الأربعاء، 27 أبريل 2022

• أسطورة نرجس وأسطورة المتنبي... أية علاقة؟


نرجس والمتنبي

«كان اليونانيون الأقدمون يطلقون اسم نرجس على فتى من فتيان الأساطير  بارع الحسن ساحر الشمائل، يفتن من يراه ويشقي بجماله وتيهه قلوب العَذَارَى الْخَفِرَاتِ...» هل كان المتنبي جميلا بارع الحسن، يفتن بحسنه قلوب العذارى لننعته بتضخم الأنا، أو ما يصطلح عليه بالنرجسية؟ هل كان مفتونًا بجماله فمات غرقًا، وهو يناظره على صفحة مياه البحيرة؟ هل نبتت مكان جثمانه نرجسة تشبهه؟

الجواب: لا! هل نستطيع أن نستشف من هذا الجواب أن المتنبي لم يكن نرجسيا؟ الجواب: لا! ليس في أسئلتنا وأجوبتنا أي تناقض؛ فالمتنبي كان نرجسيًا؛ لأنه كان بارع الجمال أيضًا! إلا أن جماله ليس جمالًا حسيًا، بل هو جمال من نوع آخر، وقد كان غرقه من نوع آخر، أيضًا.

لقد شب المتنبي على حب ذاته، وعُرف بمدحه لها، قبل أن يمدح الملوك، فهو الذي يقول:

وَمَا الدّهْرُ إلاّ مِنْ رُواةِ قَصائِدي     إِذَا قُلْتُ شِعْرًا أَصْبَحَ الدَّهْرُ مُنْشِدا

أَجِـــزْنِي إِذَا أنْشِدْتَ مَدْحًا فَإِنَّمَا     بِشِعْرِي أَتـَـاكَ الْمَــادِحُونَ مُـرَدَّدا

وَدَعْ كُلَّ صَوْتٍ بَعْدَ صَوْتِي فَإِنَّنِي     أنَا الصَّائِحُ الْمَحْكِيُّ وَالْآخَرُ الصَّدَى

 ثنائية الصوت والصدى مذكورة في تتمة قصة نرجس، تقول الأسطورة: «ثم هامت عروس الصدى بنرجس وهو على دأبه من الهيام بنفسه، وأبلاها الحب؛ لأنها عجزت عن مفاتحته بغرامها، وكادت تيأس لولا أنها ظفرت به يومًا ينادي أحد رفاقه، ويصيح به من بعيد:

ألا أحد في هذا المكان؟

فسنحت لها الفرصة وأجابته قائلة في شوق وحنين: أحد في هذا المكان.

قال: هلم.

قالت: هلم.

فأعرض مُحْنِقًا، وهو يقول: لا، لا، لست أعني هذا، سأموت ولا يكون لكِ سلطان عليَّ.

فلما مضى في سبيله غير ملتفت إليها عافت نفسها، ولاذت بالكهوف والمَغَاوِر فلا يحسها السامع بعد ذلك إلا في كهف أو مغارة، ومن هنا كانت علاقة الصدى بمن يحب نفسه، ويروقه أن يستمع إلى كلامه معادا إليه».

لقد كان المتنبي يمثل الصوت، وكان خصومه يمثلون الصدى، إنهم صدى؛ لأنهم كانوا مجرد كلام معاد، وهو الصوت/ الأصل. ولأن الصدى في بادئ الأمر، كما تقول الأسطورة اليونانية، كان فتاة ثرثارة حكمت عليها «هيرا» زوجة «زيوس» «بأن تعيى بابتداء الكلام، فلا تقدر على النطق إلا ترديدا لما يلقى إليها»، فقد أصبحت فرعا ناقصًا، والكمال للأصل (الصوت). إن تَرداد الصدى للصوت لا يتم على وجهه التام، بل يشوبه نوع من النقص المشوه لجمال الأصل، الجمال مقتصر على الأصل، على شعر المتنبي الذي إن سمعه الدهر أصبح منشدًا له، طَرِبًا به، وهنا تتضخم أنا المتنبي؛ لإشراكه للمجردات (الدهر) في التفاعل مع شعره؛ إنه غارق في جمال شعره إلى آخره، مفتون بحبه، وسحر بيانه، فلا غرابة أن نجده يقول في ميميته المشهورة:

أَنَا الَّذِي نَظَرَ الْأَعْمَى إِلَى أَدَبِي      وَأَسْمَعَتْ كَلِمَاتِي مَنْ بِهِ صَمَمُ

لقد كان للمتنبي مُحِبُّون كثر، كما كان لنرجس، بل إن محبيه تجاوزوا محبي نرجس، فلم يكن لنرجسَ، طبعًا، محبون عمْيًا؛ كما كان للمتنبي، لذلك فالمتنبي يفوقه في عدد «المعجبين»؛ فمعجبوه لا يقتصرون على الناس العاديين المتمتعين بكل ملكاتهم، بل فيهم الأعمى، وفيهم الأصم، ولنا أن نتساءل، ما دام السؤال حقاً مشروعاً، عن سبب اختيار المتنبي للصمم والعمى، لماذا لم يختر الخَرس، مثلا؟ نستطيع أن نقول إن الخرس حاضر في بيته السالف الذكر:

وَدَعْ كُلَّ صَوْتٍ غَيْرَ صَوْتِي فَإِنَّنِي     أَنَا الصَّائِحِ الْمَحْكِيُّ وَالْآخَرُ الصَّدَى

الصدى محكوم عليه بالخرس الأبدي، لا كلام للصدى إلا ما قاله الآخرون، إنه يقتات على كلام غيره، لذلك لاذ بالكهوف والمغاور فلا يحسه السامع بعد ذلك إلا في كهف أو مغارة.  

إن المتنبي ينطلق في أشعاره هذه من نفس ملؤها الأنا والزهو، فيحس بمن حوله من شعراء عصره وكأنهم ناقصون، خرس وعمي ومصابون بالصمم، ومع ذلك يستطيعون أن يسمعوا شعره، وأن يناظروا أدبه، ويرددوه كصدى، لأنه يفرض نفسه عليهم بجماله الذي لا يستطيع أحد مجاراته؛ لأنهم، أمامه، هامش، وهو المركز، لذلك كانت له الصدارة عند سيف الدولة، وكانت لهم الكهوف والمغارات( الهوامش).  لقد كان المتنبي يحب رجع صداه، ويتلذذ بسماعه؛ لأن هذا الصدى كان يشعره بحقيقة لطالما «تكلم عنها الفلاسفة الوجوديون عمومًا، وهيدجر خصوصًا، وأقصد بها حقيقة كون الإنسان موجودا ــ هناك Dasein ــ في العالم، وبين الآخرين، بحيث تقوم ماهيته في وجوده خارج نفسه، أي في وجوده Existenz المتحقق في العالم، فالإنسان حين يرى صورته منعكسة «هناك»، وعلى مسافة منه، في المرآة، لا يكون «داخل» ذاته ولا يبقى سجين «جوانيته»، وإنما يظهر لنفسه، وللآخرين، وكالآخرين، موضوعًا خارجيًا، أو متخارجًا».

إن النرجسي يحب أن تنعكس صورته في الآخرين، وهذا كفيل بأن ينفخ هذه الأنا ويغذيها بغرور مضاعف، فإذا كان نرجس قد انعكست أنَاهُ على صفحة المياه، فإن أنا المتنبي قد انعكست في مرآة من نوع آخر، مرآة خاصة بسحر البيان وجماله؛ إنها الشعر، يقول عن هذا:  

أَنَامُ مِلْءَ جُفُونِي عَنْ شَوَارِدِهَا     وَيَسْهَرُ الْقَوْمُ جَرَّاهَا وَيَخْتَصِمُ

إنه غير مبالٍ بمحبيه المفتونين بجمال بيانه، فهو يشبه في هذا نرجسَ الذي لم يكن يعبأ بمعشوقاته «لا يلتفت إليهن ولا يستجيب لضراعتهن، ولم يزل كذلك حتى ضجت السماء بدعاء عاشقاته وصلواتهن إلى الأرباب أن يصرفوهن عنه أو يصرفوه عنهن» .لقد كان المتنبي نائما عن حبهم هذا، وعن تخاصمهم وسهرهم، ونستطيع بقليل تأمل أن نلحظ اللامبالاة في كلمة «أنام»، وذلك من جهتين: الأولى أن «أنام» فعل مضارع يفيد الاستمرارية، والثانية أن الكلمة تتضمن صائتا هو ألف المد الذي يفيد الاستغراق في هذه الاستمرارية، والذي يزيد المتنبي لامبالاة هو قوله: «ملء جفوني»؛ إنه نائم على آخره لا مبالٍ بالآخر، بينما هذا الآخر/ الصدى ساهر مفتون بجمال هذه الشوارد، يتخاصم في معانيها .

المصدر:1

تابعونا على الفيسبوك

مواضيع تهم الطلاب والمربين والأهالي

حكايات معبّرة وقصص للأطفال

www.facebook.com/awladuna

إقرأ أيضًا                                         

رائحتك تدل على شخصيتك

الألوان في طعامنا

الخطاب في الرسوم المتحركة الموجهة للأطفال

في استرجاع عادة الاستعارة من الجيران

أسباب تجعل الطفل أنانياً

للمزيد

حدوثة قبل النوم قصص للأطفال

كيف تذاكر وتنجح وتتفوق

قصص قصيرة معبرة

قصص قصيرة معبرة 2

معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب

الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية

إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن

استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط

قصص قصيرة مؤثرة

مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم

تربية الأبناء والطلاب

مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات

أيضاً وأيضاً

قصص وحكايات

الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور

شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور

الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها

تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات

كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها

مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق