الخميس، 25 أكتوبر 2012

• أحمد شوقي أمير الكلاسيكية الجديدة


        في آداب الأمم العظيمة، ذات التقاليد العريقة، يأتي على رأس كل فترة - قد تقصر وقد تطول - مبدع فذ من أبنائها، يجدد شباب الشعر، ويضخ فيه دماً جديداً يجعله ملائماً لعصره، ومشرئباً للمستقبل. حدث هذا في الأدب الانجليزي على يد شكسبير، وحدث في الأدب العربي على يد المتنبي وشوقي (ولا أعرف بينهما شاعرًا آخر). لقد ملأ المتنبي الدنيا، وشغل الناس، بديوان شعر متوسط الحجم، وبعمر قصير على ظهر هذه الدنيا، وفعل ذلك شوقي بإنتاج أدبي ضخم، وعمر أطول.

          ولد شوقي بباب إسماعيل، فلم يعرف شظف العيش، ولا الصعلكة، وكان له من موهبته الشعرية القوية، وثقافته العصرية المتنوعة، ما مكّنه من تحقيق «بانوراما» شعرية واسعة، احتل بها مكاناً مريحاً في تاريخ الشعر العربي.
          هو شاعر الأمير، وشاعر الناس، وهو صاحب رؤية شعرية «كلاسيكية جديدة» على نحو ما كانت عليه رؤية ملتن وبوب وجونسون في الشعر الإنجليزي، رؤية تجمع بين رعاية القديم والحماسة للجديد، دون الإحساس بأي نوع من التناقض في ذلك، وأرى أن قوله في رثاء الشيخ عبدالعزيز جاويش إنه «ولي القديم نصير الجديد» يصدق عليه هو نفسه.
          وعندي أن عباس العقاد لم يكن محقاً - حين خاطب شوقي متهكماً - في قوله في نص مشهور في كتاب «الديوان»: «فاعلم أيها الشاعر العظيم أن الشاعر من يشعر بجوهر الأشياء... الخ»، منتهيًا إلى وصف شعر شوقي بأنه «شعر القشور والطلاء»، فالعقاد يطبق على شعر شوقي رؤيته هو، وهي رؤية رومانسية ذاتية - إمامه فيها هو «هازليت» منظّر الرومانسية الانجليزية - في حين أن رؤية شوقي «كلاسيكية جديدة» - كما قدمت - والشعر لا تلزم فيه رؤية أخرى، ولا يحتج فيه برؤية شاعر على رؤية شاعر آخر. إنما العبرة تكون بمقدرة كل شاعر على وضع رؤيته موضع التطبيق فيما يبدع من شعر.
دروس الماضي
          مجد شوقي القديم في مطولته «كبار الحوادث في وادي النيل»، فوقف عند كل فصل من فصول الحضارة في هذا الوادي، معبرا في خلال ذلك عن رؤاه السياسية والاجتماعية، وناقدا - على طريقته - نظم الحكم الديكتاتورية:
إن ملكت النفوس فابغ رضاها
                              فلها سورة وفيها مضاء
يسكن الوحش للوثوب من الأسر
                              فكيف الخلائق العقلاء
          وأعاد التذكير بدروس الماضي من خلال أطر مسرحية وقصصية في أعماله - التي أعد منها ولا أعددها - «مصرع كليوباترا»، «علي بك الكبير»، «عنترة»، «مجنون ليلى»، محققا في كل ذلك مقولته التي لخصها في بيت شعري واحد هو:
وإذا فاتك التفات إلى الماضي
                              فقد غاب عنك وجه التأسي
          ولشوقي في ذلك مرجعيته التي تقوم على ركنين هما الحضارة المصرية القديمة والحضارة السلامية، وقد بلغ في تجليتها أقصى شأو متاح لشاعر مثله، أتى على منعطف من تاريخ الفن الشعري، يسبقه فيه تراث ضارب في التاريخ، ويصحبه استعداد لنهضة وطنية واجتماعية وأدبية عامة، وتساعده طاقة شعرية استثنائية، وثقافة عصرية واسعة متنوعة.
          إذا قرأت جانبًا واحدًا من شعر شوقي - وهو مدائحه النبوية - وقفت على تكوين هائل من الإبداع، لبه الإحساس الديني العميق، وسداه ولحمته التنوع التعبيري المحكوم بإطار من التقاليد المرعية في النماذج العليا للشعر العربي، رؤيته ثنائية، مكونة من عين يقظة مفتوحة على تراث الماضي، وأخرى - لا تقل يقظة - مفتوحة على الحاضر. هو مسكون بمجد الأقدمين، راغب في إعادة التعبيبر عن العبقرية الشعرية العربية، وهو مسكون - كذلك - بهموم الحاضر والمستقبل.
          في قصيدة «نهج البردة» لا يخلص شوقي إلى مدح الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم إلا بعد مقدمة غزلية «كلاسيكية» تستغرق أربعة وعشرين بيتاً، وأخرى تأملية فلسفية تستغرق خمسة عشر بيتاً، ويعني هذا أن المدح الخالص - غرض القصيدة - لا يبدأ إلا من البيت الأربعين:
أتيت والناس فوضى لا تمر بهم
                              إلا على صنم قد هام في صنم
والأرض مملوءة جوراً مسخرة
                              لكل طاغية في الخلق محتكم
مسيطر الفرس يبغي في رعيته
                              وقيصر الروم من كبر أصم عم
يعذبان عباد الله في شبّه
                              ويذبحان كما ضحيت بالغنم
          ومنها تمجيده العلم وحربه المعلنة على الجهل:
أخوك عيسى دعا ميتا فقام له
                              وأنت أحييت أجيالا من العدم
والجهل موت فإن أوتيت معجزة
                              فابعث من الجهل أو فابعث من الرجم
          ومنها الدعوة الجهيرة إلى سياسة القوة في مواجهة الظالمين (ولا ننسى أن العصر كان عصر استعمار الشعوب، وإذلالها، وطمس هويتها):
والشر إن تلقه بالخير ضقت به
                              وإن تلقه بالشر ينحسم
          وفي قصيدة «سلوا قلبي» لم ترد الإشارة الى الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم إلا في البيت السابع والأربعين، وقبله قام الشاعر بجولة واسعة حقق فيها استغراقاً شعرياً كلاسيكياً في موضوعات الغزل، والحكمة، والإرشاد الاجتماعي، مؤكدا على وجوب نشر التعليم، في جو من التيسير، والتسامح، والتفاؤل:
فعلمّ ما استطعت لعل جيلاً
                              سيأتي يحدث العجب العجابا
ولا ترهق شباب الحي يأسا
                              فإن اليأس يخترم الشبابا
هموم الحاضر
          وهو - على عادته - يمزج الجزء المدحي بهموم الحاضر، وفي مقدمتها الأماني الوطنية لشعبه، الذي يرزح تحت الاحتلال البريطاني، والملاحظ أن متلقي شعر شوقي فهم هذا الجانب ووعاه، وقد بلغ ذلك ذروته في الاستجابة التي تأخذ شكل الانفجار، وذلك حين تغني أم كلثوم من لحن رياض السنباطي بيته المشهور:
وما نيل المطالب بالتمني
                              ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
          أما قصيدة «ولد الهدى» فيستهل شوقي أبياتها بالمديح النبوي، ويختمها به، وهي لذلك «مدحة نبوية» محكمة الأطراف، ودرة شوقية مصبوبة صبا، واسطة عقدها - ولاشك - تلك الأبيات المتوالية، التي تبدأ جميعا بالمفردة «إذا»، وتصور مجموعة صفات نموذجية للرسول العظيم، مرجعيتها جميعا تقاليد للمدح في الشعر العربي، ولكنها صالحة لأن يوصف بها الرجال في كل زمان ومكان.
          ولا تقتصر قصائد شوقي الدينية على مدائحه النبوية، وإنما تتعدد نظراته في الحضارة الإسلامية، عناصرها، وقيمها، ورجالها، ونظرته إلى الأديان - عموما - نظرة واسعة، وهو يعبر عن ذلك في صيغ شعرية شتى، فهو أحياناً يعرض رؤيته لموضوع الأديان على نحو شامل:
الدين للديّان جل جلاله
                              لو شاء ربك وحد الأقواما
          وهو أحياناً يخص عنصري أمته، مسلمين وقبطًا، بصفتهما كياناً واحداً في أمة واحدة، لم ينفصما على طول الزمان:
إنما نحن مسلمين وقبطا
                              أمة وحدت على الأجيال
وإلى الله من مشى بصليب
                              وإلى الله من مشى بهلال
صورتان متكاملتان
          حين يضع قارئ شعر شوقي صورتي الماضي والحاضر فيه متجاورتين، يدرك بسهولة أنهما صورتان متكاملتان، وليستا متنافرتين أو متناقضتين، وهذا هو معنى أن شوقي شاعر «كلاسيكي جديد»، هو مولع بالماضي، مؤمن بأنه المثال والنموذج لعمل الحاضر، وهذا خيط واضح في شعره، يكاد يشكل صورة شبه مهيمنة: يقول «ربما علّم حيا من غبر»، ويقول: «إلا أن أمس أساس الوجود» ويقول:
مثل القوم نسوا تاريخهم
                              كلقيط عيّ في الناس انتسابا
          وينعى على من ينشط في هدم القديم لكنه لا يستطيع أن يسهم في بناء الحديث بنشاط مماثل:
من كل ماض في القديم وهدمه
                              وإذا تقدم للبناية قصّرا
وأتى الحضارة بالصناعة رثة
                              والعلم نزرا والبيان مثرثرا
          ويسخر سخرية مرة من انهيار الإنجاز الحضاري في الحاضر إذا قيس بالإنجاز القديم:
إن الذين بنى المسلة جدهم
                              لا يقدرون لإبرة تشكيلا
          ومع ذلك كله نجده ينكر التقليد الأعمى:
لا يمنعنكمو بر الأبوة أن
                              يكون صنعكمو غير الذي صنعوا
          ويعلن إيمانه الراسخ بإنجاز العصر:
وكل بنيان قوم لا يقوم على
                              دعائم العصر من ركنيه منصدع
          بل إن التطرف والمغامرة في «العصرية» دعوة جهيرة في شعره:
هذا زمان لا توسط عنده
                              يبغي للمغامر عاليا وجليلا
كن سابقا فيه أو ابق بمعزل
                              ليس التوسط للنبوغ بديلا
          والملاحظ أن نهجه في الحملة على التخلف الحضاري، وعدم اللحاق بالعصر، يأخذ أحيانا شكل الوخز بالإبر، وأحيانا شكل التصريح العنيف، فهو أحيانا يراوح، إذ يرى التخلف، ما بين الأسى والحسرة:
شعوبك في شرق البلاد وغربها
                              كأصحاب كهف في عميق سبات
          وأحياناً يشن حملة شعواء علينا، إذ تخلفنا وتقدم العالم:
إن ركب الحضارة اخترق الأرض
                              وشق السماء ريحا ومزنا
وصحبناه كالغبار فلا رجلا
                              شددنا ولا ركابا زممنا
كم نباهي بلحد ميت وكم
                              نحمل من هادم ولم يبن منا
قد أنى أن نقول نحن ولا
                              نسمع أبناءنا يقولون كنا الأخلاق والعلم
          والقاعدة الأولى لدى شوقي في بناء الدولة الحديثة قاعدة «الأخلاق»، وهي تحتل لديه أولوية مطلقة تسبق كل قاعدة غيرها، وهذا واضح في كل شعره، لدرجة أن مصطفى الرافعي عاب عليه أن ثمة بيتا من الشعر يدور في إنتاجه «دوران الحمار الساقية» وهو ذلك البيت الذي يتحدث عن الأخلاق. وأحب أن أعلّق هنا على ذلك بقولي ان أولويات الإنسان بالطبع - والشاعر كذلك - تحتل دائما مقدمة ذهنه، وتدفع بما عداها إلى مؤخرة الذهن، فتبدو طافية على سطح الأفكار والأقوال التي تحتل هذا الذهن، وتسبق غيرها إلى الخروج في صيغ تعبيرية شتى، وفي المسألة الشرقية تمثل المقاطع التالية التي أسوقها متتابعة التعبير عن القاعدة الأخلاقية بصفتها ركيزة في البناء الحضاري:
كذا الناس بالأخلاق يبقى صلاحهم
                              ويذهب عنهم أمرهم حين تذهب
....
وما السلاح لقوم كل عدتهم
                              حتى يكونوا من الأخلاق في أهب
....
يا من له الأخلاق ما تهوى العلا
                              منها وما يتعشق الكبراء
....
وإذا أصيب القوم في أخلاقهم
                              فأقم عليهم مأتما وعويلا
أما القاعدة الأخرى في بناء الحاضر فهي قاعدة العلم. والعلم - عند شوقي - هو المعرفة، ووسيلته التعليم، وهو نقيض الجهل، ومرادف الوعي، وهو فرض لازم على الانسان، يستوي في ذلك الرجل والمرأة. والعلم بحر لا ساحل له، أما الجهل فهوة واحدة، عميقة سحيقة، تهوي بالأمم إلى ظلمات التخلف، والتخلف موت، بل هو شر من الموت:
لو يرى الله بمصباح لما
                              كان إلا العلم جل الله شانا
....
والعلم بدري أحل
                              لأهله ما يصنعون
....
فآمنت بالله الذي عز شأنه
                              وآمنت بالعلم الذي عز طالبه
....
واطلبوا العلم لذات العلم لا
                              لشهادات وأغراض أخر
          أما الجهل فله فيه هذا القول الجامع:
الجهل لا تحيا عليه شريعة
                              كيف الحياة على يدي عزريلا
          وقاعدة العلم عند شوقي قاعدة مركبة، تشتبك بغيرها من العناصر الفعالة في المجتمع، فهي أحيانا تشتبك بالترقي الاجتماعي في عمومه، وتؤثر على عناصر هذا المجتمع برمته:
وإذا النساء نشأن في أميّة
                              رضع الرجال جهالة وخمولا
          وهي أحيانا تشتبك بصلاح الحكم أو فساده:
ناشدتكم تلك الدماء زكية
                              لا تبعثوا للبرلمان جهولا
          والملاحظ أنها حين توضع بديلا للأخلاق تغلبها قاعدة الأخلاق، مما يعني أن قاعدة الأخلاق لها أولوية أولى في نظر شوقي:
وجدت العلم لا يبني نفوسا
                              ولا يغني عن الأخلاق شيا
          فالعلم - على الحقيقة - إن هو إلا ثمرة من ثمرات الأخلاق، والأخلاق تنتج العلم، والعلم ينتج المال، والعلم والمال - القائمان على قاعدة خلقية بالطبع - شرطان ضروريان في بناء الأمم الحديثة:
بالعلم والمال يبني الناس ملكهمو
                              لم يبن ملك على جهل وإقلال
          في قصيدته التي اشتهرت بقصيدة «قم للمعلم» يقدم صورة متعددة الأبعاد لواقع المجتمع المعرفية في نسق شعري، تجري عروقه في الأرض العربية جريان المياه في التربة العطشى، وهي قصيدة «كلاسيكية جديدة» تتسم بالوسطية من نواحيها المختلفة، فهي تضع شرابا جديدا (المعرفة العصرية) في كأس قديمة (الموزون المقفى) وهي متوسطة في حجمها (لا يشتكي قصر منها ولا طول في ثمانية وستين بيتا)، وهي وسطية في هندسة بنائها، مكونة من مقدمة، ووسط، وخاتمة.
          حين نسمع مطلعها (قم) نتذكر وقفات كثيرة استهلت بها القصائد الكلاسيكية قفا نبك - مثلا - وحين نتقدم في قراءتها تطالعنا تلك المرجعية الدينية المتمثلة في تلك السياحة الحرة بين الأديان، كما تطالعنا تلك المرجعية المعرفية المتمثلة في السياحة الحرة بين أمهات الحضارات المبنية على العلم والمعرفة، وأما صلبها فيطفح بالمرارة الناشئة من رؤية صاحبها للتخلف المعرفي الذي يرزح تحته بنو وطنه، وبالغضب العارم على الاستعمار المسئول الأول عنده عن هذا التخلف، وهذا حديثه - في القصيدة - عن التعليم:
كانت لنا قدم إليه خفيفة
                              ورمت بدنلوب فكان الفيلا
حتى رأينا مصر تخطو إصبعا
                              في العلم إن مشت الممالك ميلا
تلك الكفور وحشوها أميّة
                              من عهد خوفو لم تر القنديلا
          وأما المعلمون فهم معذورون، وذلك لأنهم يقومون بمهمة شاقة، يحبطها المستعمر من ناحية، ويحبطها جهل الأمهات من ناحية أخرى، ذلك الجهل الذي ينقض بالليل ما يغزله المعلم بالنهار، وهكذا يخاطب شوقي المعلمين:
إني لأعذركم وأحسب عبئكم
                              من بين أعباء الرجال ثقيلا
وجد المساعد غيركم وحرمتمو
                              في مصر عون الأمهات جليلا
          وهكذا يتيتم الأطفال بالجهل والأمية في حياة الآباء والأمهات:
ليس اليتيم من انتهى أبواه من
                              هم الحياة وخلفاه ذليلا
إن اليتيم هو الذي تلقى له
                              أما تخلت أو أبا مشغولا
الوعي المعرفي
          إن الوعي المعرفي في رؤية شوقي من شأنه أن يؤدي الى الوعي السياسي وارتفاعه شرط لتحقيق التمثيل الديمقراطي في الحكم والتشريع، وغياب ذلك يبقي الإصلاح الدستوري وهما من الأوهام، وجدير بالذكر أن ما كان شوقي يشتكي منه في قصيدته - التي مر على إنشائها الآن قرن أو أكثر من الزمان - مايزال محل الشكوى من الجميع، فمايزال الجاهل في المجالس النيابية يشرّع للمتعلم، ومايزال الأمي يقرر في أمر سن القوانين:
إن أنت أطلعت الممثل ناقصا
                              لم تلق عند كماله التمثيلا
فادعوا لها أهل الأمانة واجعلوا
                              لأولي البصائر منهمو التفضيلا
إن المقصر قد يحول ولن ترى
                              لجهالة الطبع الغبي محيلا
          و«العلم» و«العمل» يتبادلان المواقع في رؤية شوقي الشعرية، ويتداخلان على نحو مطرد، فقصيدته «قم للمعلم» توازي قصيدته «أيها العمال» إذ تستهل هذه كذلك بصيغة إنشائية تضع المتلقي في جو قريب مما تضعه فيه القصيدة الأخرى، وهي ترسي قاعدة «الجزاء الوفاق» على أساس أشمل هو إتقان العمل، مما ينتج عنه شيوع جو من الإحساس الديني (وإتقان العمل عبادة) ولما كان التقدم الحضاري مرهونا بإتقان العمل، أمكن أن تكون الصياغة النهائية للقضية على نحو يجعل من العمل على التقدم الحضاري شرطًا دينيًا.
          وهكذا يعطي شوقي - سليل الارستقراطية -، وشاعر الأمير، قسطًا عظيمًا من اهتمامه الشعري لطبقات الشعب المغمورة، للمعلمين، والعمال، وغيرهم من الكتل المهمشة، في إشارات لا تخطئ على أن هذه الكتل هي صانعة الحضارة على الحقيقة، وبيدها مفتاح التقدم.
المرأة في شعر شوقي
          وموضوع المرأة - كما هو معروف - كان ومايزال الشغل الشاغل للأفراد والمجتمعات على مر التاريخ. وقد أدلى فيه شوقي بآرائه التي أخذت مستويات متعددة، وعبر عنه مرة على نحو خاطف - على نحو ما بدا سلفا من استنكاره لأمية المرأة، ومفهوم اليتيم - ومرات على نحو مفصل، خصص له فيه قصائد كاملة، بعضها متجه الى الرجال، وبعضها الى النساء، وهي جميعها دليل على أن عينيّ الشاعر الكلاسيكي المجدد تبقى مفتوحتين على تراث الماضي وهموم الحاضر في آن، هكذا رأينا من قبل الآثار المدمرة للمرأة الجاهلة: «رضع الرجال جهالة وخمولا»، وهكذا رأينا أن اليتم الحقيقي لديه ليس في موت الأب أو الأم، بل في تخليهما عن رعاية الأبناء.
          لم يتردد شوقي في قصيدته «عبث المشيب» في شن هجوم كاسح على زواج الرجال الشيب بالفتيات الصغار «الكواعب الأبكار» واصفا ذلك بأنه «بيع وشراء» وبأنه أقرب إلى الزنى والرق منه إلى الزواج الشرعي، بل انه أسوأ منهما:
ما زوّجت تلك الفتاة وإنما
                              بيع الصابا والحسن بالدينار
بعض الزواج مذمم ما بالزنى
                              والرق إن قيسا به من عار
          وفي قصيدته «بين السفور والحجاب» يكشف عن موقفه من قضية تحرير المرأة بجلاء:
شهد الحياة مشوبة بالرق مثل الحنظل
                              والقيد لو كان الجمان منضدا لم يجمل
          وفي قصيدته «مصر تجدد نفسها بنسائها المتجددات» يفيض في دور المرأة في المجتمع وفي موقفها العصري:
مصر تجدد نفسها
                              بنسائها المتجددات
النافرات من الجمود
                              كأنه شبح الممات
هل بينهن جوامدا
                              فرق وبين الموميات؟
          ومن الواضح أنه يؤمن بالمساواة بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات، وذلك لأنه يؤمن بالحرية التي هي أصل كائن في جوهر الخليقة:
حرية خلق الإناث لها
                              كما خلق الذكور
          وهي الحرية ذاتها التي تغنى بها شوقي في كل شعره، وبلغ ذلك ذروته في قوله:
وللحرية الحمراء باب
                              بكل يد مضرجة يدق
          وقد يقال انه لم يبلغ في التعبير عن حرية المرأة الشأو الذي بلغه قاسم أمين مثلا في كتابه «تحرير المرأة»، ولكن مقارنة بين موقف شوقي في قصيدته «قل للرجال»، وآراء قاسم أمين في كتابه هذا، تكشف عن تفاعل عميق بينهما وعن قرب شديد في المشرب والتوجه، ثم عن سلاسة شديدة، وسماحة مفرطة في التعبير عن نقاط الخلاف من قبل شوقي.
          تبدأ القصيدة بالنص على أهمية دور المرأة في المجتمع، وبأن الرجال أخّروا حريتها، واضعا إياهم في حالة يستحقون عليها اللوم الشديد:
وسما لمنزله من الدنيا
                              ومنزله خطير
ومتى تساس به الرياض
                              كما تساس به الوكور
أو كل ما عند الرجال له
                              الخواطب والمهور
والسجن في الأكواخ أو
                              سجن يقال له القصور؟
          وحين تتقدم في معالجة الموضوع، ينحاز الشاعر كلية لحرية المرأة (انطلاق الطير)، معبرا عن موقف شعري مؤازر للموقف الذي نراه معروضا في نظرية قاسم أمين، وإن اتخذ - بالطبع - عند قاسم أمين صيغة البرهنة، والتأصيل، والتقنين، مما لا يحتمله الشعر:
إن السماء جديرة
                              بالطير وهو بها جدير
هي سرجه المشدود
                              وهو على أعنتها أمير
حرية خلق الإناث لها
                              كما خلق الذكور
          على أن القضية - كما تنسب إلى قاسم أمين - تحظى بأجلّ تقدير من شوقي، كما تحظى باعترافه بعظم تأثيرها، وانتشارها في النفوس، وتحقيقها لأكبر أهدافها، ونشأة جيل من النساء يتولى أمر هذه الدعوة، مما يعني أن عجلة التطور بالاتجاه نحو تحرير المرأة قد دارت في صالحها:
يا قاسم انظر كيف سار
                              الفكر وانتقل الشعور
جابت قضيتك البلاد
                              كأنها مثل يسير
نهض الحفي بشأنها
                              وسعى لخدمتها الظهير
          وفي ختام القصيدة يأتي خلاف المثقفين - إن صح التعبير - إلى طبيعته ومداه، وهو ليس خلافا في الأهداف - فيما يبدو لي مما أشرت إليه - وإنما هو خلاف الساعين إلى هدف واحد بأسلوبين متفاوتين وبرؤيتين تمليهما طبيعة تقاليد التناول في كل أسلوب، وهو خلاف في الدرجة لا في النوع، أو هو - عند التدقيق - لا خلاف. أحيانا أسأل نفسي، وقد قرأت «تحرير المرأة» بتمعن، كما قرأت شوقي بتمعن، أين الخلاف الذي يتحدث عنه شوقي؟ وهو القائل في وصف آراء قاسم:
ما في كتابك طفرة
                              تنعى عليك ولا غرور
هذبته حتى استقامت
                              من خلائقك السطور
لك في مسائله الكلام
                              العف والجدل الوقور
ولك البيان الجزل في
                              أثنائه العلم الغزير
          وكيف يقول بعد ذلك:
لقد اختلفنا وللمعاشر
                              قد يخالفه العشير
ومحا الرواح إلى مغاني
                              الود ما اقترف البكور
في الرأي تضطغن العقول
                              وليس تضطغن الصدور
إضافات شوقي للشعرية العربية
          سئل جورج برنارد شو مرة: أأنت أطول قامة أم شكسبير؟ فقال مجيبا: أنا أطول منه قامة، ولكنني أقف عند كتفيه!
          ويخيل إلي أن إجابة شوقي كانت ستكون الإجابة ذاتها لو أنه سئل عن حاله وحال المتنبي، فلا أعلم في العربية شاعرين يمكن أن يتنافسا في طول القامة غيرهما. وعندي أن المتنبي يشكل البنية التحتية «الكلاسيكية» العميقة لأحمد شوقي، وان أحمد شوقي أعاد التعبير عن هذه «الكلاسيكية»، مضيفا اليها من مستحدثات العصر ما لم يكن ليخطر - بالطبع - ببال المتنبي، وأود أن أنهي ما عندي بتلخيص ما أراه من هذه الإضافات:
·       أولاً: انه فتح للشعر العربي باب المسرح الشعري، وذلك بعد أن كان في جملته غنائيا. وسواء أقال النقاد انه لم ينضج هذا النوع المسرحي - وبقي شعره المسرحي غنائيا - أم أنضجه، فإن الحقيقة تبقى، وهي أن عشرات من المسرحيات الشعرية التي كتبت بعد شوقي مرت من خلال «تلك البوابة الذهبية».
·       ثانيًا: انه دفع بشعر الحكمة على لسان الحيوان والطير دفعة قوية، أثرت في الذوق العربي، وتربت على تذوقها أجيال بعد أجيال (وهل وجد إنسان منا لم يذق حلاوة شيء منها خلال دراسته؟)، لقد وصل هذا الشعر العذب الحكيم من عالم المتعلمين إلى عالم الأميين، وذلك عن طريق العدوى في الريف والمدن بين المتعلمين والأميين ولا يقلل من شأن ذلك مطلقا الادعاء بأنه استلهمه من لافونتين.
·       ثالثًا: انه خص الأطفال بديوان شعر خفيف لطيف، جمع بين الرسالة التربوية والفن الرفيع، فيه البساطة والجاذبية والحيوية، وفيه كل ما تحتاجه حياة الشبيبة. ومن أسف ان ما سنه شوقي في هذا الصدد لم يلق متابعة تذكر من المبدعين.
·       رابعًا: انه أتحف المكتبة العربية بسفر ضخم من النثر والنظم في التاريخ والحكمة، كشف عن ثقافة واسعة، وسبر عميق للحياة.
·       خامسًا: أنه أبدع في لغة مصرية سلسة مجموعة من الأغاني التي زادتها الألحان والأصوات العذبة جمالا على جمال، فاستمتع بها الناس في كل أرجاء الوطن العربي، وحققت هدفا لغويا في التقريب بين العامية والفصيحة، أثرت كثيرًا فيما يعرف في مستويات اللغة بعامية المثقفين.
          وفي عبارة ختامية أقول: إن شوقي أعاد التعبير عن تقاليد التراث الشعري لأمته بأنصع عبارة، كما عبّر عن هموم حاضرها، وأشواق مستقبلها، بأجمل بيان. وكان هو نفسه على وعي بأنه شاعر الناس، وشاعر العصر، وذلك حين قال:
كان شعري الغناء في فرح الشرق
                              وكان العزاء في أحزانه
          وقد كافأته الحياة الأدبية بأن نصبته في حياته أميرا على الشعراء.



تابعونا على الفيس بوك

www.facebook.com/awladuna

إقرأ أيضًا:
إبراهيم طوقان.. شاعر له عينا زرقاء اليمامة
ديكِ الجن.. ديك الشعر الفصيح
مالك بن الرَّيـْب.. يرثي نفسه

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق