عنترة.. توق إلى الحرية وشوق إلى الحب
توق إلى الحرية، وشوق إلى الحب، وقافية تترى على شاطئ القول الأبدي، للشاعر الذي ملأ عصره بالأسئلة المتعلقة بأهداب الحرية عندما تكون هدف القصيدة الأخير.
إنه عنترة بن شداد بن عمرو بن معاوية بن قراد العبسي، فارس وشاعر، لكنه قبل أن يكون الفارس الشاعر كان عبدا أسود البشرة انتماء لأمه الجارية، وشبها بملامحها الحبشية، وبسبب الشبه الذي عزز الانتماء أنكره والده، وسلبه حريته المفترضة في ذلك المجتمع الجاهلي حيث الذكورة باب الانتماء عادة، لكن العادة لها استثناؤها عندما يتعلق الأمر بعبودية تشير إلى نفسها عبر لون البشرة كفضيحة معلنة.
وهكذا نشأ الفتى غارقا في بئر من الأسئلة حول الحرية ومعناها وعلاقتها بلون البشرة تحديدا، لكنه لم يجد من يجيبه على تلك الأسئلة الشائكة غير سيفه الذي أجاد استخدامه كما يليق بالفرسان الأحرار، وقصيدته التي أجاد بناءها كما يليق بالشعراء الموهوبين، فكان ذلك السيف سبيله الأول نحو استرداد حريته المسلوبة، واستمالة قلب أنثاه وابنة عمه عبلة، وكان الشعر سبيله الآخر نحو إعلان حقه في الحرية وحقه في الحب.
وعلى الرغم من اشتهار حكاية حبه لابنة عمه عبلة بنت مالك، فإن أحدا من أهله لم يعترف له بحقه في ذلك الحب، بل جعلوا من تلك الحكاية مادة للسخرية، وسببا إضافيا لإنكار نسبه إليهم، لكن سيفه وقصيدته لم يخذلاه عندما ضن عليه الأهل بالاعتراف. وعندما أغار بعض أحياء العرب على بني عبس وأصابوا منهم ما أصابوا وغنموا منهم ما استطاعوا من الإبل والأغنام، لم يجد والد عنترة بدا من اللجوء إلى ابنه غير المعترف بنسبه مع الاعتراف الجمعي بشجاعته، فقال له: كرّ يا عنترة. فقال عنترة استفادة من الموقف الحرج: ولكن العبد لا يحسن الكرّ، إنما يحسن الحلابَ والصرّ. فقال الوالد مضطرا: كرّ وأنت حرّ. فكرّ عنترة كما لم يكر من قبل. فقد أدرك في لحظات أنه قاب قوسين أو أدنى من حريته المسلوبة وحبيبته المستحيلة. وكانت ابتسامتها اللامعة بريقا للسيوف النواهل من دمه، كما كانت حريته لمعة تسري على جوانب الدم المسفوح، وتوقه إليهما معا كان وقود شجاعته وذكاء منطقه. وكان هو بنفسه الجائزة المهيبة لوالده بعد انتهاء المعركة انتصارا لبني قومه، فادّعاه أبوه والحق به نسبه فخرا به وتيها بجسارته وقيمة إضافية لمكانته الرفيعة بين بني عبس.
وقد استحق عنترة المولود قبل عصر النبوة بمائة سنة على وجه التقريب، والمتوفى قبل هجرة النبي باثنين وعشرين عاما، تنويه النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - عندما تُلي أمامه قوله:
ولقد أبيت على الطوى وأظلّه
حتى أنال به كريم المأكلِ
حتى أنال به كريم المأكلِ
حيث قال النبي الأمي العارف بأسرار العربية وبلاغاته بفطرته الإلهية: ما وصف لي أعرابي قط فأحببت أن أراه إلا عنترة .
ولعل في ذلك التنويه النبوي النادر بشاعر جاهلي ما يشير إلى القيم البلاغية بالإضافة إلى القيم الأخلاقية، التي ميزت السيرة الشعرية لعنترة بن شداد، والتي كانت معلقته نموذجها الأمثل، وهي المعلقة التي استحقت أن تكون واحدة من أبرز سبع قصائد عربية جاهلية علقها العرب على أستار الكعبة تقديرا وتكريما وإعجابا.
واحتفى الشاعر من خلال تلك المعلقة الفاخرة بقيم أخلاقية استثنائية، وعندما كان الشعراء يتباهون بقيمهم الجاهلية المعتادة بين تضاريس الصحراء حيث الغنيمة - على سبيل المثال - دليل النصر ومنتهى المعركة وخاتمة المشهد الحربي، كان عنترة يفتخر بأنه يغشى الوغى ويعف عند المغنم. وكل ذلك من دون ادعاء مزيف ببطولة خارقة، وقد قيل لعنترة: أأنت أشجع العرب وأشدها؟ فقال: لا. فقيل. فبماذا شاع لك هذا في الناس؟ قال: «كنت أقدم إذا رأيت الإقدام عزمًا، وأحجم إذا رأيت الإحجام حزمًا، ولا أدخل إلا موضعًا أرى لي منه مخرجًا، وكنت أعتمد الضعيف الجبان فأضربه الضربة الهائلة التي يطير لها قلب الشجاع فأثني عليه فأقتله». وهذه الآراء تؤكد اقتران الحيلة والحنكة في فن الحرب عند عنترة وأقرانه في عصر السيف والرمح والفروسية. وفي المشهد الأخير في حياة الشاعر الاستثنائي بشجاعته ما يضيف إلى سيرته الكثير من التفاصيل، التي استهوت كتاب السير الشعبية وصناع الحكايات المسلية، فقد انتهت حياته بعد أن بلغ من العمر عتيًا، فارسا ظل يقاتل في التسعين من عمره، إلى أن مات مقتولاً إثر رمية سهم، وكان الذي قتله يلقب بالأسد الرهيص من قبيلة طيء. وتقول الحكايات المعجبة بسيرته إنه عندما أصيب بالسهم المسموم وأحسّ أنه ميت لا محالة، ظل ممتطيًا صهوة جواده، مرتكزًا على رمحه السمهري، وأمر الجيش بأن يتراجع القهقرى وينجو من بأس الأعداء، وظل في وقفته تلك حاميًا ظهر الجيش من الاعداء المقبلين، فما إن نجا الجيش حتى أسلم عنترة الروح، باقيًا في مكانه، متكئاً على الرمح فوق جواده الأبجر، مترنما بإحدى قصائده التي خلدت طوال القرون.
www.facebook.com/awladuna
تابعونا على الفيس بوك
www.facebook.com/awladuna
إقرأ أيضًا:
إبراهيم طوقان.. شاعر له عينا زرقاء اليمامة
ديكِ الجن.. ديك الشعر الفصيح
مالك بن الرَّيـْب.. يرثي نفسه
للمزيد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق