلك أن الدودة في حالتها العامة- أي عدا حالات استثنائية- تمثل الشر المتعدد والمتنوع، وعندما كان هذا الشر يتحرك في فصل الربيع بين أوراق شجيرات القطن الغضة، كانت قريتنا- ديروط الشريف- تصوغ حياتهـا لحساب مكافحتها، العيال- ذكورا وأناثا- يوقظهم الخولي (ريس الأنفار) مبكرا، ربما قبل الفجر كي يتجمعوا متوجهين إلى حقول القطن وكانوا يزعمون أن الوقت المبكر مناسب لجمع يرقات دود القطن والأوراق المصابة به، وأن الضوء الواهن للشمس يدفع الدود كى يعتلى الأوراق فيصبح من السهل رؤيته، كما أن دق الطبول لإحداث ضجيج مفزع لأنواع من الدود في الأرض المحروثة يثير في النفس العودة إلى العالم الفطري الذي استخدم الطبول فيما لا نستخدمه الآن.
وعندما نذكر الديدان نتوقف عند دودة القطن شراً، وخيراً دودة القز- الحرير، والتي تتغذى على أوراق التوت، وكانت أنشطتنا المدرسية في ذاك الوقت تتضمن شيئاً من الاهتمام بها- مع الانتباه للنشاط الياباني والصيني في هذا المضمار الذي أنتج قماشاً كان شهيراً باسم "السكروته" مع أن كل أنحاء حياتنا يغزوها الدود، الحياة في أخطر عناصرها: التربة والخضرة والإنسان، دودة الاسكارس، والاكسيورس، والانكلستوما، والبلهارسيا في الجسد الإنساني (على قدر معلوماتي)، ثم ديدان خاصة بالبطاطا، والبلح، والعنب، والذرة، والتفاح، وديدان أخرى للبرقرق والخوخ والمشمش واللوز، غير أن أخطر دودة سببت لي رعباً- وأنا صغير- ولا تزال تداهمني في نومي، وظهرت ذات مرة في قصصي، هي دودة السنط، أو كلب السنط كما نصطلح على اسمها القروي، كانت- في موسم البرد والجوع- تداهم أوراق شجرة السنط (وهي شجرة شريرة أيضاً ذات أشواك مرعبة وظلال قليلة، وتنمو بكثرة في بلادنا دون اهتمام بمحاولاتنا الدائبة لاقتلاعها) وشكل الدودة ذات القرنين أثناء سعيها الدءوب بين إفرازات الصمغ اللزج على البشرة المتغضنة: يثير في النفس إحساساً شائكاً بمعنى الشر، أراه- حاليا- في حركة نوع من الموظفين يسعون للوقعية في مكاتب الرؤساء، وفي هذا التسلل المقيت لنوع من الكتاب يرتزق على حساب جراح الوطن وفي ذلك الشر الكامن في جوف زميل يأتي من أقاصي الأرض كي يطمئن عليك في ظروف اعتلال فلا ينطق إلا ما يزيد الاعتلال فيصبح ابتلاء،غير أن الأمر في الدود قد يصل إلى الكبد والبنكرياس- ربنا يحفظنا، في حين أن الشر الإنساني يداهم الفؤاد مباشرة، أتركالمخ جانبا الآن فقد تركنا اختراقه وإفساده للدودة السياسية المنتشرة في أنحاء العالم، والعربي بالذات.
وحركة الدودة اللولبية يمكن أن تفيد في الإبداع الأدبي- وليس السلوك، فهناك هذه الحركة الناعمة في فن الرواية التي تستدرجك في نعومة كي تجد نفسك- آخر الأمر- ملدوغاً بمفاهيم تخترم ما ظل سادراً في تكوينك العقلي، وهو ما يمكن أن تراه في كتاب "الكلمات" لجان بول سارتر، وقصص تشاينبك، كما أن "الغريب" لألبير كامي تستدرجك لتسري في سراديب مفاهيمك كلها، ولا أعرف إن كان فن الباليه الموسيقي قد استفاد من حركة الدودة، بعد أن استفاد من البط، والديوك، والثعالب، والضفادع، وهو ما يجعلنا نعيد النظر في الديدان كي نكتشف أن المرعب منها يخضع لقوانين الشر التي اكتشفناها نحن، دون أن يدرك الدود ذلك بالمرة.
المصدر: 1

إقرأ أيضًا                           
للمزيد
أيضاً وأيضاً





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق