الاثنين، 16 يوليو 2012

ابن الرومي.. عربي البيان المتشائم

ابن الرومي.. عربي البيان المتشائم
          أبوه رومي وأمه فارسية، أما هو فشاعر عربي بلسان مبين وقصيدة بالغة البلاغة، وروح متشائم إلى حد التطير، وحياة امتلأت بالمآسي، ودائرة أغلقها الموت على بؤرته العائلية، حتى أغلقها الشاعر البائس على نفسه متوحدا مع أطواره الغريبة وسخريته من الجميع خارج تلك الدائرة المغلقة.
          ولد علي بن العباس بن جريج المعروف بابن الرومي في بغداد عام 122هـ (638م) تحت جناح بني العباس باعتباره مولى من مواليهم، مفتخرا بنسبه الأول المتوزع بين الفرس والروم، وأيضا بنسبه الآخر المكتسب من بني العباس.
          عاش ابن الرومي في بيئة ثقافية مميزة ضمن أزهى العصور العربية في عاصمة الدولة الإسلامية، وقد وفر له والده في صغره فرصا واسعة للأخذ بأسباب العلم، حيث أظهر نبوغا شعريا مبكرا ظهرت بوادره في أبيات هجائية فخمة. ويبدو ان تلك الأبيات كانت إشارة أولية نحو الطريق الشعري الذي سلكه فيما بعد ببراعة معترف بها من قبل النقاد، ومتلقي الشعر على حد سواء. وليس من الغريب ان يكتشف قارئ ديوان ابن الرومي الضخم أن ثلث هذا الديوان تقريبا يحتله الهجاء القاسي ذو الصبغة الكاريكاتيرية القاسية الذي لم يكد يسلم منه أحد من معاصريه، حتى أنه هجا نفسه في بعض الأبيات، على الرغم من اعتداده بنفسه وشعريته، منتقدا ضآلته وقبح مظهره ودمامة ملامحه،. ويروى على هذا الصعيد قول المرزباني أحد أبرز نقاد عصره وهو : "لا أعلم أنه مدح أحدا من رئيس أو مرءوس إلا وعاد إليه فهجاه".
          وإذا كان الهجاء هو المادة الأولى من مواد شهرة ابن الرومي، فإن التطير هو المادة الثانية، حيث عرف هذا الشاعر بتطيره الدائم وبتشاؤمه الذي كان يستغله للبقاء في منزله بعيدا عن السلطة ورجالها ممن كان يتشاءم منهم ويتشاءمون منه أيضا.
          وإذا كان نزق الشعر المبكر في نفسه قد رسم طريقه الشعري الأول على هدي من الهجاء اللاذع، فقد كانت مآسيه العائلية طريقه نحو الفن الذي أجاده فعلا على هامش من الموت الذي هيمن على حياته الخاصة لمدة طويلة. وقد ورث عن والده أموالا وأملاكا كثيرة لكنه أضاعها على ملذاته قبل أن تتوالى عليه المحن، فتجرده من أقرب المقربين إلى نفسه، فبعد أن احترقت ضيعته وأتى الجراد على بساتينه جاء الموت ليقضي على أفراد اسرته واحدا واحدا، حيث توفيت والدته بعد وفاة والده ثم أخوه ثم زوجته، وكان موت أولاده الثلاثة واحدا بعد الآخر أعظم المآسي التي صبغت جزءا كبيرا من ديوانه الشعري، وتعد مرثيته لابنه الأوسط إحدى أحلى نماذج  فن الرثاء، ذلك الفن الشعري الباكي في ديوان الشعر العربي بأكمله، فقد صور فيها ابن الرومي مشاعر أب متفجع على رحيل صغيره عبر مشاهد إنسانية متفردة في دقائقها النفسية وملامحها العامة على حد سواء.
          لكن الشاعر ذا الموهبة الفذة لم يقصر شعره على الهجاء والرثاء، حيث برع وابتدع وامتاز وتميز في كل غرض طرقه، بل تعدى ذلك لأغراض أخرى كان فيها رائدا من رواد الصياغة الشعرية المفعمة بروح السخرية، وربما الفكاهة أيضا. ويبرز على هذا الصعيد وصفه لألوان الطعام الشائعة في عصره وصفا باهرا يكاد لم يسبقه إليه أحد من الشعراء.
          ومشيعا بروح السخرية التي أجاد التعامل معها على مدى القوافي والأوزان، متسلحا بقوتها المختبئة وراء ذكاء المعاني والكلمات، رحل ابن الرومي مسموما على ما ذهبت إليه أغلب الروايات. فقد دس أحد أعداء هذا الشاعر - من متنفذي السلطة السياسية آنذاك - السم في طعام قدم إليه، فما أن تناول الطعام وأحس بالسم يقطع أحشاءه حتى انتبه للمكيدة الخئون بعد فوات أوان انقاذ حياته، لكنه على الأقل وجد من الوقت أمامه ما يكفي كي يسخر لآخر مرة من قاتله المنتظر ويسجل لحظة انتصاره الأخير ببديهته النافذة، فما أن قام مسرعا مبتعدا عن أجواء الوليمة المسمومة، حتى سأله القاتل متشفيا بمصيره المحتوم: إلى أين؟ فأجابه الشاعر - بصوت جاهد أن يكون واثقا من قوته، بالرغم من الألم - إلى حيث أرسلتني. فقال له قاتله متابعا تهكمه الساذج: إذن سلم لي على والدي. فانتهز ابن الرومي فرصته الأخيرة للنيل من غريمه الخائن وأجابه: ما طريقي إلى النار!
          وأغمض الشاعر عينيه على غريمه المهزوم ببلاهة، مبتسما تلك الابتسامة الظافرة  التي أنسته الألم الرهيب واسلمته لمشاعر الاعتداد الساخر.
          مات الشاعر إذن، وكان ذلك عام 382هـ (698م)، وبقي الشعر شاهدا على عبقريته الخالدة في ديوان كبير، وقد حظي هذا الديوان باهتمام عدد من الشراح والمحققين في طبعات متعددة، لعل أفضلها تلك التي حققها «د. حسين نصار»، وطُبعت بالهيئة المصرية العامة للكتاب وتقع في ستة مجلدات كبيرة.


تابعونا على الفيس بوك

www.facebook.com/awladuna

إقرأ أيضًا:
إبراهيم طوقان.. شاعر له عينا زرقاء اليمامة
ديكِ الجن.. ديك الشعر الفصيح
مالك بن الرَّيـْب.. يرثي نفسه

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق