الاثنين، 16 يوليو 2012

بشار بن برد

بشار بن برد
والأذْنُ تعشقُ قبلَ العينِ أحيانا
          بشار بن برد شاعر احتفى بالسمع حاسة تقوده في دروب جمالية مؤدية نحو العشق، فالأذن تعشق قبل العين أحيانا، كما قال في شطر بيت ذهب مثلا، أو لعله نظرية جديدة في العشق كما يفهمه كثيرون ليسوا عميانا، كما كان بشار، بالضرورة.
          قالت عنه كتب الأدب إنه كان ضخما، طويلا، عظيم الخلقة، سيئ الخلق، بَرِما بالحياة، بذيء الكلام والهجاء، خليعا، ماجنا، شعوبيا، مزدريا بالعرب، متهكما على أساليبهم ومفاخراتهم، ولكنه كان شاعرا. وهذه الأخيرة هي أهم ما يمكن أن يقال عنه لعلها تجب ما قبلها أخيرا.
          ولد أبو معاذ بشار بن برد بن يرجوخ العقيلي (95 - 167هـ / 714 - 784م) على مقربة من مدينة البصرة، حيث نشأ مختلفا إلى الأعراب الضاربين فيها، آخذا عنهم اللغة العربية وأسرارها الشعرية، وقد تجلى كل ذلك فيما بعد شعرية فذة قارع بواسطتها كبار شعراء الدولتين الأموية والعباسية، حتى أن بعض النقاد ومؤرخي الأدب اعتبره أكثر شعراء العصر العباسي الأول مساهمة في الإنجاز الشعري الكبير الذي تميز به ذلك العصر.
          لكن هذا كله لم يغفر له مجونه المفرط ولا استخفافه بالناس وتعمده نهش أعراضهم في قصائده الهجائية المقذعة، أو استهتاره بالدين، حيث اتهم بالزندقة وهي التهمة التي أودت به إلى نهايته القاتلة ضربا بسياط المؤمنين بزندقته، وغيرهم من المؤمنين بشعوبيته، وغيرهم من المؤمنين بتهتكه، وأولئك الذين اتخذوا من مثالبه الدينية والقومية والأخلاقية تلك حجة لعقابه على ما يتقوله هجاء لأشخاصهم وشخصياتهم، فقد كان بشار يهجو من لا يعطيه. وكان قد مدح الخليفة المهدي فمنعه الجائزة فأسرها بشار في نفسه وهجاه هجاء مقذعا بل وهجا وزيره يعقوب بن داود وأفحش في هجائه لهما فتعقبه الخليفة المهدي وأوقع به وقتله دون أن يخشى لومة متعاطف مع الشعر والشعراء في زمن يقدر الاثنين كما لم يقدرا في زمن آخر، ذلك لأن بشارا كان قد بالغ كثيرا في تتبع لذائذ الحياة في مظانها القصية، مفرطا في تعاطيها مما ألب عليه الكثيرون، خاصة أنه أدخل قصيده أكثر من مرة في أعشاش تسكنها دبابير من بيده الأمر سياسيا واجتماعيا ودينيا وقوميا أيضا، بنزق شعري عدائي صارخ.
          وربما يحتاج ذلك النزق الشعري ذي النزعة العدائية الصارخة في قصائد الهجاء والفخر لديه مقارنة بالرقة والعذوبة والشفافية التي تميز بها غزله ونسيبه إلى تحليل نفسي دقيق، يحاول من يضطلع به أن يكتشف أغوار ذلك التناقض الرهيب بين الحالين مما لا يتلاءم مع شاعر كان مخلصا لذاته الشاعرة أكثر مما كان منفذا لمتطلبات عصره على الصعيد القومي والشعري. فربما كانت ظروف نشأته في ظلمة فقدان البصر دميم الخلقة سيئ الخلق، منتميا لأصول عائلية غير مرحب بها في مجتمع عربي لم يزل يفاخر بأصوله القبلية، على الرغم من تعاليم الإسلام الحاثة على عدم التفرقة بين عربي وأعجمي، إلا بالتقوى، سببا في تلك النقمة العنيفة التي تجلت في سلوكه في الحياة أولا، ثم في شعره بعد ذلك.
          فقد تكونت شخصية بشار بن برد في كنف الدولة الأموية التي أعلت من شأن العرب على حساب مواطنيها من الشعوب الأخرى وفي مقدمتهم الفرس، ولعل تلك السياسة كانت في طليعة ما أثر في نفسية الشاعر الشاب، الذي حاول مقارعة كبار شعراء ذلك العصر والتحرش بهم، لعلهم يوصلونه إلى مجد لم يكن يدركه غير العرب منهم كثيرا، إلا أن ظنه قد خاب عند أول محاولة، فقد هجا الشاعر جرير أخذا في اعتباره أنه أبرز الشعراء وأحد أهم فرسان النقائض التي ميزت ذلك العصر شعريا، لكن جرير المنشغل بالفرزق وأعوانه من الكبار لم يكن ليهتم بشاعر ناشئ إلا باعتباره أعجميا باحثا عن شهرة فلم يرد عليه أبدا!.
          وهكذا انتظر بشار بن برد بزوغ شمس الدولة العباسية التي حاولت أن تعترف بفضل الفرس في قيامها، فقربت الكثيرين منهم مما شجع بعضهم على إساءة استخدام تلك الحرية التي شعروا بها بعد ذلك الاضطهاد الأموي ذي النزعة القومية. وتحت وطأة ذلك الشعور الجديد غذى بشار بن برد ظاهرة الشعوبية بالكثير من قصائده الناقمة والحاقدة.
          وعلى الرغم من أن أحدا من المتابعين لمصائر الشعراء وطرائقهم في التصرف بمواهبهم الشعرية لا يعتقد أن فقدان بشار بن برد لبصره قد أثر على إنتاجه الشعري سلبا، فإن هذا لا يمنع من الاعتقاد بأن تلك العاهة الخلقية قد تركت أثرا ما لديه، وإذا كان الشاعر قد حاول أن يتسامى على تلك العاهة أمام الآخرين، بل يبدو وكأنه قد رضي عنها بعد أن خبر الدنيا بحجة أنها حجبت عنه رؤية ما يكره كما كان يقول، فإن قصائده التي لمحت لها، أو تلك التي بالغت في التصوير البصري، تبدو وكأنها تعويض نفسي وموضوعي عن شعوره تجاهها.
          روى بشار عن نفسه أن لديه أكثر من اثني عشر ألف قصيدة، ولكننا عندما نقارن هذه الرواية مع ما وصل إلينا فعلا من قصيد بشار بن برد نكتشف إما أنه يبالغ كثيرا، أو أن الكثير من شعره قد فقد بفعل فاعل، فهل تولت الرقابة - بغض النظر عن عنوانها على مدى التاريخ - حذف الكثير من شعره؟ سؤال لا نحتاج إلى إلى إجابته.


     تابعونا على الفيس بوك

www.facebook.com/awladuna

إقرأ أيضًا:
إبراهيم طوقان.. شاعر له عينا زرقاء اليمامة
ديكِ الجن.. ديك الشعر الفصيح
مالك بن الرَّيـْب.. يرثي نفسه




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق