عمر بن الفارض سلطان العاشقين
سلطان العاشقين، وأحد أشهر المتصوفين في ديوان الشعر العربي. عبر طريقه نحو نور الوجود بواسطة عرفانية القصيدة، وبرموزها حاول أن يصل إلى نقطة ظل يرنو ببصره إليها منذ شبابه الأول وحدة للوجود، وكسرا للكثير من القيود.
إنه عُمر بن علي بن مرشد بن علي الملقب شرف الدين بن الفارض، الحموي الأصل، المصري المولد والدار والوفاة. ففي مصر ولد ابن الفارض عام 576 - 632هـ، / 1181 - 1235 م، وفي أجوائها العابقة بروحانيات القرن السادس الهجري نشأ، وبرفقة والده بدأ خطوته الاولى في التعلم، والتثقيف وفقا لنزعاته الخاصة ومتطلبات روحه، وتعاليم دينه الذي صار ينهل منها وكأنه عرف باكرًا أنها ستكون طريقته الخاصة في فهم أسرار الحياة التي بدت له أسئلة دون أجوبة، وعلامات استفهام تتقافز في محيطه البشري.
ولأن الاسئلة كثيرة وعلامات الاستفهام آخذة في فرض وجودها في وجود ابن الفارض، فقد اتسعت رؤيته شيئا فشيئا دون أن تضيق عبارته التي اختار أن يصوغها شعرا في قصائد ولدت من الاسئلة أسئلة أخرى دون أن تتجاهل تلك الأجوبة التي تبدت من بين الرموز وكأنها ضوء ما في آخر النفق المظلم الذي ولجه الشاعر الشاب منذ وقت مبكر.
فمنذ أوائل شبابه أظهر ابن الفارض ميلا ملحوظا إلى التدين وفقا لطريقته الخاصة في التدين، والتلذذ بالتجرد الروحي على طريقة المتصوفين. وكانت وحدته وعزلته مع نفسه طريقه الأول نحو ذلك، فكان يستأذن والده في الانفراد للعبادة والتأمل. ويظهر أنه كان في جبل المقطم مكان خاص يعرف بوادي المستضعفين يختلف إليه المتجردون، فحبب إلى ابن الفارض الخلاء فيه، حيث تزهد وتجرد، وكان يأوي إلى ذلك المكان أحيانا، ولولا حرصه على بر والده بملازمته في كبره لما ترك ذلك المكان، لكن ذلك الحرص ألزمه بقطع عزلته بين فترة وأخرى عنه وملازمة الوالد الذي سئل أن يكون قاضي القضاة فامتنع ونزل عن الحكم، واعتزل الناس وانقطع إلى الله تعالى بقاعة الخطابة في الجامع الأزهر إلى أن توفاه الله. وما إن توفي الوالد حتى عاد الولد إلى التجرد والسياحة الروحية أو سلوك طريق الحقيقة كما تتراءى له في أحلامه وتطلعاته النفسية، لكن محاولاته تلك لم تؤتِ أكلها مباشرة، فلم يفتح عليه بشيء، أي لم يكشف له من المعرفة ما يستغني به، أو يجيب عن أسئلة الروح القلقة. وظل على حاله من التساؤل والبحث والتجرد إلى أن قيض الله له رجلا من الأتقياء العارفين حيث أشار عليه أن يقصد مكة ففيها مكانه وإجابات أسئلته، معرفته وضوؤه أيضا.
فقصدها وأقام فيها مجاورا نحوا من 15 سنة. وهناك بين المناسك المقدسة وفي حمى البيت العتيق، وفي عزلة اختارها في واحد من أوديتها، انكشفت له بعض الأسرار، وتبدت بعض المعارف، فنضجت شاعريته وكملت مواهبه الروحية. ثم عاد إلى مصر، وكانت يومئذ تحت سيادة الأيوبيين، وقد عنوا كل العناية بفتح المدارس والمعاهد فيها، فتجددت في أيامهم الروح الدينية والتعاليم السنية كنتيجة غير مباشرة لانتصاراتهم الحربية على حملات الصليبيين والتي حجزت لهم في تاريخ الامة الإسلامية صفحات خالدة. وبدوره كان ابن الفارض يعرف في مصر بعد عودته إليها باعتباره عارفا متوجدا متصوفا مالبث الناس أن أخذوا يقصدونه للزيارة مأخوذين بشخصيته الفريدة، وزهده وورعه ووقاره والذي لم يكن ليتعارض مع شدة تأثره بالجمال، في مصادره المختلفة، تأثرا كان يعبر عنه في كثير من الأحيان تعبيرا انفعاليا عصبيا، فإذا سمع إنشادا جميلا استخفه الطرب فتواجد ورقص ولو على مشهد من الناس. وقد نقل عن ولده أنه كان ماشيا في السوق بالقاهرة، فمر على جماعة يضربون بالناقوس ويغنون، فلما سمعهم صرخ صرخة عظيمة ورقص رقصا كثيرا في وسط السوق، ورقص جماعة كثيرة من المارين. وتواجد الناس إلى أن سقط أكثرهم إلى الأرض. ثم خلع الشيخ ثيابه ورمى بها إليهم وحمل بين الناس إلى الجامع الأزهر وهو عريان مكشوف الرأس وفي وسطه لباسه. وأقام في هذه السكرة ملقى على ظهره مسجى كالميت. وتمتلئ سيرة الشاعر المتصوف بمثل هذه الحكايات والطرائف بالإضافة الحوادث غير الواقعية والمألوفة في سجل المتصوفة والعارفين باعتبارها (كرامات).
لكن كرامة ابن الفارض الحقيقية تتجلى، كما نرى، في ديوانه الشعري، والذي عبر فيه عن عمق تجربته الإنسانية، ومتاهاتها النورانية في شعرية توسلت العشق طريقا إلى الحقيقة، وكانت الحقيقة فيها صورة من صور العشق الخالدة في أسماء ومعان كثيرة، وإذا كان ابن الفارض قد عرف بسلطان العاشقين، فإنها سلطة لا يمارسها إلا عبر نورانية القصيدة باعتبارها مزيجا من الحب والحقيقة. وهو المزيج الذي ساهم في تكوين الوجدان الصوفي الإسلامي بأكمله، وصار فيما بعد أحد أهم مظان ذلك الوجدان في التاريخ.
تابعونا على الفيس بوك
www.facebook.com/awladuna
إقرأ أيضًا:
إبراهيم طوقان.. شاعر له عينا زرقاء اليمامة
ديكِ الجن.. ديك الشعر الفصيح
مالك بن الرَّيـْب.. يرثي نفسه
للمزيد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق