ليس
من شك في أن قيمة العذاب والألم في الحب هي إحدى ركائز الأدب الرومانتيكي، وهي
تخلق قرابة بين هذا الأدب وشعر العذريين...
فالرومانتيكية
مدرسة تقوم على فلسفة العاطفة، وتعنى بالفرد في آماله ونزعاته، وتحصر جل همها في
الكشف عن النواحي الذاتية... وأوسع مجالات الشعر الرومانتيكي هي مجال الحب الذي
كان طابعه العام الحزن والشكوى من عدم وفاء الحبيب، وقلما كان يعنى الرومانتيكي
بلذائذ الحب الحسية، وإنما كان حبه عاطفيا حالما، يمتاز بأنه يضيق بالعقبات التي
تعترض طريقه، ويثور عليها، ولو كان مصدرها القوانين أو نظم المجتمع...
فالأدب
الرومانتيكي إذًا، يصف الكوارث العاطفية، وضياع آمال الحب.
شعر
العذري في هذا السياق وطيد الصلة بالأدب الرومانتيكي، ذلك أنه يصف الكوارث
العاطفية، وضياع آمال الحب نتيجة رحيل الحبيبة، ويركز على الذات المتألمة الحزينة
التي تشكو من غدر الحبيبة، ومن قهقهات
العذال والكاشحين...
يقول
الملك الأمجد في قصيدة رائية من البسيط والقافية من المتراكب مشيرا إلى الألم
وضياع آمال الحب بعد بين الحبيبة:
أحبَّةٌ
رحلوا فالدمعُ مستبــــقٌ من
مقلتيَّ علـى الآثارِ يَبْتَدِرُ
فِي
مَنْزِلٍ تُرْبُهُ، مِنْ بَعْدِ مَا ذَهَبَتْ
كرُّ السنينَ على أصحابهِ، عَطِرُ
لا
ذنبَ لِي عِنْدَ مَنْ رَثَّتْ عهودُهُمُ
إلاَّ بوادرُ شيــبٍ جَرَّهُ الكِبَرُ
السقام والنحول
"سئل
حماد الراوية عن الحب، ما هو؟ [فأجاب]، الحب شجرة أصلها الفكر، وعروقها الذكر،
وأغصانها السهر، وأوراقها الأسقام، وثمرتها المنية .
وقال
معاذ بن سهل: الحب أصعب ما ركب، وأسكر ما شرب، وأفظع ما لقي، وأحل ما اشتهي، وأوجع
ما بطن...، وهو كما قال الشاعر [من الطويل والقافية من المتواتر]:
وَلِلْحُبِّ
آفاتٌ إِذا هِيَ صَرَّحَتْ تَبَدَّتْ
عَلامَاتٌ لها غُوَرٌ صُفْرُ
فباطِنُهُ
سُقمٌ وظاهِرُهُ جَــوًى وأَوَّلهُ
ذِكـــرٌ وآخِرُهُ فِكْرُ
وربما
تكون آفات الحب المتعددة، هي التي دفعت ابن الجوزي إلى الميل مع الرأي القائل بأن
الحب"...هو مذموم، لأنه يستأسر العاشق، ويجعله في مقام المستعبد..."
التشوق والتذكر والحنين
يبدو
الملك العذري في ديوانه شديد "التشوق والتذكر لمعاهد الأحبة وأيام الوصال
بالرياح الهابة، والبروق اللامعة، والحمائم الهائمة، والخيالات الطائفة، وآثار
الديار العافية... "، ويرى قدامة بن جعفر أن تلك الأمور إذا ذكرت تكون أدلة
على عظيم الحسرة.
الإخلاص والوفاء والصدق
الوفاء
والإخلاص في الحب من سمات العذرية. فالوفاء من سرّي النعوت ونبيل الصفات كما أن
الغذر من ذميمها ومكروهها، يقول ابن حزم: "ومن حميد الغرائز وكريم الشيم
وفاضل الأخلاق في الحب وغيره الوفاء، وإنه لمن أقوى الدلائل وأوضح البراهين على
طيب الأصل..."
الكتمان
والوفاء
أصالة
حبه وديمومته
السلو
والصبر والحرارة الملتهبة
ألعفة
"ألعذريون
هم هؤلاء الذين دعاهم الجمال، وأغرتهم اللذائذ، وثارت في نفوسهم الشهوات...،
ولكنهم انعتقوا عن هذه الشهوات، وانصرفوا عن هذه اللذائذ، وتحصنوا بالعفة، ولذلك
لم يخشوا أن يعبروا عن عواطفهم هذه ما دامت البراءة تكسوها والعفة تملاها...فانطلقوا
يغنون عواطفهم وينشدون آلامهم وآمالهم"، لقد انطلق الحب العذري، إذا، من اسار
الغريزة، ليعيش في آفاق العفة.
فالعفة
سمة من سمات الحب العذري، وقد امتدحها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "من
عشق فعف فكتمه فمات فهو شهيد".
فصفة
العفة هذه شديدة الانطباق على الشعر العذري الأمجد الذي يعتبر روحيا، لا أثر فيه
لمطالب الجسد، وإن كان فيه أثر ضئيل لوصف الجسد.
عفة أم مجون؟!
لوحظ أن بعض الدارسين رفض وصف العذريين بالعفة... ووصفهم
بالمجون..."ما أكثر ما احتالوا ليدخلوا بيوتاً غير بيوتهم، فيقضوا فيها وجهاً
من الليل أو طرفاً من النهار، يسمرون ويتحدثون مع من يحبون في بيوت أزواجهن! وما
أكثر ما أرسل أحدهم صاحبه رسولاً إلى صاحبته!... وذلك سلوك يبدو بعيداً عن التقوى
بالمعنى الدقيق، وإن كان هذا لا ينقض ما عرف عن هؤلاء من عفة وتقوى في حدود صلاتهم
بمن يحبون"...
فالباحث عبد القادر يلاحظ أنّ العذرية بقدر ما فيها من العفة
والنقاء، فيها ضرب من المجون والشبقية، ولكن لا يذهب مذهب جلال العظم حين رأى
أنّها إباحة وتطاول على مؤسسة الزواج، وإنّما جوهرها عفة ونقاء، لأنها إفراز ومذهب
"طائفة من المسلمين كانت تتحرج، وتذهب مذهب التقوى، وتؤثر السلامة والعافية
على المغامرة والمخاطرة، وترى أن النفس أمارة بالسوء، وأنّ النار قد حفت
بالشهوات... ولذلك آثرت هذه الطائفة أن تعدل عن شهواتها، فكانت مثلاً واضحاً
للتربية الإسلامية في سمّوها وتعاليها"...وهو مذهب تؤكده الكثير من الروايات
التاريخية في تراجمها لشعراء العذرية. روى "أبو الفرج" "أن أمة سعت
لبثينة بها إلى أبيها وأخيها، وقالت لهما:... جميل عندها الليلة، فأتياها مشتملين
على سيفين، فرأياه جالسا... يحدثها ويشكو إليها بثه، ثم قال لها: يا بثينة، أرأيت
ودي إياك وشغفي بك؟ ألا تجزينيه؟ قالت: بماذا؟ قال: بما يكون بين المتحابين، فقالت
له: يا جميل، أهذا تبغي، والله لقد كنت عندي بعيداً عنه، ولئن عاودت تعريضاً بريبة
لا رأيت وجهي أبداً. فضحك وقال: والله ما قلتُ لك هذا إلا لأعلم ما عندك فيه، ولو
علمت أنك تجيبيني إليه لعلمت أنك تجيبين غيري، ولو رأيت منك مساعدة عليه، لضربتك بسيفي
هذا ما استمسك في يدي، ولو أطاعتني نفسي، لهجرتك هجرة الأبد، أو ما سمعت قولي:
وإنِّي لأَرْضَى مِنْ بُثَيْنَةَ
بــالَّذي لَوْ أَبْصَرْهُ
الوَاشِي لَقَرَتْ بَلاَبِلُهُ
بِلاَ وَبأَنْ لا
أَسْتَطيْعُ وَبالمُنَــى وبِالأَمَلِ المَرْجُوِّ قَدْ خَابَ آمُلُـهُ
وَبِالْنَّظْرَةِ العَجْلَى وَبِالحَوْلِ تَنْقَضِي أَوَاخِرُهُ لا نَلْتَقِي وَأَوائِلُــــهُ؟!
قال: فقال أبوها لأخيها: قم بنا، فما ينبغي لنا بعد اليوم أن نمنع
هذا الرجل من لقائها، فانصرفا وتركاهما"، وهي رواية تؤكد عفة العذريين
وطهارتهم، وتنفي عنهم الشبقية التي نسبها إليهم "جلال العظم"، وسعيهم
إلى هدم مؤسسة الزواج، وإن كانت تشير إلى العلاقة التي تنم عن ريبة، ولكنها لا تصل
إلى درجة الشك في نقاء العذرية وصفائها، بل تؤكد هذه العفة والطهارة. يضاف إلى
ذلك، أنّ هناك روايات تنفي الأساس الذي بنى عليه "جلال العظم" قراءته من
أنّ العذريين كانوا يقصدون إلى التشبيب بمحبوباتهم، حتى يشيع ذلك في القوم، فيحرم
عليهم -بحسب العرف- الزواج منهم. فهناك أخبار تؤكد أنّ "جميل" مثلاً، خطب بثينة قبل
التشبيب بها، فمنع -فقام فشبب بها حتى اشتهر وطرد. روى "الأصفهاني "عشق
جميل بثينة وهو غلام، فلما بلغ، خطبها، فمنع منها، فكان يقول فيها الأشعار، حتى
اشتهر وطرد، فكان يأتيها سراً، ثم تزوجت، فكان يزورها في بيت زوجها في الحين خفية،
إلى أن استعمل "دجاجه بن ربعي" على وادي القرى فشكوه إليه، فتقدم إليه ألا يلم بأبياتها، وأهدر دمه لهم إن
عاود زيارتهم، فاحتبس حينئذٍ"، وهي رواية تؤكد أنّ التشبيب وقع من جميل بعد
أن خطبها، فمنع من الزواج منها.
والملاحظ أنّ قراءة جلال العظم للظاهرة العذرية، لم تنطلق من النص العذري
لتؤكد ما تذهب إليه، إنّما تعاملت مع الروايات التاريخية، وبخاصة ما ورد من قصص
وأخبار في تراجم الشعراء العذريين...
إنّ القصص العذري، والكثير من الأخبار التي وردت في الترجمة لشعراء
العذرية فيه من النحل والإضافة الشيء الكثير، وكان لخيال الرواة الدور الأساسي في
صنعها، ما يجعل الدارس يدرك أنّه ليس كل ما نقل من أخبار العذريين موثوقاً فيه،
ولا سيما أننا نلاحظ أنّ الكثير من هذه الأخبار تنطوي على تناقضات في أحداثها،
لذلك تذهب إلى الحكم بنفي العفة والطهارة عن العذريين...
إعـداد:
د. أنـور الموسـى
كلية
الأداب/ الجامعة اللبنانية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق