إيليا أبو ماضي... شاعر الوجود الجميل
كن جميلا ترى الوجود جميلاً... قالها إيليا أبوماضي فلسفةً حياتيةً، وقصيدةً حديثةً، وإيمانا راسخا بالجمال، ورؤية تفاؤلية ميزت شخصية الشاعر الشعرية، وحددت منطلقاته الفكرية في كل ما كتب من شعر ونثر... وظل في كل قصيدة رمزا للتفاؤل والدعوة إلى الحياة والاستمتاع بجماليتها في الأرض والسماء وما بينهما.
ولد إيليا بن ظاهر أبوماضي - الذي يعد من كبار شعراء المهجر العرب في الولايات المتحدة الأمريكية - في قرية المحيدثة بلبنان عام 1888م على أرجح الأقوال ولم يكد ينتهي من دراسة المرحلة الابتدائية حتى ترك المدرسة تحت وطأة الفقر الذي اضطره للهجرة إلى مصر سنة 1900م وسكن مدينة الإسكندرية وعمل في تجارة التبغ، لكن ولعه بقراءة الأدب العربي كان قد تعاظم في نفسه، فحرص على حفظ معظم ما تقع عليه عيناه من عيون الشعر العربي القديم، وما لبث أن بدأ بكتابة أولى تجاربه الشعرية التي نشرها في بعض المجلات اللبنانية الصادرة في مصر مثل العلم والاكسبريس.
ولم يأت العام 1911 حتى أصدر ديوانه الشعري الأول بعنوان «تذكار الماضي»، لكنه لم ينتظر رأي قرائه العرب في ديوانه الذي جمع فيه قصائد وطنية تعرض بسببها لبعض المضايقات من قبل السلطات المصرية، حيث هاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية في العام نفسه، وهناك تعاون مع مجموعة مدينة نيويورك من بعض الأدباء اللبنانيين الذين سبقوه في الهجرة ومنهم ميخائيل نعيمة وجبران خليل جبران. وأسس الثلاثة «الرابطة القلمية»، التي أصبحت منذ تأسيسها رافدًا مهمًا من روافد الأدب العربي المعاصر، حيث تعدى تأثيرها الجغرافيا المهجرية بكل تنوعاتها إلى الوطن الأم بكل أقاليمه لمؤسسيها الذين لم يكتفوا بتأسيسها بل وضعوا من خلال تفعيلها إبداعيًا وإعلاميًا اللبنات الأولى في هيكل الأدب العربي المهجري، الذي لم ينفصل عن قضايا الأمة العربية التي كانت بعيدة من العين ولكنها قريبة جدا من القلب بالنسبة إليهم.
وإذا كانت نشأة الشاعر الأولى في أحضان طبيعة لبنانية ساحرة في قرية المحيدثة قد ضخت في روحه مياها جمالية ظلت تروي شعريته بسحرها الأخاذ دائما، فإن الفقر والهجرة المبكرة إلى مصر ثم الاغتراب في الولايات المتحدة الأمريكية كانت عوامل أساسية في تكوينه النفسي وفي تأطير فلسفته الحياتية المنحازة للإنسان، التي عبر عنها شعرا في كل ما أصدر من دواوين شعرية. وهي فلسفة اتخذت من الوجود الإنساني مادتها الرئيسة فكان أبو ماضي كثير التساؤل عن كنه هذا الوجود، وكان شعره أسئلة متنوعة ومحيرة ومؤلمة أحيانا لأنها بدت بلا أجوبة حاسمة ، فلم يجد بدّا من التسليم أمام جبروتها قائلاً بانهزامية: «لست أدري».
وقد تصاعدت وتيرة تلك الأسئلة الوجودية في سنواته الأخيرة، وظلت أجوبتها عصية، ليس على تأمله الروحي المديد فقط، بل أيضا على شعريته التي شكك فيها بعض النقاد العرب في جملة تشكيكهم بكل مدرسة المهجر الشعرية. لكنه على أي حال تشكيك ذهب في معظمه أدراج رياح التغيرات التي ألمت بالشعر العربي ككل منذ أواخر أربعينيات القرن الماضي، على يد رواد القصيدة الحديثة. فكان أن صارت مدرسة المهجر إحدى ثوابت الشعرية العربية المعاصرة، وصار شعراؤها رموزا لتلك الشعرية.
أسئلة أبي ماضي، وطبيعته التأملية، وانشغاله بفلسفة الوجود والشعر لم تشغله عن طموحه في الحياة العملية ولم تقعده عن طلب الرزق، وعلى الرغم من أن أبا ماضي بدأ حياته العملية في غربته البعيدة تاجرًا لكنه سرعان ما اكتشف أنه غير قادر على متابعة ذلك السبيل فتحول إلى الصحافة والكتابة الاحترافية، حيث عمل في البداية محررا في صحيفة «مرآة الغرب» ثم أصدر جريدة «السمير» بصفة أسبوعية عام 1919، قبل أن يحولها إلى يومية عام 1936م.
ويعتبر كثير من المتابعين للشأن المهجري في تلك الفترة أن «السمير» كانت أهم مطبوعة عربية في الولايات المتحدة، خاصة أن صاحبها حرص على أن تكون منبرًا حرًا للقصيدة العربية في كل تجلياتها، وللشعراء المهجريين في كل مشاربهم، وتوجهاتهم الفكرية والفنية أيضا، لكن هذا لم يمنع صاحبها من إبراز هويتها العروبية. وظلت «السمير» تؤدي رسالتها الفكرية والشعرية والسياسية إلى أن توقف قلب شاعرنا في مدينة نيويورك الأمريكية عام 1957، فتوقفت «السمير» عن الصدور، وبقي قصيد صاحبها خالدا في ديوان الشعر العربي عبر عدة دواوين أهمها:« تذكار الماضي»، و«الجداول»، و«الخمائل»، و«تبر وتراب»، و«الغابة المفقودة».
تابعونا على الفيس بوك
www.facebook.com/awladuna
إقرأ أيضًا:
إبراهيم طوقان.. شاعر له عينا زرقاء اليمامة
ديكِ الجن.. ديك الشعر الفصيح
مالك بن الرَّيـْب.. يرثي نفسه
للمزيد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق