السبت، 27 أكتوبر 2012

• نزار قباني وتأثيرات الطفولة


يقول نزار قباني: “الطفولة هي المفتاح إلى شخصيتي، وإلى أدبي، وكل محاولة لفهمي خارج  دائرة الطفولة، هي محاولة فاشلة”.
          هذه العبارة ليست غريبة عن منهج التحليل النفسي للأدب، إذ غاية المحلّلين أن يبحثوا عن الدوافع السيكولوجية للإبداع، وهي كامنة في اللاشعور، تتفاعل منذ الولادة، ورأى بعض المحللين أن الرجل عامة وليس الفنان وحده، حصيلة طفولته.

          فكل ما يتعلق بميوله ونزعاته يتشكّل في مرحلة الطفولة. ومَن أراد البحث عن بصمات الشاعر المميزة، عليه الاهتمام بطفولة هذا الشاعر، فإنها الكنز الملكي للحياة الباطنية.
          من هنا كانت العودة إلى طفولة نزار لابد منها. وكل طفولة هي على نوعين: طفولة واعية، وطفولة لاواعية. فطفولة نزار الواعية هي نتاج الذكريات التي جمع شتاتها ونسقها في كتابه “قصتي مع الشعر”، فأصبحت بمتناول كل قارئ يهتم بسيرته، أما طفولته اللاواعية، فهي أكثر ما يهمنا من هذا البحث عن أثر الطفولة في حياته.
نزار والمرأة / الأم
          يطالعنا في شعر نزار ارتياحه للحبيبات اللواتي يعاملنه معاملة الأم لطفلها، كأن يخاطبنه مثلا بلفظة: “يا صغيري” و”يا طفلي”، ويمددنه على زنودهن، رفيقات به مشفقات عليه، يحاولن تخفيف كآبته وتهدئة أعصابه، فيمسحن جبهته المتعبة بأناملهن الرقيقة، ويفككن له شعره المتشابك على حد تعبيره: “نم على زندي الرخيم وأشفق / يا رفيق الصبا على أعصابك / ارفع الرأس والتفت لي قليلا /  يا صغيري.. أكأبْتني باكتآبك /  مسحت جبهتي بأنملها الخمس / وفكتْ لي شعري المتشابك”. وفي قصيدة “خمس رسائل إلى أمي” يخبر الشاعر أمه أن النساء اللواتي عرفهن في غربته لم يشبعن طموحه لأنهن لا يعرفن كيف يمشطن شعره الأشقر إذا تطاير في الهواء، وكيف يأخذن بيده إذا تعثر في الطريق... لقد طاف بلاد الهند والسند، وخبر نساء أوربا والعالم الأصفر، لكنه مازال يشعر بالوحدة والاغتراب  أمام عواطف الاسمنت والخشب. فأين المرأة التي تكسوه إذا تمزّقت ثيابه؟ وأين التي تحمل “عروسه السكر” لتطعمه إذا جاع وتؤنسه إذا استوحش؟:  “وطفت الهند طفت السند طفت العالم الأصفر / ولم أعثر / على امرأة تمثل شعري الأشقر / وتحمل في حقيبتها إلي عرائس السكّر”.
          هذه القصيدة يرسلها نزار من “مدريد” في أثناء عمله بوزارة الخارجية وقد بلغ الأربعين، أي  أنه بلغ ما يسمّيه المحللون النفسيون أزمة منتصف العمر. وفي هذه المرحلة يبدأ الإنسان بالتلفت إلى الوراء يود التقاط الزمن الهارب. ويفترض أن يكون شاعرنا قد ألف الحياة بعيدًا عن بيت أمه وأبيه في الشام. وهو الذي فارقهما منذ حوالى عشرين عامًا، حتى مات خلالها أبوه، والشاعر يعمل بالسلك الدبلوماسي بلندن. فسيرة الشاعر تخبرنا أنه بعد نيله شهادة الحقوق مباشرة عيّن ملحقًا في سفارة سورية بالقاهرة. ولم يكن قد تجاوز الثانية والعشرين من عمره. ومن القاهرة انطلق إلى تركيا ولندن وفرنسا وألمانيا وبلجيكا والسويد والدانمارك والصين وإسبانيا، إلى أن استقرّ في ما بعد ببيروت. فمن المفروض بعد هذا التنقل الطويل أن يكون نزار قد اعتاد فراق أمه خاصة أنه تزوج في مطلع الشباب. وأنجب ولدين.
          غير أنّ قصيدته تكشف عن حنين طفل إلى أمه، يصارحها بهزائمه العاطفية وخيبته مع النساء. وأكبر الظن أن فشل زواجه الأول، وعزوبته الطويلة قبل زواجه الثاني، وتنقله وحيدًا من بلد إلى آخر، ترتبط كلها بحكم وظيفته. كل ذلك أيقظ الطفل الكامن في أعماقه، فشعر بحاجته إلى الأم القادرة على حمايته من أذى الأخطار: “فكيف فكيف يا أمّي / غدوت أبا ولم أكبر”.
          ومَن يدري؟ لعله في فترات إحساسه بالهزيمة كانت تعاوده حكاية أخته الكبرى “وصال” التي انتحرت، لأنها لم تستطع أن تتزوج حبيبها”. وصورة هذه الأخت، وهي تموت من أجل الحب، محفورة في لحم شاعرنا يذكرها أبدًا بوجهها الملائكي وقسماتها النورانية وابتسامتها الجميلة. هذه الأخت التي قتلها الإخلاص في الحب، ربما كانت الوجه الآخر لمثله الأعلى الذي تجسّد في المرأة الأم. ألم يقل المحللون إن الأخت هي بديل الأم بالنسبة إلى الصبي، كما أن الأخ هو بديل الأب بالنسبة إلى الفتاة؟ ومعنى ذلك أن “وصال” أخته، و”فائزة” أمه يشكلان النموذج الأنثوي الذي يحن إليه الشاعر في غربته عندما يطفو لاشعوره على سطح وعيه ويتوق إلى عاطفة صادقة تبذل كل شيء في سبيل مَن تحب. لقد كانت الأم والأخت في تفانيهما وبذلهما، يكسفان بنورهما الوهّاج أي امرأة عرفها نزار في حياته. ولذا كانت رسائله إلى أمه تذوب حنينًا إليها.
          وربما كان غياب الأم سببًا في بعث ذكريات الطفولة التي أملت عليه هذه الأبيات. نزار يشترط في المرأة التي يحبّها أن تستوفي شروط الأمومة ألا وهي “الرعاية والحماية والاهتمام”. إنه العصفور الذي يبحث عن بيدر يحط فوقه وينقر حبّه بأمان: “وأنا محتاج منذ عصور / لامرأة تجعلني أحزن / لامرأة أبكي فوق ذراعيها مثل العصفور”. فصورة العصفور الطائر التي يراها المحلل “ميشال ماتيو Michel Mathieu”، رمزية الطفل الأوديبي في حنين عودته إلى الأم أو الأم البديل. وبما أن نزاراً في هذه القصيدة صورة الطفل الباكي على ذراعي المرأة، لابد من اعترافه بدلالتها الكامنة في نفس الفنان عامة ونفسه خاصة. فكأن تقدم الشاعر بالسن يُنعش غريزته الطفولية بدل أن يضعفها أو يخفف من حدّتها. والدليل هذا المقطع الذي جمع كل مستلزمات المرأة / الأم إزاء طفلها الصغير. فهي تشاركه في لعبه، وتدخله روضة الأطفال وهي تُرضعه لبن العصفور: “أشهد أن لا امرأة أتقنت اللعبة إلا أنت / وأدخلتني روضة الأطفال إلا أنت / أشهد أن لا امرأة تعاملت معي كطفل عمره شهران إلا أنت / وقدمت لي لبن العصفور والأزهار والألعاب إلا أنت”.
بلقيس.. الأم البديل
          هذه الأبيات كتبها نزار عام 1979 وهو في الخامسة والخمسين من عمره. وهي ظاهرة مألوفة في نظر المحللين، لأن الإنسان كلّما تقدّمت به السن شعر بالضعف والوهن، وأحسّ بضرورة الاعتماد على سواه. وهذه حال الطفل الذي لا حول ولا قوة له. ولكنه مع ذلك لجوج ملحاح، يعرف مقداره عند أم تلبّي حاجاته وتذعن لرغباته. فهو الذكر الأول والأخير بالنسبة إليها. ويبدو أن شاعرنا يزداد في أواخر أعماله نكوصًا Regression نحو الطفولة، خاصة بعد أن فقد ابنه “توفيق” وأصابته نوبة قلبية كادت تودي بحياته. والذين يبحثون عن أثر الأوديبية Oedipe  في أعمال نزار، ربما يجدونها خلال تلك الفترة من مرض الشاعر، إذ هو يطلب من حبيبته أن تؤويه إلى صدرها، لأنه يشعر بالخوف من المجهول. ويسألها أن تضمّه بذراعيها، لأنه يخشى ظلام الغرفة. ولذا نراه يتشبّث بها كي تظل معه وتغطيه من البرد. ذلك أن وجودها قربه يطرد الخوف عنه ويبث الدفء في أوصاله. تلك هي الأم الحامية التي حدّثنا عنها “مارسل بروست Marcel Proust”، وظل طوال حياته يذكر قبلتها المسائية ووقفتها عند سريره قبل أن ينام. كان مجرد حضورها يدفع عنه الهواجس ويحيل الكون إلى سكينة وسعادة.
          فأين هي المرأة التي تخفف عن نزار قلقه وتضيء بوجهها الظلمة فيطمئن؟ بل أين التي تحكي له قصصًا وخرافات وتضطجع قربه وتغني له حتى ينام؟. “احكي لي قصصًا للأطفال / اضطجعي قربي غنّيني”. والحق أن نزار يقول في شعر له عام 1979 مخاطبًا حبيبته: “أشهد أن لا امرأة قد جعلت طفولتي / تمتد للخمسين إلا أنت / أشهد أن لا امرأة غيرك يا حبيبتي / على ذراعيها تربّى أول الذكور / وآخر الذكور”. ونحن نعلم أن شاعرنا تزوج في سنة 1969، وأن الحياة الزوجية ربما ساعدته على استرجاع طفولته بما لقيه من “رعاية وعناية وحماية”، فكانت بديلاً للشاعر عن حضور أمه. ولعله من أجل ذلك كثرت أجواء الطفولة في شعره.
          وهذا يتفق مع رأي المحللين في أن المرض يجعل من الرجل طفلاً غنجًا مطواعًا بين أيدي الممرضات العطوفات اللواتي يمثلن دور الأم. وليس أروع من هذا المشهد الطافح بعواطف الأمومة حين صوّر زوجته تنقله إلى المستشفى إثر إصابته بالذبحة القلبية عام 1973: “زوجتي بلقيس تقود السيّارة بيدها اليسرى إلى المستشفى، وبيدها اليمنى تمسح العرق البارد المتدفق من جبيني، كأني طفل سقط في بركة ماء”. لذلك كان موت الأم عند الفنان عميق الأثر يخلف في نفسه جرحًا طفوليًا لا يندمل، كأن يفقد الأمان والطمأنينة ويتملكه الخوف من أشياء مبهمة. وقد يكون هذا المبهم من الأمور وراء خوف الأطفال من أن يناموا وحدهم في الظلام. يقول نزار في موت أمه عام 1967 “بموت أمي يسقط آخر قميص صوف أغطي به جسدي. آخر قميص حنان. آخر مظلة مطر. وفي الشتاء القادم ستجدونني أتجوّل في الشوارع عاريًا”. فهل نستغرب بعدئذ صرخته في رثائها: “فيا أمي، يا حبيبتي يا فائزة. قولي للملائكة الذين كلّفتهم بحراستي خمسين عامًا أن لا يتركوني، لأنني أخاف أن أنام وحدي”.
          هذا الخوف الذي تألم به عندما فقد أمه “فائزة”، عاوده عندما فقد زوجته بلقيس تحت أنقاض السفارة العراقية في بيروت. فبلقيس لم تكن له زوجة وحسب، بل كانت أمًا حانية تقيه أعاصير الحياة. فلمّا رحلت عنه، ظل “مرتجفًا مثل أوراق الشجر”. لا يختلف في ذلك عن طفليه الصغيرين: “وتركتنا - نحن الثلاثة - ضائعين كريشة تحت المطر / أتراك ما فكرت بي؟ / وأنا الذي يحتاج حبّك مثل (زينب) أو (عمر)”. فخسارة بلقيس عظيمة إذًا، لا لأنها الزوجة أو الحبيبة أو الملهمة، بل لأنها قبل كلّ شيء بديل أمه في وقت أحوج ما يكون إليها. وهل نسينا أن الشاعر مريض منذ عام 1973، وأن بلقيس تُعنَى به كالممرضة المتفانية، لا تبغي جزاء ولا شكورًا؟ حسبُها أنها زوجة الشاعر الكبير الذي تطمح إليه المعجبات، وأنها أم أولاده وسيدة بيته، تشرف على صحته وهندامه ووجبات طعامه. فهي التي تُرتب أساس المنزل وتستقبل الضيوف وتربي الأطفال، ولذا فموتها حرمه موعد الشاي العراقي معها، فلم يعد هناك مَن يوزع الأقداح أو يقبّل الأولاد عند رجوعهم. لذلك عاد نزار إثر هذه المحنة إلى شعوره القديم، وارتدّ طفلاً يحتاج إلى رعاية. وقد لمحنا ذلك من خلال حديث أدلى به بعيد موت زوجته حين قال: “أهم ما في نظرة بلقيس إلي خلال اثنتي عشرة سنة، اعتبارها إياي الطفل الثالث في البيت. كانت دائمًا تقول لي أنتم أطفالي الثلاثة: زينب وعمر ونزار. ولذلك كانت تتصرّف معي عندما كنت أمرض أو أغضب أو أثور بالطريقة نفسها التي تتصرّف بها مع طفليها”.
مشاعر مكبوتة
          وليس معنى ذلك أن هاجس الطفولة عند نزار منشؤه وضع مرضي، بل على العكس، ربما كان منشؤه الوضع الصحي الذي نعم به، على حد قوله إن الأقدار حَبَتْه نعمة الولادة على سرير أخضر وفي بيت يشبه قارورة العطر، وفي أسرة تمتهن الحب والعشق. ولعل ذكريات طفولته الهانئة شجعته في ما بعد على استبطان الماضي واستعادته، حتى أصبحت العودة إلى هذه الطفولة، ملاذًا يقيه مرارة الحياة. ولأن أمه كانت تفضّله على جميع أطفالها وتخصّه بكل ما يرغب من ألعاب وطعام ونزوات، لا غرابة في أن ينشأ الصبي متمتعًا بقدرة فائقة على الحركة تتجلّى في ميله إلى تحطيم الأشياء وتكسيرها، الأمر الذي أتعب أهله وأثار غضبهم لولا تدخّل عمته قائلة: “دعوه يحطّم، دعوه يحطّم، فمن رماد الأشياء المحطمة تخرج النباتات الغريبة”. هذه الشهوة إلى التكسير ربما أرجعها المحللون إلى الطور الشرجي Stade Anal الذي يدفع الصبي إلى محاولات الكشف عن جوهر الأشياء، بغية السيطرة عليها. ونزار كان في تلك الفترة يبحث عن دور مناسب في عمل يلفت إليه الأنظار. ولذا مال أولاً إلى فن الرسم، ثم إلى فنّ العزف، وانتهى أخيرًا إلى فنّ الشعر.
          نستطيع أن نقول إن نزارًا خضع منذ طفولته لتجاذب بين المرحلة  الفميّة Stade Oral الباكرة حيث الرضا والاكتفاء بعام الأمومة، والمرحلة الشرجيّة حيث التصلّب والعدوان قصد السيطرة على الموضوع. معنى ذلك أنه عاش في مرحلة أوديبية لأنه عانى أحيانًا الفشل المتواصل مع المرأة، والدليل أن الأم هي الحاجز الفاصل بين الشاعر وحبيباته، لأنها سيطرت لاشعوريًا عليه، فغدا أسيرًا لها زاهدًا في الأخريات.
          لاحظ العالم الأمريكي “بيزدين Besdine” أن “فرويد Freud قصّر في منهجه التحليلي، حين سلّط الضوء على الطفل وحده، وأهمل دور الأم في التعلّق بولدها. فعقدة أوديب بنظره لا تكفي وحدها لتعليل سلوك الطفل، لأن للأم دورًا إيجابيًا بارزًا عن طريق تأثيرها في سلوك الولد. ولذا جعل “بيزدين” عقدة أوديب لدى الطفل بإزاء عقدة “جوكاست Jocaste” لدى الأم، لأن الطرفين يسهمان في نسج الانفعالات الباطنية. ففي رأيه أن الأم التي تُعنى برضيعها عناية فائقة، تسهم إلى حد كبير في تنبيه حواسه وحركاته ومدركاته، شرط أن تتم هذه العناية في جو دافئ وسعيد. واستنتج “بيزدين” أن الأمهات اللواتي صدمتهن التجربة الزوجية، انطوين على أنفسهن ثم انكفأن إلى الولد الرضيع انكفاء شديدًا، ليعوّضن به عمّا خسرته في الحياة. هكذا يكون الطفل شغل أمه، تدفع به قسوة الوحدة ووحشة الفراغ النفسي. من هنا تلك الرغبة المنحرفة التي تتولّد في أعماق الأم نحو رضيعها، وهي شبيهة برغبة الأم “جو كاست” في مأساة “أوديب” في غمرة انهيارها.
          فالأسطورة تعلّق سلوك المرأة. وهل الأسطورة غير رمز بليغ لما يجري على مسرح الحياة في كل زمان ومكان؟ ولكن هل معنى ذلك أن أم الشاعر نزار قباني متهمة بعقدة “جو كاست”؟ لا، ليس من الضروري أن تكون أمه “جوكاست” هذا الزمان، ولكنها أكبر الظن تحمل الكثير من ملامح تلك المرأة الإغريقية، الأمر الذي سوّغ القول إن نزارًا خضع لعناية أم تسرف في رعايتها وحدبها على أطفالها. فنزار نفسه يعترف أنه كان الابن المفضّل لدى والدته، وأن والدته كانت سيدة طيبة إلى حد البساطة، حتى إذا سُئلت عن شعر ولدها أجابت بكل بساطة: “ملائكة الأرض والسماء ترضى عليه”. يقول نزار “طبعًا أمي ليست ناقدة شعر موضوعية ولكنها عاشقة”. إن امرأة مثل هذه تملك بلا ريب شروط المُربيّة الحاضنة التي تؤمن الرعاية الجيّدة لأطفالها والراحة التامة لسيّدها. ولكن زوجها “توفيق قباني” كان من الصعب أن يظل شغوفًا بها إلى فترة طويلة. وطبيعي أن تُذعن “فائزة” لقدرها فتلتفت إلى أحد أطفالها تُفرغ فيه كل طاقتها العاطفية المكبوتة. وليس مصادفة أن يكون هذا الطفل هو الصبي الثاني في الأسرة، لأن الفترة الزمنية التي مرّت على زواج توفيق وفائزة كانت قد أصبحت مهيّأة لمثل هذا الوضع الذي بدا في تحليل طفولة نزار. لذلك كان الطفل الرضيع ملجأ أمه وشغلها في هذا الفراغ العاطفي، حتى إنه يقول واصفًا نفسه في تلك المرحلة: “لقد كبرت وظللتُ في عينيها دائمًا طفلها الضعيف القاصر. وظلت ترضعني حتى سن السابعة، وتطعمني بيدها حتى الثالثة عشرة”.
الفطام وصدمة الطفل
          والحقّ أن في أبيات الشاعر الأولى ما يكشف عن هذه العلاقة اللاواعية بينه وبين أمّه، وما في هذه العلاقة من غيرة الأمّ على ولدها من أية امرأة تسرقه منها. وهاهو يتهمها على لسان إحدى فتياته أنها تقف وراء منعه منها: “لا أمّه لانت ولا أمّي / وحبّه ينام في عظمي”. أو يصوّر أمه تعاتبه على حبّ سواها لأنها خسرته مع واحدة أخرى: “تقول يا شقي كيف تغشَى / زاوية الجدار دون علمي / يا رحمة الله على جدار / لُذنا به طفلين ذات يوم”. ومهما يكن من خطورة الاتهام بالأوديبيّة أو الجوكستية، فإن في شعر نزار أثرًا من التعلق بالأم. وليس ضروريًا أن تكون جذور التعلق جنسية خالصة، فقد تكون الحاجة النفسية إلى الحماية والعطف مصدر هذا التعلّق الكامن في اللاشعور. وكل مَن قرأ هذا الشاعر أو درس آثاره لابد أن يتوقف مليًا عند إلحاح الرجل على نهدي المرأة.
          فهو لا يصف جمال امرأة من غير أن يرسم صورة موحية لنهديْها، ولا يشتاق إلى الأخرى إلا ويكون نهداها أبرز ما يشتاق إليه، حتى لقبه أحد الدّارسين بشاعر النهود غير منازع.
          وتصوير النهود والإكثار من التغنّي بها قد لا يكون غريبًا بحد ذاته، لأن النهدين رمز الأنوثة والنعومة معًا. وهما رمز موفّق في التعبير الفني. فقبل نزار ما عرفنا شاعرًا يوقف قصيدة بكاملها على نهد، حتى ليطلق نزار على ديوانه الثاني كله عنوانًا أثيرًا لديه هو “طفولة نهد”. ولا نظن مطلقًا أن التوقف على النهدين في غزل نزار هو من قبيل المصادفات، بل نحسبه على العكس من ذلك، أمرًا عميق الجذور في غرائزه الجنسية لأنه ذو دلالة تعود بنا إلى سنوات الطفولة الأولى، وما عرفه الطفل من متع الرضاع على صدر أمه. ولا يمكن تفسير هذا الارتباط إلا بردّه إلى المرحلة الفميّة، وهي أولى مراحل الاستمتاع الجنسي. الفم أوّل منطقة شبقيّة تظهر عقب الولادة مباشرة، وتلح في إشباع رغباتها الليبيدية. من هنا قول “كارل أبراهام Karl Abraham “: “إن بعض الحالات النفسية في سن النضج تتمثّل من حيث الشكل والمضمون وفقًا لأحداث ترقى إلى عهد الطفولة”.
          وربما كانت ظاهرة الرضاع هذه، مرحلة تلكّأت في حياة الشاعر، شأن كل صبي كبر وأحس أنه خسر متع الطفولة، فيعمد إلى التعويض الذهني عن طريق أحلام اليقظة مسترجعًا مذاق المتعة الغابرة. ولو قرأ الفرويديّون أبيات نزار لاتخذوها دليلاً على أن مصّ الطفل ثدي أمه، هو النموذج الأصلي لكل علاقة حب. ولا ندري إلى أي مدى تؤثر عملية الفطام الباكر أو المتأخر في حياة الرجل الجنسية. ولأن أحد الأدباء قال إن إكثار النهود في لوحات نزار قباني سببه الفطام الباكر، أجاب نزار قائلاً إن أمه ظلت ترضعه حتى سنّ السابعة. معنى ذلك أن الفطام المتأخّر لا الباكر، قد يكون وراء اكتساب عادة الرضاع أو إدمانه إدمانًا يظهر في نتاج الشاعر بعد البلوغ. والحقيقة أن مرحلة الرضاع قد تفسّر هذا التوق الشديد إلى أيام الطفولة. يوم كان الطفل ينعم بمجرى الحليب، كما يقول الشاعر: “والضوء منعكس على مجرى الحليب المعتم / وأنا أمُدُّ يدي وأسرق من حقول الأنجم”.
          فنزار يعمد إلى تصوير اليد الممدودة إلى النهد، شأن من يسرق نجمة. من هنا هذه اللوحة للشاعر الطفل على الصدر الذي أشبعه “ومضت تعللني بهذا الطافر المتكوّم / وتقول في سكر معربدة بأرشق مبسم / يا شاعري... لم ألق في العشرين مَن لم يُفطم”. والحديث عن الفطام قد يُوحي بنزعة أوديبية لدى الشاعر لأنه مرتبط بالمرأة / الأم أكثر من ارتباطه بالمرأة الحبيبة. ومعروف أن عملية الفطام تشكّل في حياة المرء الصدمة الأولى التي تهزُّ وجدانه، لأنها تحرمه متعةً جنسيّةً ألفها منذ شاهدت عيناه النور.
          واضحٌ أن للطفولة أثرًا في شعر نزار، لأنه عانى في مطلع حياته هذه الأحاسيس الواعية واللاواعية. ولذا كان شعره في بداية شبابه تعبيرًا عن مرحلة العطش والجوع، بدليل رغبته في أن يضمّ النهد والشفّة والساق، وأن يشبع غريزته في تذوّق أطايب المرأة عن طريق حواسّه الخمس، وبخاصة عن طريق الفم. وحجّته أن “اللثم للشعراء غير محرّم”.
          وهذا دليل المراهقة في أغلب القصائد التي أبدعها نزار قباني.


تابعونا على الفيس بوك

www.facebook.com/awladuna

إقرأ أيضًا:
إبراهيم طوقان.. شاعر له عينا زرقاء اليمامة
ديكِ الجن.. ديك الشعر الفصيح
مالك بن الرَّيـْب.. يرثي نفسه

هناك تعليق واحد:

  1. نزار قباني شاعري المفضل ويشرفني قرائة أشعاره

    ردحذف