الأحد، 12 يناير 2014

• البائسون في عالم طه حسين بين الرواية والفيلم


نجحت السينما دوما في أن تمنح الروايات ما يسمى بقبلة الحياة، حتى تلك الأعمال الكبرى في تاريخ الأدب ومنها مسرحيات شكسبير وروايات دوستيوفسكي وتولستوي ونجيب محفوظ، وقد حدث الأمر نفسه بالنسبة للروائيين والأدباء الأقل أهمية.

قبلة الحياة هذه جعلت النصوص الأدبية تصل إلى ملايين المشاهدين على مر القرن العشرين، بينما لم يصل عدد القراء إلى هذا العدد يوما سواء الذين شاهدوا الأفلام في قاعات السينما أو في عروض التلفزيون، أو بالوسائل الإلكترونية المتعددة. وفي الزمن الذي أخذ الكثيرون من الكتاب أمجادهم معهم عند الرحيل، فإن الأفلام المأخوذة عن روايات لكاتب ما تبدو أفضل شاهد على أنه كان هناك مبدع وأن هذا نموذج من كتاباته، وقد حدثت أنواع عديدة من التماسات بين الأدب والسينما، فالأول منح الثانية الكثير من الأفكار الجادة، والنصوص المتميزة، وقد ساعدت السينما في ترويج الأدب، وتوصيله إلى جميع أنحاء الثقافات العالمية، واللغات. فالرجل العادي الذي شاهد قصص دوستيوفسكي على الشاشة، قد لا يهمه اسم المؤلف، لكن عينيه سوف تقعان حتما على اسمه.
تجربة للنقاش والجدل
وفي السينما العربية كانت تجربة الدكتور طه حسين مع السينما للنقاش والجدل، والتفتت السينما، وأيضا الدراما الإذاعية والتلفزيونية إلى أعماله بما يعني القصص التي وجدها كتاب السيناريو مناسبة لعصر الصورة الدرامية، منها ثلاثة أفلام سينمائية، والعديد من الدراما مثل: «أديب» و«الأيام» و«على هامش السيرة». 
المدهش أن طه حسين من أوائل من لفتت كتاباتهم المخرجين، حين قرر المخرج إبراهيم عزالدين إخراج فيلمه الأول، والوحيد «ظهور الإسلام» عن كتاب هو أقرب إلى فن السير القصصية باسم «الوعد الحق» لطه حسين.
الصورة التي نشرتها مجلة الكواكب (العدد التاسع) عام 1949 تشير إلى أن إبراهيم عزالدين، درس ومات في الولايات المتحدة، إلى جوار المخرج الأمريكي الكبير سيسيل ب دي ميل، وقد صرح المخرج بأنه تتلمذ على يدي دي ميل، ولا شك في أن تجربة إخراج الفيلم التوراتي قد وجدت هوى ملحوظا عند المخرج المصري الشاب آنذاك، وسعى إلى تنفيذ هذه التجربة في وطنه. كان دي ميل قد قدم العديد من الأفلام المستوحاة من قصص العهد القديم، مثل: «الوصايا العشر»، و«شمشون ودليلة»، وأفلام أخرى من الإنتاج الضخم.
وقرر إبراهيم عز الدين أن يحمل مسئولية الفيلم الديني التاريخي المأخوذ عن نص أدبي وحده، فقام بكتابة السيناريو، ورجع إلى الدكتور طه حسين لكتابة الحوار باللغة الفصحى. ورغم أن الفيلم يشير إلى أنه مأخوذ عن «الوعد الحق»، فإن أجواء الفيلم تؤكد أننا أمام عمل أقرب إلى أفلام دي ميل، من حيث التركيز على تعذيب المسلمين الأوائل على أيدي أسيادهم من رجال قريش، وذلك باعتبار أن موضوع تعذيب المؤمنين هو أكثر بروزا في العقيدة المسيحية، حيث كان يتم ذلك في الساحات الشعبية الواسعة وبشكل جماعي، بالإضافة إلى تركيز فيلم «ظهور الإسلام» على المطاردات الصحراوية. هاتان السمتان برزتا في الفيلم المصري الذي تأثر مخرجه كثيرا بعمله الطويل في السينما الأمريكية.
هذا الفيلم الذي قامت ببطولته كوكا وعماد حمدي وعباس فارس وسراج منير عرض على الناس عام 1951، وقيل إنه أول فيلم ديني في السينما المصرية، وهذه معلومة غير صحيحة باعتبار أن أول فيلم ديني مصري حمل عنوان «ابن عنتر» من إخراج أحمد سالم عام 1948، وفيلم إبراهيم عزالدين يصور العرب في أواخر عصر الجاهلية ومع ظهور الإسلام، حيث عاش العبيد إلى جوار الأسياد، يعبدون الأوثان، فلما جاء البشير كان العبيد هم أول من ساند الرسالة، وقد صور الفيلم حالة المجون والجهل الذي عاش فيه البعض، وهناك نموذجان من الأشخاص، الأول يتذرع بالإيمان مثل عمار بن ياسر، وبلال بن رباح، وعبدالله بن مسعود، أما على الجانب الآخر فهناك أبولهب وأبوجهل وسادة من قريش يتمتعون بمكانة اجتماعية مرموقة تدفعهم إلى إيذاء وتعذيب المؤمنين.
حين كان التاريخ أرستقراطيًا وحسب طه حسين، فإنه ركز أكثر من مرة في كتابه على مسألة أن هؤلاء الأشخاص الذين يقدمهم في الكتاب، ثم في الفيلم، قد دخلوا التاريخ بفضل اعتناقهم الإسلام: «كان التاريخ في ذلك الوقت، كما كان في أكثر الأوقات، أرستقراطيا لا يحفل إلا بالسادة ولا يلتفت إلا إلى القادة». وحسب الكاتب فإن هؤلاء العبيد قد صاروا من أعمدة التاريخ الإسلامي بعد أن دخلوا في الدين الجديد، فأمثال هذه الأسماء لم يحفل بهم أحد قبل الإسلام، وما إن ظهرت البعثة المحمدية حتى اتجه التاريخ نحو دار ابن أبي الأرقم التي شهدت ميلاد الدعوة.
أما موضوع التعذيب فهو عن علاقة بين السيد والعبد، فالأول يملك مقدرات التعذيب، بل إنه يملك مصير الشخص نفسه، ولذا فما إن يعصاه ويؤمن بالرسالة الجديدة حتى يكون التعذيب مصيره المحتوم، وقد حشر أبوجهل عمرو بن هشام رجاله من أجل تعذيب عمار بن ياسر وأبويه فوضعوهم في الحديد، وأشعلوا في دار ياسر النار، ويردد ياسر لزوجته سمية والقوم يدفعون بهم إلى حيث يحبسون
«انظري سمية هذه أول النار التي عرضتها علي الأحلام»، فيقول له ابن عمار (عماد حمدي): «ومن ورائها جنة فيها نعيم ورضوان للذين صدقوا أن استجابوا لما دعاهم إليه».
وفي الفيلم كانت سمية زوجة ياسر بن عمار هي أول شهيدة في الإسلام، وهناك أيضا سهيلة بنت سهيل زوجة أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة، التي كانت تنوي الهجرة مع أول فوج من أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى أرض الحبشة، وهي زوجة شديدة الإخلاص لزوجها، تخفي أمر إزماعها الهجرة عن أخيها عبدالله بن سهيل، والتي تقرر دعوته إلى الإسلام، وهناك مشهد حواري في الفيلم يدور بين المرأة وأخيها، علما بأن الفيلم لم يختر كل الشخصيات التي تحدث عنها المؤلف في كتابه.
نقاط مضيئة
وقد وقف الفيلم عند نقاط مضيئة في تاريخ الإسلام، منها الهجرة إلى يثرب، وفتح مكة، ودخول المؤمنين في دين الله بعد أن تخلى الأشراف عن صلفهم وجبروتهم، ومن هنا جاءت أهمية واحد من الأفلام الثلاثة المأخوذة عن الدكتور طه حسين.. إنها أفلام تمثل ثلاثة أنواع من الإبداع: الفيلم الديني - الصحرواي، والفيلم الريفي، والفيلم المدني.
الفيلم الثاني في قائمة طه حسين هو «دعاء الكروان» لبركات عام 1959، هو ريفي النوع، تدور أحداثه بين قرية صحراوية ومدينة صعيدية صغيرة. انتهت كتابة الرواية في عام حدوثها 1934 ونشرت عام 1942، وقد انتبهت إليها السينما في فترة ازدهار البحث عن نصوص أدبية تصلح للسينما، وخاصة الروايات الريفية. فالفيلم الأسبق لبركات هو «حسن ونعيمة» عن إحدى الملاحم الشعبية. وفي «دعاء الكروان» هناك تعاون بين المخرج والأديب القاص يوسف جوهر الذي كتب الكثير من القصص الريفية للأفلام، أي أن السينما في هذه المرحلة كانت تحتفي بالريف من جهة وبالأدب من جهة أخرى،
ورغم أننا أمام فيلم ريفي فإنه ليس قرويا، بمعنى أن الريف هنا أقرب إلى المدينة الصغيرة المفتوحة على العالم، فالناس ترتدي الملابس المدنية، كما أن العادات الاجتماعية تسمح للخادمة «آمنة» بأن تعيش داخل بيت المهندس، وتقيم هناك إقامة كاملة، وفي أغلب الأحوال، فهو ريف أوربي أكثر منه مصري، يتناسب مع ثقافة المخرج، ونحن لم نر الناس يمارسون شئون الزراعة. ورغم أن الشخصية الرئيسية هي لمهندس زراعي فلم نره قط في الحقل، وهمه الأساسي هو غواية الخادمات، وقد أفقد خادمة سابقة عذريتها هي الأخت الصغرى «هنادي»، التي قتلها خالها دفاعا عن الشرف في حضور الأم والأخت «آمنة»، التي تذهب في ما بعد إلى بيت المهندس لتعمل كخادمة بهدف الانتقام عاطفيا من المهندس، مما يعني الانتقام بالرومانسية.
و«آمنة» في الرواية (الفيلم)، تجلس تحت نافذتها ليلا، تتطلع إلى السماء، وهي تستمع إلى صوت الكروان وتناجيه وتحكي له قصتها مع أختها والمهندس. ومن الواضح أن جوهر كان يعود إلى الدكتور طه حسين ويقرأ عليه السيناريو، حيث تشير المراجع إلى أن المؤلف قد وافق على النهاية السينمائية التي تختلف تماما عن نهاية الرواية، فحسب هذا الجو الماجن وبعد أن هامت «آمنة» بالمهندس فقد وافقت أن تنتقل معه إلى المدينة الكبرى لتعيش معه عاشقة دون أي رباط شرعي لتلحق بمصير أختها،
أما في الفيلم فإن المهندس يغتسل من أدرانه المتلاحقة بأن يفادي حبيبته كي يتلقى الرصاصة التي صوبها الخال نحوها وسط صراخ «آمنة»، بينما قام رجال بالإمساك بالخال القاتل كي ينال جزاءه، وهو يقتل باسم الشرف للمرة الثانية.
من المعروف أن الأدباء الذين تأثروا بالثقافة الفرنسية قد رجعوا إلى نصوص قصصية فرنسية في كتاباتهم دون الإشارة إلى ذلك، مثلما فعل توفيق الحكيم مع نصوص مسرحية وقصصية، وإذا كنا قد توصلنا إلى معرفة أصول أعمال توفيق الحكيم بسهولة، فالأمر صعب للغاية بالنسبة للدكتور طه حسين، فمن الصعب مثلا معرفة أصول «دعاء الكروان» لكن يكفي أن نقول إن الأجواء التي عاشتها الخادمة «آمنة» مع المهندس في بيته هي أقرب إلى عادات الريف الفرنسي الأكثر انفتاحا عن الريف المصري المغلق، بدليل أن جرائم الشرف لا تنطفئ نيرانها إلا بالدم.
قبل أن ننتقل إلى الفيلم الثالث المأخوذ عن رواية للدكتور طه حسين والذي يعضد وجهة نظرنا، فإن قائمة أعمال الكاتب تتضمن نصوصا تعلن عن تأثره بثقافته الفرنسية. بالنسبة لرواية «الحب الضائع» فقد تم الالتفات إليها سينمائيا بعد نجاحها كمسلسل إذاعي رمضاني كتبه صلاح حافظ وأخرجه محمد علوان، بطولة عمر الشريف وصباح وسعاد حسني عام 1969 في إذاعة الشرق الأوسط، حيث اعتمد يوسف جوهر على الصياغة الإذاعية للمسلسل دون الرجوع للرواية، ببساطة لأنه ليس هناك أي صلة بين الفيلم ولا المسلسل والرواية، والذي حدث آنذاك أن الإذاعة أرادت الاستفادة من الشهرة العالمية التي حققها عمر الشريف، فذهب المخرج إلى استوديوهات الإذاعة في لندن وقام بالتسجيل مع عمر الشريف بشكل فردي، وقد أذهلت التجربة المستمعين في تلك الآونة. وسجل الممثل العالمي مسلسلين منهما «أنف وثلاث عيون»، وقد شجع هذا النجاح المخرج بركات ليقدم فيلمه الثاني مع كل من الدكتور طه حسين ويوسف جوهر، في فيلم قامت ببطولته سعاد حسني وزبيدة ثروت أمام رشدي أباظة.
فلاحتان.. مصرية وفرنسية
امرأتان تتناجيان في روايتين، المرأة الأولى هي الفلاحة المصرية «آمنة» في «دعاء الكروان»، أما المرأة الثانية فهي الفلاحة الفرنسية «مادلين مورل» في رواية «الحب الضائع»، التي تناجي الورق الذي تبوح له بقصتها التي تدور في السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، هذه الفلاحة من طبقة ريفية متوسطة في سن الرابعة عشرة من العمر، أي أن الرواية تبدأ أحداثها عام 1920: «كنت تلميذة تتهيأ للشهادة الثانوية، جادة في الدراسة وشغوفة بالعلم دائبة على التحصيل»، أتمت عامها الدراسي وظفرت بجوائز كثيرة ممتازة،
هي أصغر إخوانها سنا من بين أربعة إخوة وأخوات: «كانت أسرتنا راضية موفورة، ليست ذات ثروة ضخمة». أما أخواها فقد أراد أحدهما أن يرحل عن فرنسا والثاني إلى اليونان، والفتاة تعيش حياة تخلو من البهجة، لذا فهي تلجأ بين الحين والحين لتدوين خواطرها في الدفتر، وهي سعيدة حين يتقدم لخطبتها شاب «وأي فتاة مثلي لا تسعد بالتفكير في الخطبة والزواج فهي بالغة السعادة»،
تتزوج مادلين من مكسيم وتتفرغ لإسعاده وتنجب منه ابنها بيير. «لقلوب النساء سعة لا تعرفها قلوب الرجال فهي تستطيع أن تحب الولد إلى أقصى درجات الحب وأن تحب الزوج إلى أقصى درجات الحب»، إلا أنها تفاجأ بأن زوجها واقع في غرام صديقتها لورنس، وعندما تتكشف الأمور تقتل لورنس نفسها، وهي المرأة التي لم تستسلم بسهولة لعواطفها، فكم قاومت وغادرت المدينة ثم عادت إليها مجددا.
اختار الكاتب، لأول وآخر مرة، بيئة وأشخاصًا من هويات غير مصرية، لعل الكاتب عرفهم واستوحاهم من البيئة التي عاش فيها بعض سنوات، وتزوج منها، أتقن ثقافتها، ولا يعرف أحد بالضبط المصدر الذي استوحى منه طه حسين هذه الرواية، فهل هي مترجمة عن الفرنسية، وضلت طريقها إلى المطابع على أنها من مؤلفات الكاتب؟ فمن يقرأ الرواية ولديه دراية حقيقية بأعمال أندريه جيد، الذي كان صديقا لطه حسين، وقد ترجم له بعض أعماله إلى العربية مثل «الباب الضيق»، فسوف يكتشف أن هناك تشابها واضحا بين أجواء الرواية وإبداعات جيد، ومنها «اللاأخلاقي» التي تعتبر سيرة ذاتية للكاتب وبطلتها تسمى مادلين أيضا.
ورغم تشابه الأسلوب والحكي والموضوع والأشخاص، فلا يتصور أحد أن ينسب الكاتب المصري إلى نفسه تأليف رواية كتبها جيد، وذلك حفاظا على روح الصداقة بين الكاتبين، وأغلب الظن أن طه حسين ألف روايته متأثرا بصديقه، والغريب أن طه حسين نفسه أو أحدا ممن عملوا معه في السكرتارية لم يقوموا قط بالكلام في هذا الشأن. كما أن من درسوا طه حسين لم يقتربوا قط من هذه المنطقة ولن يتقبلوا ما جاء هنا بسهولة.
على كل فكاتب المسلسل الإذاعي «الحب الضائع» قد كتب من عندياته نصا ليست له علاقة برواية طه حسين، وهو النص الذي اعتمده يوسف جوهر دون أن يهمه قط موضوع الرواية، فالقصة أبطالها فرنسيون وأحداثها تدور بين باريس وجرينوبل، أما الزمان فهو العقد الثالث من القرن الماضي، بينما الفيلم المصري يدور بين القاهرة وتونس في أواخر ستينيات القرن العشرين حول كل من الصديقتين ليلى وسامية اللتين تتزوجان في توقيت متقارب وبعد فترة من الوقت تعود ليلى من تونس عقب رحيل زوجها المريض وتجد تعاطفا من مدحت زوج سامية فتنجرف في علاقة حب معه مما يصدم الزوجة التي تهجر البيت في صحبة وليدها وتذهب إلى أبيها في الإسماعيلية، بينما تقرر ليلى أن تنتحر بسبب خيانتها لصديقتها.
يوسف جوهر الذي ذهب لاستشارة طه حسين وهو يكتب «دعاء الكروان» لم يجد، بالتأكيد، وقتا للذهاب إلى طه حسين، وقد غلبه المرض والشيخوخة وهو الذي كان يتدخل في فيلميه السابقين.
على كل فنحن أمام ثلاثة أفلام عمَّقت من مفهوم المأساة التي يعيشها أبطال طه حسين في كل أعماله الأخرى، وقد تباينت الأهمية الفنية للأفلام، وتم اختيار «دعاء الكروان» كواحد من أهم مائة فيلم في السينما المصرية.
 محمود قاسم



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق