في هذا الكتاب تتحدث
الوثائق بلغة جافة وتقريرية ولكنها دقيقة، فيمن خلال الوثائق التي تكشفها الحكومة
البريطانية كلما مر عليها 30 عاماً نستطيع أن نكتشف الرؤية التي كان يمثلها هذا
الاحتلال الجاثم على المنطقة في ذلك الوقت. ورغم الصبغة الاستعمارية التي تسود هذه
الوثائق فإنها في حالة دولة الكويت تقدم الدليل والبرهان على تمايز حدود هذه
الدولة وعدم تبعيتها لأي دولة أخرى في المنطقة منذ أن نشأت وتطورت من إمارة
عثمانية إلى دولة مستقلة.
يبدو أن هذا الكتاب قد
جرى تأليفه على عجل حتى يمكن للناشر والمؤلف أن يجاريا تتابع الأحداث التي تمخضت
في النهاية عن "أم المعارك" في المصطلح العراقي أو "عاصفة
الصحراء" في المصطلح الأمريكي. حقيقة أن المؤلف قد كرر في أكثر من موضع أنه
لا يميل إلى جانب دون الأخر متوخيا الموضوعية في عرضه أو استعراضه، إلا أن
الموضوعية لا تعنى فيما تعني تلخيص وجهات النظر المتعارضة، بل على المؤلف في مثل
هذه الموضوعات الخلافية أن يقطع برأيه كل ضوء المادة المتاحة والسياق العام
للأحداث. لقد حاول المؤلف أن يتتبع جذور النزاع العراقي - الكويتي الذي ظل دون حسم
طوال سبعين عاماً، وذهب إلى أن كتابه لا يعدو أن يكون دراسة (وأنا أتحفظ على هذه
التسمية) التي تعتمد على الملفات والتقارير البريطانية والعثمانية والعراقية
وخرائط المنطقة، وقد لاحظت أن معظم المادة الوثائقية التي أوردها المؤلف لا تحتوي
على وثيقة عثمانية أو عراقية أصلية بعكس ما يوحي به من أن وجهات النظر العثمانية
والعراقية المتصلة بالموضوع قد وردت في سياق التقارير والمراسلات التي كان
يتبادلها المسئولون البريطانيون، هذا إلا أن الوثائق التي أوردها المؤلف، مع شروح
مقتضبة لا تصل إلى مستوى الدراسة قد سبق نشرها في عام 1988 في مجلدين.
إلا أنه قد ظهرت قبل
وخلال أزمة أم المعارك - عاصفة الصحراء - مؤلفات تبرر أو تفند ادعاء العراق بالحق
التاريخي في الكويت وهو ادعاء عفى عليه الزمن، إذ إن سيطرة دولة ما على دولة أخرى
في قديم الزمان لا يعطيها الحق في وضع يدها عليها في عصر توجد فيه منظمات دولية
لها قوانينها ومبادئها التي تحول دون السعي إلى ضم أراضي الغد بالقوة المسلحة ولا
تعترض على قيام اتحاد أو وحدة بين بلدين أو أكثر إذا ما كان هذا يتجاوب مع رغبات
شعبية واضحة. ومما يجدر ذكره بهذا الصدد أن العراق لم يسبق له أن سيطر على الكويت
بعد ظهورها ككيان قائم بذاته.
الإضافة الوحيدة التي
أوردها المؤلف هي إفادته بما قامت به الدوائر البريطانية في عام 1960 حين سمحت
بالاطلاع على أوراقها الرسمية حتى هذا التاريخ طبقاً لما درجت عليه من عدم السماح
بالاطلاع على وثائقها قبل مرور ثلاثين عاماً عليها، ولو أنها تحتجز منها لأسباب
تتعلق بعلاقات بريطانيا الدولية وأسرار سياساتها التي لا يصح الإفصاح عنها، ونظراً
لأن مختلف الحكومات العربية لا تهتم بتنظيم الوثائق وقد لا تسمح بالاطلاع عليها
لأسباب أو لأخرى فلا غنى - والأمر كذلك - عن اللجوء إلى الوثائق البريطانية التي
تعوض بعض هذا القصور، وذلك بالرغم مما يقال عادة من أنها لا تخدم إلا وجهات النظر
البريطانية، ولو أن بإمكان الباحث الجاد أن يستعملها هي وغيرها ثم يستخلص ما يراه
مناسباً من الأحكام، هكذا نجد المؤلف يورد بعض الوثائق البريطانية التي تعرض
لبوادر الأزمة التي أثارها عبد الكريم قاسم في أوائل الستينيات حين استرسل في
الادعاء الذي أخذت به الحكومات العراقية السابقة حين ذهبت إلى أن الكويت هي
"اللواء السليب" الذى كان تابعاً لولاية البصرة العثمانية قبل أن تفصله
بريطانيا من "الوطن الأم" - العراق - جرياً منها وراء أطماعها
الإمبريالية، وهو نفس الادعاء الذي شكل حجر الزاوية بالنسبة إلى توجهات الرئيس
العراقي صدام حسين الذي غزا الكويت وأعلن ضمها إلى العراق باعتبارها المحافظة
التاسعة عشرة ليسعى إلى طمس هويتها مما أثار أخطر أزمة تعرضت لها منطقة الخليج
والأمة العربية في التاريخ الحديث والمعاصر.
الاختباء خلف الحل القومي
لم يكن ما ذهب إليه
قاسم وصدام بالشيء الجديد، إذ رددت حكومات العراق منذ قيامها على أنقاض الدولة
العثمانية نفس هذا الادعاء، وقد رفضت ترسيم الحدود بين العراق والكويت بل وأصر
صدام على أنه لابد من أن تحل هذه المسألة "حلاً قومياً"، بمعنى أن
العراق والكويت ينتسبان إلى وطن أكبر، مما يبرر ضم هذا الجزء أو ذاك من أراضي
الكويت، وقد أدى النزاع على الحدود بين العراق والكويت إلى اختلاف تفسيرات نصوص
العديد من الاتفاقات التي تمت بهذا الصدد، ولو أنه لا يصرح بالسبب الرئيسي لهذا
النزاع، وهو تطلع العراق إلى ضم الكويت أو اجتزاء بعض أراضيها، سواء عن طريق
التغلغل السلمي أو باللجوء إلى القوة المسلحة دون اعتبار لرغبات الكويتيين الذين
تشكلت لهم مصالح خاصة بعد اكتشاف النفط في أراضيهم.
حتى عام 1961 الذي
استقلت فيه الكويت استقلالا تاما والتحقت فيه بالجامعة العربية ثم بهيئة الأمم
المتحدة وتمتعت باستقلال إداري وخضعت في علاقاتها الخارجية للنفوذ البريطاني شأنها
في ذلك شأن مصر منذ الاحتلال البريطاني الذي تم في عام 1882، وحتى اتفاقية الجلاء
الموقعة في عام 1954، وأساس وضع الكويت حتى عام 1961 كان يستند إلى المعاهدة
السرية التي وقعت بين بريطانيا ومبارك الصباح في 23 يناير 1899 وتعهد مبارك
بمقتضاها - عن نفسه وخلفه وورثته - بألا يتنازل هو وخلفاؤه عن أي جزء من أراضيه أو
يبيعه أو يؤجره أو يرهنه لأي دولة أجنبية أو يسمح لها باحتلال الكويت، كما تعهد
بألا يستقبل ممثل أي دولة أجنبية دون الحصول على موافقة بريطانيا التي تعهدت أن تبذل
له مساعيها الحميدة، وكان مبارك الصباح يرفع العلم العثماني مفسرا ذلك بأنه وجد
والده رافعا العلم العثماني باعتباره علماً إسلامياً دون أن يعني هذا إقرارا
بسيطرة العثمانيين أو حمايتهم، كما قبل رتبة القائمقام لكي يحافظ على أملاكه
وأملاك أسرته في البصرة والفاو، خاصة أن القانون العثماني كان يحظر على الأجانب
امتلاك الأراضي داخل الدولة.
وفي عام 1913 جرى توقيع
الاتفاقية الإنجليزية - التركية التي اعتبرت الكويت قضاء عثمانياً يتمتع
بالاستقلال الذاتي تحت السيطرة العثمانية بشرط ألا تتدخل الدولة العثمانية في
الشئون الداخلية للإمارة ومنها وراثة العرش، وألا تمارس أي احتلال عسكري للأراضي
الكويتية. وهكذا فقد أضفت اتفاقية 1913 على حاكم الكويت قدراً من السيادة
والاستقلال على أراضيه، وعززت ارتباط الكويت ببريطانيا بعد أن اعترفت الدولة
العثمانية بكل ما نصت عليه الاتفاقات المعقودة بين الكويت وبريطانيا، وتمتع شيخ
الكويت بالاستقلال في ظل كل من السيادة العثمانية والحماية البريطانية دون أن
تتحول أراضي الكويت إلى محمية، بحيث كان بإمكان الشيخ أن يقوم أحياناً بمراسلة
إمارة نجد مباشرة وأحياناً ما كانت الحكومة البريطانية تنوب عنه في القيام بذلك.
أخطاء بسيطة
ولم يتم التصديق على
اتفاقية 1913 بسبب نشوب الحرب العالمية الأولى واشتراك القوات الكويتية في الحملة
التي أنفذتها بريطانيا إلى العراق، وبذلك انتهت السيادة العثمانية على الكويت، وفي
أغسطس 1914 أعلن مبارك ولاءه للحكومة البريطانية بالنيابة عن نفسه وعن قبائله،
ووضع رجاله وجهوده وشعبه تحت تصرف بريطانيا، وأبدى رغبته في طرد الحاميات
العثمانية الموجودة في الجزر الواقعة عند مدخل شط العرب التي اعتبرها تابعة له، ثم
تمت هزيمة تركيا وتخليها عن كل الأراضي التي كانت تسيطر عليها في ظل الإمبراطورية
العثمانية وبضمنها المنطقة العربية، واعترفت بريطانيا بالكويت باعتبارها إمارة
مستقلة تحت الحماية البريطانية، وفي عام 1921 اعترفت بالحدود التي تقررت بين
الكويت ومملكة العراق التي ظهرت إلى حيز الوجود. فقد اعترف المندوب السامي
البريطاني على العراق - نيابة عن الحكومة البريطانية - بمطالبة الكويت بالحدود
التي نص عليها اتفاق 1913 الذي لم يبرم. وفي عام 1932 قبل رئيس وزراء العراق نوري
السعيد هذه الحدود التي لم ينشر فحواها، وذلك في تبادل للرسائل جرى بينه وبين حاكم
الكويت الشيخ أحمد الجابر بوساطة الوكيل السياسي البريطاني في الكويت. ومنذ ذلك
الوقت لم توقع اتفاقية أخرى بين الكويت والعراق حول الحدود، فعبثا حاولت الحكومة
البريطانية حث الحكومة العراقية على ترسيم الحدود، إذ أبدت الدوائر العراقية عدم
استعدادها للتخلي عن مطالبتها بكل الكويت إلا في مقابل ميزة دائمة مشيرة إلى أن
الكويت كانت تشكل جزءاً لا يتجزأ من لواء البصرة، وكان رفض الحكومة العراقية تخطيط
الحدود مع الكويت يستند إلى أن رسالة نوري السعيد المؤرخة 21 يوليو (تموز) 1932 قد
كتبت في وقت سابق على تحقيق العراق لاستقلاله الكامل.
وليد
حمدي الأعظمي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق