الثلاثاء، 17 ديسمبر 2013

• التنويم النغناطيسي.. بين معالجة المعلومات ومس الشياطين


مرة أخرى تعود ظاهرة التنويم المغناطيسي لتشغل تفكير العلماء والباحثين والأطباء النفسيين بعد أن انتشرت في الولايات المتحدة الأمريكية كالوباء، فخلال 12 عامًا قفزت الحالات التي تُعالج بالتنويم من عدة مئات إلى عشرات الآلاف.

جاءت ندوة علمية بفرنسا لتكون تربة خصبة لانتشار العدوى في أوربا، إذ نظم المركز القومي للبحوث العلمية بفرنسا ندوة عالمية حول التنويم لمناقشة إيجابيـــات وسلبيات هذه الظاهرة التي تشبه التخدير دون استخدام مخدر، ودارت الندوة بقاعة البروفيسور «جون مارتان شاركو» المكتشف الأول للتنويم المغناطيسي منذ أكثر من مائة عام، الذي نجح في جعله ظاهرة علمية نالت احترام العلماء والأطباء النفسيين، إلا أن شعبية شاركو لم تستمر طويلاً، فبعد وفاته تعرض اكتشافه لهجوم لاذع من قبل الهيئات العلمية فانطفــأ البريق الذي كان يلمع حول هذه الظـاهرة التي كانت تعــد آنــذاك أحــــد الاكتشافات العلمية الخطيرة، وقد عرفت هذه الظاهرة باسم هيبنوتيزم hypnotism أي التنويم المغناطيسي، ثم تطـور هذا المسمى اليوم ليصبح هيبنوسس hypnosis وترجمت في اللغة العربية إلى «التنويم» فقط.
عقد فى باريس أخيرًا مؤتمر دولي حول التنويم المغناطيسي والطب، واستعرض تجارب علماء النفس الأمريكيين التي أجريت منذ عام 1933 بالولايات المتحدة الأمريكية، التي ساد بعدها سكون طويل قبل أن يقرر المركز القومي للبحوث العلمية بفرنسا إعادة الروح إليها بتخصيص ندوة علمية لمناقشة العلاقة التي تربط أبحاث الفسيولوجية العصبية - أو علم وظائف الأعصاب - بعلم النفس المعرفي المتعلق بالإدراك. وبالتالي تحديث المفهوم العلمي لهذه الظاهرة، حيث التعريف الحديث «التنويم» يعني أنه صورة مطورة لمعالجة المعلومة التي يستقبلها العقل البشري، فالشخص الذي يقع تحت تأثير التنويم يستطيع أن يرى ويسمع كل ما يملى عليه، كما أن هناك بعض الأشخاص الذين يمكنهم الخضوع لعمليات جراحية دون الشعور بأي ألم.
نجحت هذه الندوة الفرنسية في عرض الوجهين المختلفين للتنويم على مر العصور، ابتداء من عام 1770 عندما أطلق الطبيب النمساوي «فرانز أنتون ميسمير» على هذه الظاهرة اسم «المغناطيسية الحيوانية». فهناك بعض العلماء الذين يعتقدون أن التنويم ظاهرة بسيطة قد تفتح آفاقًا واسعة نحو دراسة الحياة النفسية، أما البعض الآخر من محبي دراسة الأشياء الخارقة فيرى أن التنويم يكشف عن القوى الخارقة المكبوتة داخل النفس البشرية، ويسمح بإجراء اتصالات مع العالم الآخر.. عالم الأموات.
العالِم «ميسمير» كان ينتمي للفئة الأولى، فقد كان مقتنعًا بأن المغناطيسية الحيوانية، وهي الجاذبية الشديدة التي يتمتع بها بعض الأشخاص، ستسمح بتفسير ظاهرة القوى الخارقة المكبوتة داخل النفس البشرية كمس الشياطين مثلاً. لذا اعتمد علاج هذا الطبيب النفسي النمساوي على النوبات العصبية التي أتت بنتائج علاجية باهرة، الأمر الذي أزعج السلطات الفرنسية حيث سرعان ما انتشر العلاج بالتنويم المغناطيسي بفرنسا في هذا العصر. وتشكلت لجنة طبية لدراسة تلك الظاهرة، وبعد إجراء عدة تجارب، أكد أعضاء اللجنة أن شفاء بعض الحالات المرضية يتم بعد إقناع المريض بأنه يتعاطى جرعة مكثفة من دواء ذي مفعول قوي، وهكذا فإن المعتقدات الوهمية تلعب دورًا كبيرًا في الشفاء من بعض الأمراض، وتعتبر قوة التأثير التي يتمتع بها المعالج العامل الرئيسي لإرساء تلك المعتقدات الوهمية في نفس المريض.
لم تقلل اللجنة الطبية من شأن التجارب والاكتشافات السابقة التي توصل إليها العالم النمساوي فرانز ميسمير، حيث أصبح التنويم المغناطيسي في عصره يعني التعامل مع القوة الخارقة المكبوتة داخل النفس البشرية.
اتجه العلاج بالتنويم المغناطيسي في عام 1843 نحو منحى جديد على يد العالم البريطانى «جيمس بريد» الذي رأى أن هذه الظاهرة ليست إلا مفتاحًا نحو الحياة النفسية للمريض. ونهج العالم الفرنسي شاركو نفس المنهج ونفس إمكان إملاء بعض الأوامر على المريض لارتكاب أعمال إجرامية، إلا أن منافس شاركو وغريمه «أمبل برنهيم» كان يعتقد أن التنويم المغناطيسي يعتمد أساسًا على قوة التأثير وأنه يمكن إملاء جميع الأوامر على المريض سواء كانت تدعو إلى الخير أو إلى الشر. أما عالم الطب النفسي «جوزيف ديل بوف» فقد أتى بنتائج جديدة تؤكد أن طاعة المريض أثناء التنويم المغناطيسي شرط أساسي لإتمام هذه العملية؛ فقد يقاوم ويرفض تنفيذ جميع الأوامر التي تتنافى مع حسه الأخلاقي وثقافته وعاداته وتقاليده، وسيوافق من جهة أخرى على تنفيذ الأوامر التي تتوافق مع معتقداته. يقول الاختصاصي «ليون شوبتوك» عن المنوم المغناطيسي: «إنه مثل ملكة إنجلترا، فهي تقول أريد ذلك أو ذاك، لكن البرلمان - أي المريض - هو الذي يحدد ويقرر». أما الاختصاصيون الأمريكيون، فقد نهجوا طريقة «برنهيم» التي تعتمد على قوة التأثير عن طريق إملاء الأوامر.
تفسيرات بديلة
من هنا تعارضت الآراء حول ظاهرة التنويم. فيرى البعض أنها لا تتعدى عملية استبدال الأدوار حيث يلعب المريض لاشعوريًّا دور المعالج ويقوم بتنفيذ جميع رغباته، ويرى البعض الآخر أن التنويم يساعد على إعادة التنظيم العقلي للمريض، ويرى أغلب المستخدمين للتنويم كوسيلة علاجية أنه يساعد على إعادة تنظيم الحياة العقلية للمريض. ويؤكد عالم النفس الأمريكي «لورانس كوبى» أن هناك فرقًا بين المرحلة الأولى من التنويم - التي تتميز بقوة تأثير المعالج على المريض ويبقى فيها المريض في حالة استسلام لتلقي أوامر المعالج - وبين المرحلة التالية - التي تتميز بحركة المريض وجديته وهو خاضع للتنويم المغناطيس, فأثناء المرحلة الأولى، تذوب الحواجز بين المريض والطبيب المعالج أو المنوم، وهو نقطة الوصل الوحيدة التي تربط المريض بالعالم الخارجي، وتتميز المرحلة الثانية بعلاقة جديدة تربط المنوم بالمريض الذي يجسد أوامر الطبيب بعد أن سيطر سيطرة كاملة على لاشعوره.
ورغم تعدد الآراء حول التنويم، هناك حقيقة مؤكدة أن هذه الظاهرة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالطبيب المعالج وبالطريقة التي يتحدث بها إلى المريض، كما أن هناك علاقة وثيقة بين هذه الوسيلة العلاجية وحقيقة ما هو مكبوت داخل لا شعور المريض.
اعتقد ميسمير أن «المغناطيسية الحيوانية» قد استقرت في جسمه، وأن وظيفتها العلاجية كانت المساعدة على إصلاح العطب الحاصل في دوران المائع المغناطيسي بجسم المريض لتعيد للجهاز العصبي توافقه وانسجامه مع الكون. وعرض اكتشافاته حول التأثيرات العلاجية لظاهرة المغناطيسية الحيوانية على رئيس الهيئة الطبية النمساوية، الذي كان صديقًا شخصيًّا له، وطلب منه الإيعاز بتشكيل لجنة خاصة من الهيئة الطبية تقوم بإجراء كشف رسمي على حالات العلاج الناجح التي استخدم فيها أفكاره حول المغناطيسية الحيوانية وبث دعاية لأسلوب العلاج الجديد. لكن ميسمير فوجئ بالإهمال التام الذي قوبل به طلبه من قبل صديقه المقرب، كما وجد من باقي الزملاء معارضة شديدة للأفكار التي طرحها، وكانت هذه المعارضة سببًا في رحيله عن النمسا والهجرة إلى باريس عام 1778، ولكن ليس قبل أن ينشر في عام 1775 اكتشافاته في كتيب وزعه على معظم المؤسسات العلمية في أوربا.
لم يكن ميسمير في باريس أقل مشاكسة واصطدامًا مع الجهات الطبية، التي كانت تشك في صحة ادعاءاته، إلا أن كل الاعتراضات التي أثيرت لم تستطع منع أفكاره من الانتشار في جميع دول أوربا، وأن يستخدمها العديد من الأطباء في العلاج. وأصبح العلاج باستخدام المغناطيسية الحيوانية يُمارس في مختلف أنحاء ألمانيا، والنمسا، وهنغاريا، وسويسرا، وفرنسا، وبريطانيا، والولايات المتحدة الأمريكية، وغيرها من الدول؛ وتشير كتابات وسجلات الأطباء بالقرنين الثامن عشر والتاسع عشر إلى نجاحات كثيرة في استخدامهم المغناطيسية الحيوانية لعلاج أمراض عدة مثل الروماتيزم، وأمراض المعدة، وأنواع الحمى، والصداع، والصرع، وأمراض العين، والأذن، وغيرها.
على الرغم من أن ظاهرة العلاج الغريبة التي اكتشفها ميسمير كان مكتوبًا لها أن تستمر إلى يومنا هذا دون أن تختفي، فإن أفكاره عن تفسير هذه الظاهرة - كمفهومي «المغناطيسية الحيوانية» و«المائع المغناطيسي» - لم يكتب لها أن تستمر؛ فمنذ عام 1850 تقريبًا بدأ العلم يتقدم بخطوات كبيرة نحو تفهم قوانين الكهربية والمغناطيسية، وشيئًا فشيئًا أصبح واضحًا للأطباء والمختصين بأن الجهاز العصبي لا يعمل عن طريق طاقة أو مائع مغناطيسي أو شبه كهربائي. وهكذا بدأ الباحثون المهتمون بظاهرة المغناطيسية الحيوانية بالتخلي عن أفكار ميسمير وطرح تفسيرات بديلة للظاهرة، كما بدأوا ممارسة الظاهرة دون الاستعانة بأفكار المغناطيسية الحيوانية، كاستخدام المغناطيس أو تمريرات اليد فوق الجسم، وقد عرفت هذه الظاهرة باسم هيبنوتيزم hypnotism أي التنويم المغناطيسي، ثم تطورت التسمية بعد اكتشاف قوانين الكهربية والمغناطيسية لتصبح هيبنوسس hypnosis ويمكن ترجمتها إلى «التنويم».
كان أول من استخدم مصطلح «hypnotism التنويم المغناطيسي» هو الجراح الاسكتلندي جيمس بريد James Braid) 1785-1860) وذلك في سنة 1843، وهي سنة نشر كتابه الشهير حول التنويم المغناطيسي. ويرجع سبب استخدامه لهذا المصطلح إلى أن الشخص الذي يقع تحت تأثير هذه الظاهرة يصبح في حالة شبيهة بالنوم، لكنها تختلف عن النوم نفسه. كان أسلوب بريد يجعل الشخص يركز بصره على جسم لامع معلق فوق عينيه، على بعد 20 إلى 38 سنتيمترًا (8 إلى 15 بوصة). إلا أن أسلوب التنويم الذي أصبح أكثر شيوعًا فيما بعد هو أن يُطلب من الشخص الاسترخاء وغلق عينيه ومن ثم يقوم المنوم بإعطاء ما يسمى بإيحاءات التنويم، وهي عبارات معينة يطلب خلالها المنوم من الشخص أن ينام. ومن الطبيعي أن بريد رفض تمامًا أي تفسير لظاهرة التنويم بدلالة أفكار المغناطيسية الحيوانية والمائع المغناطيسي لميسمير.
علاجات التنويم
ظاهرة التنويم كانت مصدر إثارة كبيرة للناس لما يحدث خلالها للشخص المنوم من فقدان للوعي شبيه جدًا بحالة النوم. لكن ما جعل ظاهرة التنويم تستقطب اهتمامًا خاصًا من عامة الناس والعلماء هو تطبيقاتها الطبية، حيث تبين أن التنويم يساعد في علاج الكثير من الأمراض. ولعل من أهم التطبيقات الطبية لهذه الظاهرة هو استخدامها كمخدر للألم في العمليات الجراحية في وقت لم يكن فيه التخدير الطبي قد عُرف بعد؛ إذ لم تُكتشف أولى مواد التخدير الكيميائية مثل الإثير والكلورفورم إلا في عامي 1846 و1847م على التوالي، وليس من الصعوبة تقدير مدى الصيت الذي كسبته ظاهرة المغناطيسية الحيوانية في وقت كانت فيه العمليات الجراحية الكبرى والصغرى تجرى دون تخدير، مع ما يعنيه ذلك من تحمل المرضى لآلام لا تطاق.
يُعتقد أن أول العمليات الصغرى التي استُخدمت فيها المغناطيسية الحيوانية كمخدر أجريت عام 1819، حيث استؤصلت عقدة عصبية من معصم إحدى المريضات بعد أن تم تنويمها. وفي عملية صغرى أخرى أجريت عام 1824، قام طبيب أسنان بخلع سن طفل في الرابعة عشرة من العمر بعد تنويمه، وحين أيقظ الطبيب مريضه بعد خلع سنه لم يكن هذا الأخير يشعر بأن الطبيب قد خلع له سنه. أما أول عملية جراحية كبرى، فقد أجراها الطبيب الفرنسي جول كلوكي Jules Cloquet في عام 1829 على مريضة بسرطان الثدي الأيمن، فقد استعان الطبيب كلوكى بأحد المنومين الذي نوم المريضة فيما قام هو باستئصال الورم، وخلال العملية التي استغرقت 10-12 دقيقة لم تتحرك المريضة ولم تظهر عليها أي إشارة إحساس بالألم. على أن أشهر من استخدم المغناطيسية الحيوانية كوسيلة للتخدير في العمليات الجراحية هو الجراح الاسكتلندي جيمس إسدايل James Esdaile)1808-1859) الذي كان مسئولاً عن أحد المستشفيات الصغيرة في البنغال، بالهند، وعن مستشفى أحد السجون، وخلال عشرين سنة من الخدمة في الهند أجرى أيسدايل 261 عملية جراحية صغرى وكبرى مستخدمًا فيها المغناطيسية الحيوانية للتخدير.
اليوم يستخدم بعض الأطباء التنويم لعلاج حالات مرضية عديدة، حيث يقوم الطبيب بتنويم المريض ثم الإيحاء إليه بعبارات يكررها على مسامعه يؤكد له من خلالها أن مرضه قابل للشفاء وأنه سيتماثل للشفاء بإذن الله، تدريجيًّا، إلى آخر تلك الإيحاءات التي تهدف إلى إقناع المريض بأن مرضه قابل للشفاء. وعلى سبيل المثال، استُخدم التنويم بنجاح لعلاج مرض الصدفية الجلدي الولادي ولعلاج الثألول، إضافة إلى أنه ذو تأثير إيجابي متميز في علاج الربو والأمراض النفسية والنفسجسمية، كما أن النوم المغناطيسي لايزال يستخدم للتخدير في بعض العمليات الجراحية وإن كان بصورة محدودة جدًا وعادة يقتصر على المرضى الذين يرى الطبيب المختص بأن مواد التخدير الكيميائية يمكن أن تشكل خطرًا على حياتهم.

تابعونا على الفيس بوك
مواضيع تهم الطلاب والمعلمين والأهالي
حكايات معبرة وقصص للأطفال
للمزيد
أيضًا وأيضًا




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق