وضّاح اليمن.. صريع الغواية
هذا شاعر آخر من المختلَف عليه حيًا وميتًا. والشعراء لا يموتون، فإن ذهبت أجسادهم بقيت أبياتهم لتجدد سيَرهم وتثير المزيد من الأسئلة حولهم.
شاعرنا هو عبدالرحمن بن إسماعيل الخولاني، لكنه عُرف باسم آخر هو وضّاح اليمن. اسمه المضاف نسبة إلى وسامته الطاغية، ووضاءته المشهورة. واسمه المضاف إليه نسبة إلى وطنه الأول.. اليمن، حيث وُلد فيه وترعرع وبلغ من الشهرة شعرًا ووسامة أن تعرفه العرب كثالث ثلاثة هم الأوسم من رجال ذلك العصر على الإطلاق. ويكفي أن يكون هناك شاعر مشتهر بالغزل ليصير قبلة للاهيات من النساء الباحثات عن الشهرة والصيت المدوي في عالم الجمال بين قوافي الشعراء، فما بالك إن كان من المشتهرين بالوسامة المعلنة اسمًا ورسمًا؟
عاش الشاعر صباه في وطنه عاشقًا لبنت من بنات ذلك الوطن، فكانت روضة، وهذا هو اسمها، بطلة لمعظم قصائده ونجمة لأوسع فضاءاته الشعرية قبل أن يذهب في شعره وعشقه بعيدًا جدًا.. حتى حدود الشام.
ولأن حكاية وضّاح اليمن بتفاصيلها الصغيرة، كما يبدو، لم تُكتب إلا في العصر العباسي الذي بنى مجده وشرعيته على أنقاض أسلافه من بني أمية، فكان لابد للسياسة وتبعاتها أن تلقي بظلالها على حكاية شاعر دخل قصور بني أمية من أبوابها الخلفية قبل أن يدخلها من الأبواب الأمامية. أما الأبواب الخلفية، فقد فتحتها له أم البنين زوجة الوليد بن عبدالملك، والذي يُنظَر إليه عادة كأحد أقوى خلفاء العصر الأموي قاطبة. لكن قلوب العاشقات لها نظرة أخرى لا تخشى بطش الخلفاء ولا غيرة الأزواج. فقد أحبّت أم البنين ذلك الشاعر الوسيم عندما رأته وهي في طريقها إلى أداء فريضة الحج. وكان من أمرهما ما يمكن أن يكون سرًا أو علنًا. لكن قصائد وضّاح اليمن في تلك السيدة الرفيعة المقام فضحت ما كان بين الاثنين، أو أنها في أكثر التفسيرات انحيازًا لبراءة الشعر والشاعر معًا، فضحت النوايا، والنوايا وحدها تكفي أحيانًا لرجال السلطة كي يكوّنوا أفكارهم، ويُصدروا أحكامهم. وهكذا صدر الحكم الأموي على الشاعر اليمني، الذي تقول الروايات إنه كان من المنحازين لشيعة آل البيت في صراعهم السياسي مع بيت بني أمية، بالموت.. وأي موت؟!
مات وضّاح اليمن ضحية لأحابيل السياسة وتدابير الهوى وهو يعد أنفاسه الصاعدة إلى حتفها نفسًا بعد نفس محبوسًا في صندوق مدفون تحت الأرض في غرفة من غرف القصر الدمشقي، بعد أن اكتشف سيد القصر وخليفة المسلمين وجوده في ذلك الصندوق المتصدّر لمخدع زوجته في الهزيع الأول من الليل. مات الشاعر إذن من دون أن ينال عنب الشام، بعد أن عافت نفسه كما يبدو بلح اليمن.
شكوك طه حسين
وإذا كان وضّاح اليمن مات تلك الميتة الغريبة كما تقول كتب الأدب التي روت سيرته، فإن باحثًا بحجم طه حسين لم يعترف بتلك القصة ولا بتلك الروايات، وذهب أبعد من ذلك بكثير، فلم يعترف بوجود هذا الشاعر أصلاً.. مدللاً على شكوكه التي اشتهر بها تجاه كثير مما يتعلق بالأدب العربي القديم، بلغة ما يروى للشاعر من قصائد سهلة لينة لا تشبه مجايليه من شعراء اليمن، بالإضافة إلى ذلك الارتباك الملحوظ في كتابات المؤرخين لسيرته الذاتية وخصوصًا فيما يتعلق بنسبه، فتارة يقولون إنه عربي من أم فارسية، وأخرى يقولون إنه فارسي نشأ في بيئة عربية، وثالثة يقولون إنه عربي ربيب رجل فارسي تزوجته أمه بعد وفاة والده.
لكن ما يقوله طه حسين لا ينفي أبدًا شعرية ذلك الشاعر، ولا يمكن أن يستقيم دليلاً موثوقًا به على عدم وجوده، وعلى أن اليمنيين اخترعوه اختراعًا من العدم ليكون لهم شاعرهم الغزلي في وجه عشرات من شعراء الغزل المضريين في ظل عصبية قبلية طالت كل شيء آنذاك. فلا أعتقد أن اليمانيين الذين يملكون الكثير مما يفاخرون به المضريين يمكن أن يلجأوا إلى حيلةٍ لا يمكن أن تصمد أمام اعتزاز العربي بنسبه وحرصه عليه حرصه على حياته.
لقد كان هناك فعلاً شاعر يمني اشتهر بقصائده الغزلية التي قدمته على كثير من الشعراء في ذلك العصر المزدحم بشعراء الغزل من كل شكل ولون وأسلوب، واسمه الذي اشتُهر به علمًا وموطنًا هو وضّاح اليمن.
وإذا كان مؤرخو الأدب العربي لم يذكروا متى وُلد على وجه اليقين، فإنهم على الأقل يعرفون تمامًا أنه مات العام (89 هـ/708 م) صريعًا لغواية السياسة وغواية الهوى معًا في لحظة تاريخية تكررت كثيرًا في حياة الشعراء والعشاق والسياسيين.
تابعونا على الفيس بوك
www.facebook.com/awladuna
إقرأ أيضًا:
إبراهيم طوقان.. شاعر له عينا زرقاء اليمامة
ديكِ الجن.. ديك الشعر الفصيح
مالك بن الرَّيـْب.. يرثي نفسه
للمزيد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق