«ربما آذاها اسمي، فقد طغى على حضورها. كانت شاعرة كبيرة
في وطن صغير».. هكذا لخص الشاعر السوري محمد الماغوط حياة صديقة عمره ورفيقة دربه
وشاعرته الأثيرة وزوجته وأم ابنتيه سنية صالح بعد رحيلها.
وهو بهذه العبارة البليغة الموجزة يشير إلى معضلة من
المعضلات التي تعانيها المبدعة العربية إن ارتبطت بمبدع مثلها.. فغالبا ما تجد
نفسها مضطرة للعيش في ظل «رجلها» المبدع شاءت أم أبت ذلك، ولا أظن مبدعة تشاء ذلك
فعلا حتى لو اضطرت لإعلان مشيئتها أمام الآخرين.
سنية صالح لم تكن مجرد شاعرة تزوجت شاعرا وحسب، بل كانت
شاعرة تزوجت العالم بأسره ووجدت نفسها مسئولة عنه، وهي لا تملك من أدوات سوى شعرية
فذة، ولغة فاتنة وحادة، ورؤية عميقة لكل شيء تراه وربما لا تراه أيضا. وقد استثمرت
سنية كل أدواتها بفيوض من القدرة على الاستكشاف والتعامل الحر مع القصيدة، فجاءت
بقصيدة لا تنتمي إلا إلى اسمها ولا تتحدر إلا من أعماقها، ولكنها أثرت في كثير ممن
قرأ لها من الشعراء لاحقا.
ومنذ ظهورها الأول في الأوساط الشعرية في بيروت، ارتسمت
قصيدة سنية صالح كعلامة فارقة ومختلفة جدا، ولعل من يقرأ قصائدها لأول مرة يفاجأ
بكمية الوجع فيها والذي تعاملت معه الشاعرة بحميمية خففت من قسوته قليلا، ولكنها
لم تخفف من حدة المفردات التي كان يحلو لسنية أن تستخدمها في كتابتها، فبدت وكأنها
تخدش بأظفارها بشرة الشعر وتدميه قبل أن تتركه مضرجا بدماء الإبداع ملقى على قارعة
النقد يواجه حيرة النقاد تجاهه بالمزيد من نزف الدماء بصمت.
هكذا كانت سنية وهكذا كانت قصيدتها.. الولع بالاكتشاف
والدهشة والحدة في الكتابة والاجتهاد في الحفر بين الخرائب والمضي في استلهام
التوحش والخيبة في يقظة بالغة وفهم واع لكينونتها في قلب الشعر.
متى بدأت سنية كتابة الشعر؟ لا أحد يعرف بالضبط، وربما هي
نفسها لا تعرف، فبدت وكأنها تحدرت من سماء علوية مجنحة بأخيلة ورؤى قال عنها
الآخرون حينما رأوها بالكلمات على الورق بأنها القصيدة. ولذلك كانت دهشة الآخرين
بها دهشة قلقة، حيث وجدت في فضاء الشعرية العربية الجديدة بعد سنوات قليلة من
تخلّق هذا الفضاء, وكأنها وجدت معه أو ولدت من أجله, أو ربما ولد من أجلها، فكانت
تكتب بلا مرجعية ضاغطة ولا تاريخ محفز.
ولدت الشاعرة سنية صالح في مدينة مصياف بمحافظة حماة
السورية في العام 1935م، لأسرة تهتم بالشأن الثقافي والأدبي تحديدا،
فكانت واحدة من بين ثلاث شقيقات اشتغلت الأولى بالنقد الأدبي وبرزت فيه هي
والناقدة خالدة سعيد التي اكتسبت اسمها الأخير من اسم عائلة زوجها الشاعر أدونيس
(علي أحمد سعيد)، وفضلت الأخرى أن تكون ممثلة مسرحية وتلفزيونية باسم مها الصالح،
في حين احتفظت سنية باسمها كما هو، حتى بعد أن تزوجت من الشاعر محمد الماغوط الذي
تعرفت عليه في منزل أدونيس وتزوجته وهي لاتزال على مقاعد الدراسة الجامعية في كلية
الآداب في جامعة دمشق. ونتج عن هذا الزواج الذي كلله الشعر ابنتان جعلت منهما
أيقونتين بشريتين لقدرة الشعر على التجاوز، وكثير من الحكايات الجميلة التي ظلت
ساكنة في وجدان محمد الماغوط بعد رحيل سنية في العام 1985.
كانت الشاعرة التي مرت كلمع بارق وخاطف في سماء القصيدة
العربية قد أصيبت بمرض السرطان، ولم يمهلها المرض طويلا فقد ودعت
الحياة في أحد مستشفيات العاصمة الفرنسية باريس بعد فترة قصيرة من إصابتها به، لم
تكف خلالها حتى هي تحت وطأة العلاج الكيماوي عن محاولة تفسير الكرة الأرضية
بالكتابة عن الذات وعن الآخر بتلك العفوية التي فاجأت النقاد والقراء على حد سواء
في العام 1961، عندما فازت بجائزة جريدة النهار لأفضل قصيدة نثر. كانت قصيدتها
نبوءة مبكرة على اختلاف قصيدة النثر وعلى ما ستواجهه لاحقا من تشكيك وملاحقات
نقدية صادمة وجارحة. وظلت تلك الملاحقات تراود التجربة بعد كل كتاب جديد يصدر لها،
بدءا بمجموعتها الشعرية الأولى «الزمان الضيق»، وانتهاء بـ «ذكر الورد»
مرورا بـ «حبر الإعدام» ، و«قصائد»، ومجموعتها القصصية اليتيمة «الغبار».
وفي مجموعتها
الشعرية الأخيرة التي صدرت بعد رحيلها «ذكر الورد» والتي كتبت كل قصائدها تقريبا
وهي على محك الموت المنتظر شفّت سنية صالح عن نفسها كغيمة في سماء بعيدة.. نزفت
ماءها على الأرض وتلاشت.. كأنثى للورد.
إقرأ أيضًا:
إقرأ أيضًا:
إبراهيم طوقان.. شاعر له عينا زرقاء اليمامة
ديكِ الجن.. ديك الشعر الفصيح
مالك بن الرَّيـْب.. يرثي نفسه
للمزيد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق