الأحد، 5 يناير 2014

• الحب العذري.. أصله، صفاته، شعراؤه


حفظ التراث العربي أسماء عدد من العشاق الذين أودى بهم عشقهم، أو دفع بهم إلى الجنون، ونسجت الأقاصيص حولهم، وصيغت الحكايات الطريفة بطرائف إخبارية تحولت إلى سلسلة من القصص المتتالية التي لا تفرق بين الخبر التاريخي والقصة المسوقة، في جو من الملابسات التاريخية توخيا للإقناع بواقعيتها...

 لقد نظر إلى الهوى على أنه عاطفة يشوبها الغموض، وهي تسوغ كل شيء، ويصدق فيها كل قول، ويمكن أن تحدث بسببها الأعاجيب، وعد الهوى العذري ضربا من الضعف النفسي، أو هو استرسال مع شعور غير متزن يدفع بأصحابه إلى نوع من الاستعباد للحب الذي هو مرض وسواسي شبيه "بالماليخوليا"، يجلبه المرء إلى نفسه بتسليط فكره على استحسان بعض الصور، والذي غالبا ما يؤدي إلى الجنون والذل...
وبالنتيجة، فقد كثرت أسماء العشاق وأخبارهم، واختلطت المرويات باختلاط هذه الأخبار وأبطالها، وكثيرا ما تحول الخبر الساذج إلى قصة مركبة ممتدة المراحل، ومع هذا؛ فإن روايتها تستمر في شكل غير محدد السند...
ولقد اشتهر في مجال العشق العذري شباب بني عذرة؛ فعذرة كانت قبيلة لها أعمال مجيدة في أيام العرب، ورجالها من أفصح الرجال، وتروى الحكايات والقصص عن اشتهارهم بحبهم ورقتهم، ومن هذه الروايات ما رواه ابن قتيبة: "قيل لأعرابي من العذريين: ما بال قلوبكم كأنها قلوب طير تنمّات كما ينمّات الملح في الماء؟ أما تجلّدون؟! قال: إنا لننظر الى محاجر أعين لا تنظرون إليها! وقيل لآخر: ممن أنت؟ فقال: من قوم إذا أحبوا ماتوا، فقالت جارية سمعته: عذري ورب الكعبة!
 فما هو الحب العذري الذي ينسبونه إليهم؟
الهوى العذري ليس في الحقيقة سوى حب يؤدي بصاحبه إلى الهزال والاصفرار والنحول ثم الموت، وهو حب طاهر، لا يعترف بحق الجسد وشهواته وتمتعه بلذات الحب، والحبيب العذري حبيب رقيق، صادق في حبه حتى الموت، تضرب به الأمثال، لا يسمن لأنه لا يأكل، ينهش داء السل رئتيه نهشا، وما داؤه في الحقيقة غير العشق. أما دواؤه فهو الحبيب المعبود".
هذا هو الحب العذري، أما الشعراء العذريون الذين ذاقوا هذا الحب واكتووا بنيرانه، وغذوا منه أرواحهم وخيالهم، فهم من لحم ودم قد وجدوا في التاريخ حقا، ولم يشك أحد في وجودهم اللهم إلا مجنون بني عامر...، وقد عرفهم صدر الإسلام شخصيات أدبية معروفة لها وزنها واعتبارها، وأشهرهم: جميل بثينة، ومجنون ليلى، وقيس بن ذريح، وعروة بن حزام، ومنهم من ينتمي إلى قبيلة بني عذرة، ومنهم من ينسب حبه إلى الحب العذري لاشتهاره بالطهر والعفة وما شاكل كل هذه الصفات...
غلبة طابع الألم...
"إن الحب العذري، قبل كل شيء، ضنًى Langueur، وإن العاشق العذري جدّ شقي، ويعدّ هذا جزءا من عذاب الحب الذي هو المحرك المستديم والخفي للمأساة التي تمثل في نفس الشاعر المسرح الحقيقي للأحداث؛ لأن العالم الخارجي قلما يؤبه له، أو أنه ليس سوى ذريعة أو فرار.فلا نعجب إذا من تكرار ذكر العذاب، المضني أحيانا"
"ومن المسلم به لدى الجميع أن المرء لا يستحق لقب العاشق إذا لم يكتو بنار الحب، وإلا يكون قد رفع إلى مرتبة العاشق ادعاء".
وللألم مكانة بالغة عند العذريين، يقول صادق جلال العظم: "يتميز الحب الذي ترك أثرا مهما في تاريخ الإنسان وأدبه وفكره، بكونه شقيا تعسا يائس. إنه الحب الذي لا يعرف النهايات السعيدة؛ لأنه دوما حليف الماسي وقرين الموت والدمار والخراب. أما الحب المتوج بالسعادة المستمرة والاكتفاء الدائم، وإن كان له ثمة وجود على الإطلاق، فإنه لم يلهم إلا فيما ندر"...
إعـداد: د. أنـور الموسـى
كلية الأداب/ الجامعة اللبنانية



هناك تعليق واحد: