الأربعاء، 27 أبريل 2022

• الفَضاءُ في القَصِيدَة مِعمَاريةُ النّص الشّعرِي


الفضاء في القصيدة

كثيرًا ما طرحتْ خصوصيات المقروء والمرئي وتشكيل الفضاء أو المكان في القصيدة العديد من الإشكالات النظرية والدلالية، سواء ضمن مستوياتها وإمكاناتها التعبيرية والجمالية على وجه التحديد.

 حيث يمكن الحديث هنا، ضمن أشكال تَمظهُر الكلمة (كعلامة مكتوبة أو مرسومة) على حامل ما، وانتقال طبيعة هذه الكلمة ودلالتها من المقروء إلى المرئي، ومن اللساني إلى البصري، أو حتى ضمن إقامتها في المنطقتين معًا، العديد من إشكالات القراءة أو أوجه هذا التمظهر على الخصوص، إذ يواجهنا في ذلك هذا النوع من التبادل الدلالي والوظيفي للخطّي والتصويري معًا، ويكون بوسع الكلمات المكتوبة أن تصبح صورة أو أيقونة، وبمقدور الصورة أن تتشكل أيقونيًّا أيضًا من الكلمات.

ثمة أيضًا - ضمن هذا الاستعمال المتحول والمتكيف للمكتوب مع المجال البصري والدلالي الذي توضع فيه الكلمات - أسلوب آخر، أو طريقة أخرى للّعب بالكلمات، ضمن نوع من التورية المعتمدة في بنائها وخطابها على نوع من المزج ما بين اللساني والبصري في القصيدة. هي الطريقة التي كثيرًا ما استعملها العديد من شعراء الحداثة الشعرية الغربية والعربية، حيث يصبح هذا الاستعمال بمنزلة مكوّن بصري وتصويري آخر للكتابة المعتمدة على اللعب البصري بالكلمات أو بالحروف، وتكرارها مثلًا في الأسطر الشعرية، لتشير إلى أرقام أو إلى أشياء أخرى، تشكّل بدورها إيقاعًا بصريًّا وصوتيًّا للكلمات وعناصرها الخطية في الوقت نفسه.

وإذا كانت «الصورة تمتح معناها من النظرة، كما يمتح المكتوب معناه من القراءة» -  على حد تعبير ريجيس دوبري - فإن العين تتربى بالكلمات، ذلك أن أسماء الألوان، وملونة palette  كاملة من الكلمات والأوصاف تقودنا إلى تمييز أفضل بين النبرات، إن الشعراء الجيدين يدربوننا على النظر أفضل، بالرغم من أن كلماتهم عمياء (...)، وكما أن الذكاء «يطوّر» الأحاسيس، تسعى اللغة كذلك إلى إظهار الصورة، بالرغم من أنها لا تملك قدراتها التأثيرية. هكذا يتحقق المرئي إذن في المقروء، وذلك هو ما يسمى أدبًا، ثم، لطالما أثار البصري انتباه نخب الكتابة التي عرفت تقليديًّا بإعراضها عن الصورة، هذا التحول تجلّى واضحًا وبشكل أفضل لدى محترفي الكلمات، الأبعد بمهنتهم وتقاليدهم عن قيم العرض الصوري. ففي سنة 1960  التقى شخصان مثقفان للعشاء، وتجاذبا أطراف الحديث عمّا قرآه، وفي سنة 1990  تحدث الشخصان نفسيهما عمّا شاهداه.

ذلك «مكتوب» أسود على أبيض: تتضمن هذه العبارة الشهيرة والمسكوكة - والتي تستعملها أو تلجأ إليها كل المجتمعات الكتابية، وجلّ الثقافات الإنسانية( العالمة منها وغير العالمة)، من أجل تثبيت شرعية الأشياء ومنحها صفتها القانونية والرسمية - تأكيدًا قاطعًا لقانونية الكتابة وشرعيتها، إذ يقوم المرئي - هنا - بتأكيد وضمان وجود المقروء، ثم إن الأسود والأبيض ينتميان إلى المجال الرمزي، حتى لو كان هذا الأسود أزرقًا، أو كان الأبيض ورديًّا، ومصحوبًا برسومات لأزهار صغيرة؛ مثلما هي الحال في البطاقات الخاصة بمراسلات المراهقين أو اليافعين. إن الأسود والأبيض هما العلامة البصرية للحقيقة الإبلاغية أو الإخبارية.

مِنْ ثَمّ، تكون العلاقة بين المرئي والمقروء، في أصلها ذات طبيعة متناقضة، بما يعني أن هذه العلاقة هي - في الوقت نفسه - اتفاقية وتاريخية، ولا يوجد المرئي - بهذا الشكل - داخل الكتابة، إلا لينصهر داخل الدلالة. وفي اللغة يعمل المقروء على أن يصبح المرئي - كما هو في طبيعته الخاصة - لا مرئيًّا، وللتعبير عن ذلك بطريقة أخرى، فإن مرئي الكتابة باعتباره لغة، هو مرئي خاضع للتوجيه ولنوع من الشرطية كذلك. إنه مرئي بصيغة المقروء، وبشكل غير منفصل بتاتًا. إذ لا تكف اللغة أبدًا عن أن تظل مرئية ومنظورة، لكن كلغة مقروءة على وجه التحديد».

الفضاء الأيقوني والشعري

إن الحديث عن الفضاء - هنا - في علاقته بالنص الشعري البصري، هو حديث - بالدرجة الأولى - عن تجسيد مادي ومرئي لهذا النص داخل الفضاء، سواء كان هذا الفضاء في ملمحه النصيحين يشكل النص المكتوب تمظهره البصري الأساسي على الصفحة، ويكون بإمكاننا قراءته قراءة خطية وفق تركيب لفظي ودلالي معيّن، أو في ملمحه الصوري -  التصويري  حين تشكّل هيئة النص المكتوب أو صورته على الصفحة كذلك تمظهره البصري، لكن من دون ضرورة توافر شرط القراءة الخطية للنص وفكّ دلالته، أو حتى في ملمحه الأيقوني كذلك حين تأخذ هيئة النص على الصفحة شكل أيقونة، من خلال عمليات المماثلة أو المشابهة، التي تحيل بالضرورة على صورة أو هيئة أو شكل شيء ما موجود في الواقع، كأن يأخذ النص في ترسيمه الخطي - على سبيل المثال - شكل شجرة أو مزهرية أو كرسي، أو ما شابه ذلك.

وبالرغم من أن جميع الخصائص البصرية لأشكال الفضاء التي أتينا على ذكرها هنا، هي خصائص مشتركة ومفارقة لهذه الفضاءات في الوقت نفسه؛ إذ تكون خصائصها البصرية جميعها مشتركة، فإنها تخضع كلها لعملية الرؤية والإبصار، ومعالجتها كمعطيات أو كمعلومات - ضمن عملية الإدراك والإبصار - من قبل المخ والجهاز البصري. ثم مفارقة، من حيث إن بعضها يكون قابلاً للقراءة كدالّ خطي، في حين أن البعض الآخر لا يخضع لهذه العملية بتاتًا، وتكون دلالته غير لفظية، بل خاضعة لقراءة بصرية بالأساس، ثم لتأويل تنتسب أدواته إلى القراءة «السيميولوجية» أو «السيميوطيقية» المرتبطة بتفكيك خطاب الصورة وعلامتها أو عناصرها غير اللسانية، أكثر من ارتباطها بالقراءة «السيميائية» الموكول لها - أساسًا - تأويل النص الأدبي كدليل أو كعلامة لسانية.

بهذا المعنى أيضًا، يمكن القول بأن «الفضاء النصي» هو الفضاء «الممنوح للقراءة»، في حين يكون «الفضاء الصوري أو التصويري» و«الفضاء الأيقوني» بمنزلة فضاءين «ممنوحين للمشاهدة» وللنظر، وهكذا يكون للفضاء في النص الشعري الحديث والمعاصر، وخصوصًا في نماذجه التجسيمية، دور أساسي في استخلاص العديد من الدلالات والنتائج، و«هذا أمر ليس بدعًا، إذ أصبح من المألوف الحديث عنه واستكناه دلالاته وأبعاده من قبل الشعراء المحدثين والمعاصرين، وبعض الدراسات التي حاولت أن تجعله من المكونات الشعرية الأساسية بعدما أغفلته الدراسات البنيوية المعتمدة على النماذج أو المتبنية للمعجمية لاعتمادها على المكتوب وإغفال البياض». ولنعرض الآن بعض التعريفات المركّزة للفضاءات الثلاثة السالفة الذكر، من خلال ما جاء في بعض البحوث والدراسات التي اهتمت بالخصوصيات الشكلية، والبصرية، والوظيفية، والدلالية لهذه الفضاءات.

الفضاء النصي

يقدم محمد الماكري تعريفًا للفضاء النصي بأنه «الفضاء الذي يحتوي الدال الخطي، وبذلك يبقى المعطى المقدم في إطاره مجرد نص مقدم للقراءة. إنه، وفق تعريف آخر، هو ذلك الفضاء الخطي الذي يعتبر مساحة محدودة، وفضاء مختارًا ودالَّا بمجرد أن تترك حرية الاختيار للشخص الذي يكتب. والمعروف أن الكاتب لا يتوافر على حرية كبيرة في الاستعمال الذي ينجزه بفضائه الخطي. فأبعاد الحروف، وتنضيد الكلمات على الصفحات والهوامش والفراغات، تخضع في الغالب لقواعد تواضعية، والحرية التي يملكها الكاتب للتحرك في الفضاء الذي اختاره تتم في حيز ضيق جدًا، الأمر الذي يصير معه اختياره اختيارًا دالًّا».

ثم يستطرد الباحث في تعريفه للفضاء النصي - معتمدًا في ذلك وجهة نظر فرانسوا ليوتار الأساسية في هذا الإطار من خلال مدخل كتابه Le parti Pris du figural، ثم في كتابه «الخطاب والصورة» قائلا: «ينطلق ليوتار من مقولة أن المعطى ليس نصًّا، وأن بداخله يوجد سُمْك، أو بالتالي اختلاف تكويني، ليس معطى للقراءة ولكن للرؤية».

وبناء على هذه المُسَلّمة يميز بين فضاءين هما الفضاء النصي والفضاء التصويري، وعن الفرق بين هذين الفضاءين ينتج فرق أنطولوجي، لأن الفضاءين المذكورين يمثّلان مرتبتين متميزتين من المعاني، فهما يشتركان في التبليغ، لكنهما مع ذلك منفصلان.

إن الفضاء النصي، حسب ليوتار - يضيف الماكري - هو الفضاء الذي يتم فيه تسجيل الدال الخطي، في حين أن الفضاء الصوري الذي تُعَرّفه كلمة «تصويري» في مقابل «غير تصويري»، أو المجرد كما هو الأمر في قاموس النقد المعاصر والتشكيل، والخاصية المناسبة لهذه المقابلة هي مماثل الممثِّل (بكسر الثاء) للممثَّل (بفتح الثاء) في الإمكانية الممنوحة للمشاهد كي يتعرف الثاني من خلال الأول. وهذه الخاصية لا يراها حاسمة بالنسبة للشكل الذي يطرحه، فالتصويرية خاصية تهمّ العلاقة بين الموضوع التشكيلي وما يمثله، وهي تنمحي إذا لم تكن للوحة وظيفة تمثيل، أي إذا كانت هي نفسها موضوعًا. لذلك يقترح الانصراف بالاهتمام إلى التنظيم الدال فقط. والتنظيم الدال يتمحور حول قطبين في نظره هما: الحرف والسطر».

الفضاء التصويري

 هذا الفضاء هو مخالف للفضاء الأول (النصي)، لكنه «يعتبر مكملاً له من منظور أن ما نتلقاه لنقرأه بصريًّا ليس نصًّا، فبداخله يوجد سُمْك، وبالتالي اختلاف تكويني، ليس معطى للقراءة، لكن للرؤية، وهذا الممنوح للرؤية داخل النص هو فضاؤه الصوري، في حين أن الفضاء النصي هو الممنوح للقراءة (...)  هذا يعني أن الفضاء النصي يمنح أدلته للعين المسترسلة في القراءة ومسح المكتوب، في حين أن مكونات الفضاء الصوري تستدعي توقّف هذا الاسترسال، وتستلزم فترة زمنية أطول للإدراك. والسطر الذي يعتبر مكونًا أساسيًّا في الفضاء النصي الخطي، يتحول إلى عنصر في الفضاء الصوري بمجرد ما يصير غير قابل للتعرف، أي للقراءة. وفي المقابل يمكن أن يتحول السطر الذي يعتبر مكونًا أساسيًّا في الفضاء الصوري بمجرد أن يتلبس دلالة لسانية ممنوحة للقراءة. فهو في حالة الفضاء النصي عنصر كتابة، وفي حالة الفضاء الصوري عنصر تشكيل».

الفضاء الأيقوني

أما فيما يتعلق بالتعريف بـخصائص «الفضاء الأيقوني»، كثالث نوع من الفضاءات التي تحدثنا عنها سابقًا، والتي شكّلت أيضًا ملمحًا بصريًّا أساسيًّا، على المستويين التعبيري والجمالي، للعديد من التدوينات النصية في كثير من التجارب الشعرية البصرية العربية وغير العربية، فيمكن الاستئناس - في هذا الإطار - بما قدمته «جماعة مو» من اشتغالات أساسية وعميقة على العلامة الدالة، وبلاغة الصورة في الخطاب البصري، وخصوصًا من خلال كتابها Traité du signe visuel :Pour une rhétorique de l’image،  إذ يمكن مقاربة مسألة الأيقونية في النص الأدبي أو في غيره من الخطابات والفضاءات الدالة بصريًّا، بهذه الأسئلة التي طرحتها «جماعة مو» نفسها:

- متى تكون واقعة أو عملاً بصريًّا ما أيقونة؟ وهل لأن هذه الواقعة هي بمنزلة سلسلة من المنبهات البصرية؟ ما يقود كذلك إلى طرح سؤال آخر أكثر تعقيدًا والتباسًا في الوقت نفسه، أي: ما الذي يثير سيرورة الترابط بهذه المنبهات الخاصة بمرجع ما، وبصنف الشيء الذي يجعل من كل ذلك علامة؟ سؤال مثل هذا ليس ضروريًّا وسابقًا للتجربة: بحيث إذا التقيت بقطّ، لا أقول لنفسي عمومًا: «هذه أيقونة لصورة قط»، مثلما أورد ذلك لوسيان غولدمان.

ذلك يقودنا أيضًا إلى طرح مسألة الأيقونية، أو - بالأحرى - إلى «نقد فكرة أو مفهوم الأيقونية» في النص المشَكّل بصريًّا وفي خطاب الصورة وبلاغتها البصرية بشكل أساس، إذ طالما «طرح مفهوم الأيقونية مسائل عدة: بعضها منطقي وإبستيمولوجي، وبعضها الآخر تقني. وكل هذه المسائل مجتمعة ظلت لمدة طويلة تُرسخ هذا الاعتقاد في أن مفهوم «الأيقنة» كان في موضع شك، وأنه نتيجة لذلك كان ينبغي إخلاؤه من التنظير. ومن دون شك، فإن أمبرتو إيكو - يضيف تحليل «جماعة مو» -  هو من ذهب بعيدًا في نقد هذا المفهوم، وبالطريقة الأكثر والأشد برهنة. إذ يعود أكثر من مرة للنظر في هذا الموضوع. وقد انصب نقده على الأفكار والمفاهيم الساذجة الواردة في كل التعريفات الخاصة بالعلامة الأيقونية من خلال كلمات أو عبارات من قبيل: تشابه، تناظر، بواعث، حين كانت هذه المفاهيم تلحّ وتشدد على تشابهات الشكل أو المظهر الخارجي للعلامة والشيء الذي تمثّله.

الفضاء الشعـري

أما بالنسبة للفضاء الشعري، فيمكن الحديث عنه - ضمن الخصوصيات الفضائية، والتعبيرية، والجمالية نفسها للنص الشعري البصري - حين يصير هذا النص الشعري المكتوب أساسًا «تتابعًا لعلامات بصرية على مساحة معيّنة، وهذه العلامات لا تخرج عن نطاق الأدلة اللغوية. وبمجرد ما يباشر القارئ اتصاله بالنص المكتوب، تحتوي عينه النص في هيئته البصرية تلك، وفي كليته التي يضبطها توزعه الفضائي. هذه المباشرة الأولى تحدد الرغبة أو العزوف عن تحلّي تفاصيل التنظيم المكتوب أو المطبوع، وذلك باعتبار المظاهر التالية: (السعة - التنظيم - التناسق - نسبة السواد والبياض) ثم إن هذه المباشرة لا تحدد فقط الرغبة أو العزوف، بل تقدم للمتلقي مداخل متعددة لقراءة النص الشعري .

المصدر: 1

تابعونا على الفيسبوك

مواضيع تهم الطلاب والمربين والأهالي

حكايات معبّرة وقصص للأطفال

www.facebook.com/awladuna

إقرأ أيضًا                                         

رائحتك تدل على شخصيتك

الألوان في طعامنا

الخطاب في الرسوم المتحركة الموجهة للأطفال

في استرجاع عادة الاستعارة من الجيران

أسباب تجعل الطفل أنانياً

للمزيد

حدوثة قبل النوم قصص للأطفال

كيف تذاكر وتنجح وتتفوق

قصص قصيرة معبرة

قصص قصيرة معبرة 2

معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب

الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية

إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن

استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط

قصص قصيرة مؤثرة

مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم

تربية الأبناء والطلاب

مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات

أيضاً وأيضاً

قصص وحكايات

الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور

شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور

الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها

تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات

كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها

مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق