الأحد، 10 مايو 2020

• العُشّ والعشّة مأوى العقارب والعصافير واللصوص


العش: وكر الطيور والعناكب، فإذا أصابته تاء التأنيث ليكون (عشّة) أصبح وكراً لنا نحن البشر، وهي التكوينات المبكّرة للمرحلة التي تطوّرت إلى الكوخ ثم البيت الذي لم يلبث أن أصبح قصراً فخيماً أو شقة في عمارة، وبينما كنّا نكافح نحن أبناء العشش أو الديار البدائية الأولى لنصل إلى عنان القصور أو الشقق: فوجئنا بأصحاب تلك المساكن الفاخرة يعيدون ترتيبات حياتهم كي يعودوا إلى هذه العشّة البسيطة الخالية من كل التعقيدات الحديثة.

وتكون العشّة أكثر تحقيقاً للعيش المأمول لو كانت تطل على تلك الآفاق الممتدة رقيقة بالغة الرومانسية استقبالاً للشروق المبكّر للشمس، ووداعاً لآخر أضواء نهار تغرب هزيلة مطمئنة لبواكير غسق الليل، ويكون المشهد بالغ الجمال إذا ما كان لموسيقى مسطّحات المياه الموغلة في الأفق دورها الممتع، ودون أن تعشش في مخك - يا صديقي - تلك المسائل التي أفسدت المدن.
وتكاد العشّة ترتبط بالريف والوديان والسهول مقابل الخيمة في الصحارى والجبال، لكن المنتجعات الحديثة قامت بتطويع العشش - دون الخيام - في هذه الأماكن الصحراوية والجبلية، وأشهرها منتجعات ومصحات أوربا في جبال الألب، البريطانية والسويسرية، وفي جبال البرانس بين أسبانيا وفرنسا، حيث استفادت تشكيلات العشش من تجارب الأوربيين بالتفاعل مع الأكواخ القبلية في إفريقيا الوسطى - حول منابع أنهار النيل والنيجر وزامبيزي، وفي أمريكا الوسطى والجنوبية إزاء مساكن أهل البلاد الأصليين، ولاسيما حول نهر الأمازون، إنها ذكرى الاستعمار المبكّر تبسيطاً للحياة الأوربية المعقدة، دون الإخلال بحق الأكواخ الصينية والهندية في التأثير.
وأخطر ما في العشّة قدرتها الفائقة على إذكاء الإحساس الإنساني بالحياة والتواصل والهدوء والإرتباط بالوجود، ربما تكون الغرف المتداخلة والحجرات متعددة الأبواب، وضغوط السقوف، وعدم الخلاص من وقع خطوات الآخرين - مهما كان الآخرون أهلاً وأحباباً - في الطوابق العليا، وراء الرجوع إلى عالم العشش التي لا تصنع الحصار الذي يقذف بالروح إلى نوع من التوتر، وهو ما جعل المدن - كل المدن - غولاً حضارياً شرساً لا يمكن الانصياع لقوانينه وتكويناته دائماً، إن لجوء الباحثين عن الصفاء الروحي من كـُهّان مختلف الأديان إلى الصحراوات أو قمم الجبال، لم يكن سببه - دائماً - الهرب من الاضطهاد أو الاختفاء بعيداً عن عيون المتربّصين، حتى لو كانت المصحّات ومستشفيات البراري قد استفادت من أسباب انقطاع الأديرة والمعابد هناك في عشش متناثرة في الهواء الطلق مع تغيير لفظ العشش إلى شاليهات.
ولأسباب تتعلق بثقافتي القروية المبكّرة: ظلت العشة مكمن الإيحاءات الفقيرة العاجزة عن امتلاك مسكن، يحتلها أصحاب الأنشطة الذين نترفّع أن يكونوا من أهلنا: باعة السمك المملح من السردين الصغير - أو الذين يجهّزن الشاي والجوزة لعمال المواسم الزراعية، تلك العشش التي يمكن الجلاء عنها من موقع لآخر تحت تأثير انتقال مواقع النشاط ذاته أو خضوعاً لحركة مياه فيضان النهر وجداوله، ثم لم ألبث أن اندهشت لورود لفظ (العشّة) في كتابات الصحفي الشهير محمد التابعي، ثم عرفت أن أم كلثوم - ذات السطوة المتألقة على الوجدان - تلوذ بالعشة الصيفية في رأس البر على ساحل البحر - هناك في الشمال الذي يعبق بالنسيم، وتوالى أصحاب العشش ليعبثوا في مفهومي الراسخ عن هذا المأوى الفقير: أبناء أمين: علي ومصطفى وفارس الصحراء والقصور أحمد باشا حسنين المشرف على تربية الملك فاروق الأول - ملك مصر والسودان، وعليك أن تفتح باب الجمجمة الريفية لترى مدى ما حاق بنا حينما اتضح أن عدداً آخر من نجوم المسرح والسينما وأصحاب العزّ والجاه والشهرة والسطوة على أغلفة المجلات الملوّنة يقيمون في تلك العشش البسيطة: أبسط بمراحل من كوخنا الريفي في براري قريتنا: أحمد سالم وعزيزة أمير وسراج منير ومحمد كريم وبابا شارو وعثمان محرم وأحمد رامي وكاميليا وحسن الإمام ومحمد حسن الشجاعي، وسوف أشير - من باب التعريف السريع إلى أن عثمان محرم كان وزيراً لامعاً للأشغال في عصور ما قبل ثورة عبدالناصر، أي أنه كان المسئول عن مشروعات الري والصرف والقناطر والمدن، أما باقي أصحاب العشش فسوف تقوم ذاكرتك بإفراز المادة القديمة من بين خلايا أعشاشها لتثير رائحة التعريف بهم.
أما مذكّر العشّة الإنسانية فهي: العُشّ، وأقوى الأعشاش ما كان للطيور الجارحة من نسور وصقور وبوم وغربان وعسكر ومتمرّدين وقطّاع طرق ونحل وزنابير وعقارب وخلايا شيوعية أو تجسس أو أمراض سرطانية، ولا تلبث الرومانسية أن تتضوع في رقة حول أعشاش العصافير والفراشات والوجدان والقصائد وانفعالات الألوان لتصنع الحلم واللوحات وأنغام موسيقى الوجود، لتنبسط الحياة كلها في شفتي الطفولة الساعية نحو ثدي الأم تلتمس دفء الإشباع العظيم، ثم لا يلبث أن يتبدد هذا الدفء خلال الحركة الدائبة سعياً للخروج من العش لتصل إلى كل تعقيدات سعادة جهنم العصر الحديث. لا تحزن - يا صديقي - فسوف تعود إلى الوكر النهائي الصامت الذي لا نحب أن نصفه بالعش، مع قراءة الفاتحة توسّلا للرحمة من الله الرحيم.
المصدر: 1
إقرأ أيضًا                           

للمزيد
أيضاً وأيضاً




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق