الأربعاء، 19 يونيو 2019

• الحرب العالمية الثانية انتهت


محاولة اغتيال هتلر
لا تزال صفحات الحرب العالمية الثانية مفتوحة. ربما لأن البشرية لم تتخلص بعد من هذا الوباء. ولم تستفد من دروس التاريخ. إن هتلر الذي كان رمزا لهذه الحرب ما زال يعيش بيننا بشكل أو آخر. وتلك الأنظمة الشمولية التي تصنع أمثال هذه الحروب ما زالت قائمة أيضا.

في مطلع حياتنا، كانت بلاد الشام نهبا مقسما بين الدولتين الاستعماريتين، فرنسا وإنجلترا. وكنا نحن السوريين "من الإقطاعية" الفرنسية، منذ أن جاءتنا فرنسا عام، 1920 في أعقاب الحرب العالمية الأولى، تحمل في يمناها أسلحة دمار عصرية لم يكن لنا قبل بالوقوف في وجههـا، وترفع بيسراها صكا دوليا انتزعته من "عصبة الأمم" في جنيف، يعترف لها بالانتداب علينا، لإدارة شئوننا العامة، الداخلية والخارجية نيابة عنا، حتى نصبح ذات يوم قادرين على أن ننهض بأعباء السيادة القومية!..
وتعبير "الانتداب" لفظ مهذب اقترحه الجنرال "سمطس" رئيس وزراء جنوب إفريقيا على اللجنة الحليفة التي شكلها المنتصرون على ألمانيا والدولة العثمانية، لتقسيم أملاك المنهزمين غنائم حرب، كي يحل عل لفظ "الاستعمار"، الذي رفضه الرئيس ولسن الأمريكي، وأقرته العصبة الدولية؟ مستغلة انسحاب أمريكا من المصطرع الدولي، لأسباب داخلية خاصة بها.
وظل هذا "الانتداب" احتلالا عسكريا بغيضا، جاثما على كرامتنا وضمائرنا ربع قرن، وقد قاومت البلاد بقضها وقضيضها، بالثورات الدامية والاضطرابات حينا؟ وبالمفاوضات والمناورات حينا آخر؟ هذه القوة العاتية؟ حتى انتزعت منها الاستقلال الناجز عام 1945، مستفيدة من الجو الدولي المواتي؟ الذي ساد العلاقات الدولية؟ في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وانتصار المعسكر الغربي الذي كانت تقوده أمريكا- على دول المحور التي كانت تقودها ألمانيا في الغرب واليابان في الشرق الأقصى.
وكنا خلال سنوات الانتداب نكن كراهية لا مزيد عليها للدولة المنتدبة، كرد فعل إنساني مشروع ومنسجم مع الطبيعة البشرية؟ كما يكره كل مظلوم ظالمه... سنة الله في خلقه، ولن تحد لسنة الله تبديلا.
وشاءت إرادة الله أن نشهد مصارع الدولة التي أذلتنا، في عاصمتها ونحن طلاب في جامعتها، حين اجتاحتها جيوش هتلر عام 1940 دون أن تطلق عليها، من شرفة من الشرفات، رصاصة واحدة !..
وفي الشانزليزيه- أطول شوارع باريس وأعرضها وأحلاهـا بهاء وأنضرها خضرة- وقفت أشهد تدفق مئات ألوف من الجنود الألمان؟ يمرون في عرض عسكري مهيب وفي ضربة رجل واحدة، عل مدى ساعات طويلة، وأنا مستمتع ومستعبر! ولم يكن الفرنسيون الذين كانوا هناك يشهدون حدثا تاريخيا موجعا، أقل دهشة مني، ودموع بعضهم كانت تسح على خدودهم وذقونهم...
وفي دمشق تحركت شاعرية بدوي الجبل، فقال:
نبئت باريس تشكو زهو فاتحها      هلا تذكرت يا باريس شكوانا
عشرين عاما شربنا الكأس مترعة    من الأذى، فتملي صرفها الآنا
ومع ذلك كنا نفوق دوما بين العسكرية الفرنسية المتغطرسة التي نمقتها، وبين الشعب الفرنسي، الذي عشنا سين بين ظهرانيه وفي تهذيبه، ونهلنا من ثقافية الرفيعة، وحملنا إلى بلدنا أغصانا وارفة من حضارته، ووجدنا بين علمائه وفقهائه أنقياء أوفياء لفلسفة ثورتهم الكبرى عام 1789، كانوا يقفون إلى جانب الحق ومبدأ حرية الشعوب المضطهدة. غير أن هذا الجانب الإنساني في الشخصية الفرنسية، لم يكن قادرا على أن يمحو من أذهاننا مآسي العسكرية الاستعمارية في الوطن العربي، من محيطه إلى خليجه.
هتلر ينتصر
ومن منطلق أحزان أمتنا، تبلورت مشاعرنا على مقت المحتلين والاغتباط لأنباء الانتصارات العسكرية الألمانية، دون أن نسأل أنفسنا كيف يجوز لها أن تطرب لاختراقات مذهلة في الجبهات الغربية والشرقية والشمالية والجنوبية، تحققها حراب نظام نازي أشتهر بتفرد حزبه في الهيمنة على الدولة وتطويع شخصية المواطن، على الخيار بين إلغائها وبين أن تصبح مسمارا أبكم في دولاب النظام الهتلري!
كان انتصار القوات الألمانية سريعا وصاعقا، وقد بدأ بالهجوم على بولونيا، صبيحة الأول من سبتمبر 1939، بأربعة آلاف طائرة حديثة و 15 فرقة مدرعة، و58 فرقة من المشاة المدربين أحسن تدريب، وكل ما تحتاج إليه من آليات حديثة.
وردت إنجلترا على الهجوم الألماني، بإعلان الحرب على ألمانيا بعد يومين من بدئه؟ وحذت فرنسا حذوها، فأعلنت الحرب على النازيين بعد ساعات من الإعلان البريطاني.
وكان الرأي السائدة في تلك الأيام، أن الدولتين الغربيتين "الديمقراطيتين" تأخرتا كثيراً في اتخاذ موقف حازم، لأن ألمانيا استكملت وحدتها عندما احتلت منطقة الراين (الألمانية) التي كان الحلفاء قرروا نزع سلاحها في معاهدة الصلح (معاهدة فرساي) غداة انتصارهم على ألمانيا في الحرب العالمية الأولى (1914- 1918)، وضمت إليها بالمفاوضات تارة وبالتهديد المسلح تارة أخرى، إليها وتشيكوسلوفاكيا في شهر مارس 1939؟ وبذلك أصبحت قوة مخيفة بعدد سكانها وإمكاناتها التكنولوجية المذهلة، وموقعها الاستراتيجي في قلب أوربا، التي كانت مركز الأحداث العالمية سياسيا واقتصاديا، ونظامها الشمولي الذي لا يعرف للرحمة معنى!..
وبعد أن أعلن الغرب الحرب، قبع في خنادقه، تحت ستار استكمال استعداداته العسكرية والتعبوية، سنة وشهرا، لا يبادر إلى أي عمل عسكري، حتى أيقظه من رقاده الطويل، هجوم ألماني جديد على النرويج والدانمرك في الثامن عن إبريل 1940 واحتلالهما، أتبعه بهجوم صاعق على هولندا وبلجيكا وفرنسا، فتداعت المعاقل الحصينة واستسلمت فرق كثيرة، بعددها التي لا تزال في صناديقها، وكان انهيار الجيوش الفرنسية سريعا ومذهلا... فاضطرت فرنسا إلى تسليم مقاليد أمررها إلى ضابط متقاعد، أو المارشال بتان، الذي اشتهر بانتصاراته الباهرة على ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، وحطم كبرياءها في معركة فيردان، أملا في أن يكون أقرب إلى التفاهم مع هتلر، الذي كان معجبا بنظامه..
وتوجه رئيس الدولة الجديد إلى الفهرر، في خطاب مؤثر يسأله أن يقبل بهدنة بين البلدين في "حدود الشرف".. واستجاب هتلر للطلب، ولكن قواته تابعت احتلال أجزاء واسعة من فرنسا، فدخلت باريس واستولت على المنطقة الغربية، والجنوبية الغربية؟ حتى حدود إسبانيا؟ وتركت للدولة الفرنسية المصغرة" القسم الأوسط والجنوبي من البلاد.. فاتخذت مدينة فيشي، الشهرة بمياهها المعدنية عاصمة لها!.. وبذلك تكون إحدى الدول الاستعمارية الكبرى، قد وقعت تحت مذلة الاحتلال.. وانقلب السحر على الساحر!.. ومنذ تلك الأحداث، أخذنا نشاهد آناء الليل وأطراف النهار، الجنود الألمان في خوذهم الفولاذية وملابسهم الخضراء النظيفة وصلبانهم المعقوفة، في مترو الإنفاق والشوارع ومقاهي الموسيقى والمطاعم، يجلسون كأي زبون مهذب، ويكرمون القائمين بالخدمة بسخاء، لأن كل مارك ألماني شعر بعشرين فرنكا فرنسيا.. وكانت وجبة الطعام المتوسطة التي كنا من "أنصارها" أقل من عشرة فرنكات!..
وبدأ الأمل في العودة إلى الوطن، يدغدغ أحلامنا، تقديرا منا بأن الدولة التي ظلت في حرب مع ألمانيا، هي إنجلترا.. وكنا نحسب أنها لا بد أن تجد نهاية لحربها، بالمصالحة- كما اقترح عليها هتلر- أو باحتلال جزيرتها، التي أخذت تتعرض لضربات جوية ألمانية شديدة.. وإنزال قوات برية لا قبل لها بصدها!. فيما كانت فرنسا هامدة تلعق جراحها...
وفيما كنا نقلب "حساباتنا"، فوجئ العالم مذهولا بالهجوم الألماني الكبير على أراضي الاتحاد السوفييتي، صبيحة الثاني والعشرين من يونيو 1941، واحتلت ألمانيا بسرعة فائقة أراضي شاسعة من أوكرانيا، لتأمين القمح لمواطنيها، بعد أن أمنت لحاجاتها المدنية والعسكرية ينابيع البترول الروماني...
الخطأ الألماني
ولكن القلق عاد ينتابنا، لأن محاربة الاتحاد السوفييتي، ليست كمحاربة الديمقراطيات الغربية، وأصبح واضحا أن الحرب ستكون هذه المرة طويلة... واتسعت رقعة الحرب في الشرق، وأصبحت موسكو وليننغراد تحت الحصار الشديد، الذي يقابل بمقاومة مستميتة..
ورفض ستالين أن يستسلم، وجمع فلول قواته، واستنجد بنخوة "الشعب الروسي"، غاضا الطرف عن شعار "الاتحاد السوفييتي"، وراح يكيل للألمان الصاع صاعين، فأرغمهم على التوقف عن التقدم، ثم حملهم على التراجع... واستسلم الماريشال الألماني "باولس" في ستالينغراد ومعه نحو أربعمائة ألف جندي وضابط... وساهمت ثلوج الشتاء الكثيفة، والفيضانات الغزيرة، في الفت من عضد قوات هتلر... وبدأ التراجع الألماني الكبير، تحت ستار "تقصير خطوط الدفاع"، وأخذت بوادر الاندحار واضحة لكل عين...
وفي تلك الظروف العصيبة، كانت جحافل الماريشال الألماني رومل تتمزق في معركة "العلمين" في خريف 1942، أمام قوات الماريشال مونتغومري، الإنجليزي، بعد أن أصبح الصليب الألماني المعقوف على مسافة تسعين كيلو مترا من الإسكندرية.
وفي بحران هذا الوضع المتأزم، دخلت أمريكا الحرب ضد ألمانيا وحلفائها، وبدأ غزو القارة الإفريقية، بالنزول في جنوب إيطاليا (في العاشر من يوليو 1943)، وتبعه آخر في جنوب غربي فرنسا، ثم جاء "أطول يوم في التاريخ"، وهو السادس من يونيو. 1944 الذي نزلت فيه القوات الأمريكية والإنجليزية على شاطئ النورماندي الفرنسية (قبالة الشاطئ الإنجليزي على بحر المانش)، والتحمت في مجازر رهيبة مع القوات الألمانية، واستمات الفريقان في تنفيذ مخططاتهما الدامية، وأظهرا من الفنون والتكتيكية والشجاعة العالية ما يحفظه لهذا التاريخ بمداد من الذهب بين وقائعه العظمى..
وتراجعت القوات الألمانية مرغمة، تراجع الشجعان، ولكنه كان تراجع المنكسر، الذي أخذت نذر الهزيمة تلوح له على الأفق القريب....
وأخذت السلطة تقلل من كمية المواد الغذائية المصروفة للفرد في باريس فأصبحت لا تكفي، حقا وصدقا، لسد الرمق.. وقد تضررنا نحن الأجانب في أوزان أجسامنا، واتسعت علينا ملابسنا كثيرا، وبسبب استحالة الحصول على ملابس جديدة، كنا نتردد على خياط عجوز في الحي اللاتيني الذي كنا نقيم فيه إلى جوار الجامعة، لكي يعمل مقصه فيها، لتعود معقولة في مظهرها..
ومن طرائف تلك الأيام- إن كانت طرائف- أن أحد أصدقائنا، جاءنا ذات يوم وهو يرتدي "معطفا" جديدا، يقيه البرد القارس، وسألته هامسا: أليس هذا المعطف المبروك، هو الذي كان ستارة على شباك شقتك؟ فابتسم وهز رأسه علامة الإيجاب والأسى يقطر من وجهـه!.. فقد كان يسكن في بيت زوجته الفرنسية، وهي التي قصت له هذا المعطف.
وقد أصبح هذا الطالب، فيما بعد، من أشهر أطباء بلده، رحمه الله..
وتجاه اليقين بأن الجيوش الألمانية أصبحت تواجه الهزيمة النكراء، فكر بعض العقلاء الألمان في طريقة تنقذ بلادهم من مصير أسود ينتظرها..
ولكنهم وجدوا أنفسهـم أمام مجموعة من العقبات الكأداء!..
فالحزب النازي، كان حزبا واحدا أوحد، استبد بالسلطة ورفع شعار "عصمة الزعيم"، وأشباح لنفسه القضاء على كل من كانت تستشم منه رغبة في مقاومة تسلطه. ولو احتاج الأمر إلى تصفيته جسديا. وجاءت الانتصارات الهتلرية الأولى على جميع الجبهات، مذهلة، فقطعت لسان كل من يفكر بالتشكيك بعبقرية الزعيم وحكمته...
وكان القادة العسكريون، ملتزمين بيمين الولاء التي قطعوها للقائد الأعلى، وعازمين على الحفاظ على سمعة الجيش العطرة، وتمسكه بالبعد عن التدخل في السياسة.
غير أن هذا الجيش لم يعدم "مارقين" على تقاليده الراسخة... حاولوا في بعض المناسبات إنقاذ البلاد، بالخلاص من النظام كله ومن رأسه، الذي آمن بعصمته، فاستصغر كل رأي يصدر عن أي شخص يخالف رأيه، ويسجل صاحبه على "القائمة السوداء".
وليس من شك في أن أعداء النظام الداخليين، كانوا كثيرين عددا، فمنهم الشيوعيون الذين كانوا يأتمرون بأمر موسكو، ومنهم جماعة "الوردة البيضاء"، وهم مجموعات من المثقفين، اتخذوا منطلقا لنشر آرائهم في وجوب الخلاص من الدكتاتورية الحمقاء جامعه ميونيخ، واستقطبوا بعض حركات طلابية كانت تسعى إلى نفس الهدف، ومنهم الكنيستان البروتستانتية والكاثوليكية، اللتان انطلقتا من مبدأ المساواة بين البشر، فرفضتا النظرية النازية التي نادت بسمو العرق الآري الجرماني على غيره من الأعراق، كما رفضتا مبدأ اعتبار اليهود أساس بلاء ألمانيا ومشكلتها الأساسية وسبب تردي أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية، وقاومتا بالوسائل السرية ما قيل عن معسكرات الإبادة الجماعية والتوسع في استعمال الأوتانازيا (القتل بدافع الشفقة) في أفران الغاز وغيرها، لتصفية أعداء النظام (وفي أيامنا هذه تصدر في الغرب كتب تنفي وجود هذه الأفران!...).
ويعرف كل عربي كيف استغلت الدعاية الصهيونية القوية ما قيل عن هذه المعسكرات، لتوجيه الرأي العام الغربي للمطالبة بإقامة دولة إسرائيل...
النظام يتخلخل
ولكن هؤلاء الأعداء للنظام، لم يكونوا قادرين إلا على بث الكراهية ضده وتعبئة النفوس المخدوعة من أجل الدعوة إلى الخلاص منه. ورجال القوات المسلحة، من ضباط وجنود، كانوا من أبناء الشعب، وهم يعيشون مع زوجاتهم وأولادهم وآبائهم تنتشر فيهم انتشار النار في الهشيم..
ومما ساعد عل تكوين حلقات سرية في داخل الجيش شعور كثير من الضباط أن مأساة عظيمة تلوح على أفق ألمانيا.. واقتنع عدد منهـم بضرورة التنظيمات السرية، انتظارا ليوم الخلاص.. وهكذا بدأت المقاومة بتنظيم نفسها، واشتد ساعدها حين تمكنت من استقطاب عدد من كبار قادة الجيش...
وكان أول ما فكرت فيه هذه المقاومة، هو أن تطلع الأعداء على مشاريعها السرية، لذلك أرسلت المطران بل Bell إلى ستوكهولم، ليتصل بعيون تشرشل (رئيس وزراء بريطانيا) وإيدن (وزير خارجيتها)، ويسألهما ماذا؟ يستطيعان أن يقدما للمقاومة الداخلية الألمانية من عون...
ولكن المذكورين، تمسكا بالحذر، ولم يعدا بشيء... لذلك ركز "المتآمرون" جهودهم على بعض الضباط البارزين، فتمكنوا من استمالة جنرال شاب يقود قوات ضاربة ذات أهمية ميدانية، هو الجنرال فون تريشكوف Von Tresckow، وماريشال شهير هو فون كلوغه Von Kluge، وعدد من الضباط الذين يقودون قطعات ضاربة... وبذلك استطاعوا أن يجدوا لهم أرضا صلبة يقفون عليها داخل القوات المسلحة، لينطلقوا منها ذات اليمين وذات اليسار.
وكان الرهان يستحق الشمعدان، كما يقول المثل الفرنسي.
ومن أجل إنقاذا ما يمكن إنقاذه، قام بعض الضباط بمحاولات انتحارية لقتل هتلر. ففي السادس من مارس من عام 1943، وضعوا فنبلة في طائرته، ألا أنها لم تنفجر. وحاول العقيد فون غير سدورف Von Gersdorff أن يفجر نفسه ومعه هتلر بتفجير قنبلتين وضعهما في جيبه، أثناء زيارته معرضا للغنائم، إلا أن الفهرر لم يكد يصل إلى الحفل، حتى عاد أدراجه بسرعة تدعو إلى الدهشة.. وفي محاولة أخرى، قرر الجنرال ستيف Stieff قتله بمسدسه في حفل أقيم لعرض أزياء، كان منتظرا أن يحضره هتلر، ولكنه في اللحظة الأخيرة، عدل عن الحضور، وأمر بإلغاء العرض..
المؤامرة
وفي يوم العشرين من يوليو عام 1944 سنحت للمتأخرين الفرصة التي كانوا يترقبونها، وأكفهم على قلوبهم. فقد دعا الفهرر عددا من كبار قادة القوات المسلحة إلى اجتماع يعقد برئاسته لمعرفة آرائهم في الوضع العسكري على الجبهات. وكان من بين الذين دعوا، العقيد شتاوفنبرغ Stauffenberg، فأخبر خليته بأنه قرر "حمل مسئوليته بكل ما يترتب عليها من مخاطر، أمام الله وأمام الضمير، وأننا عزمنا على التخلص من هذا الشخص، والذي تقمص في شخصه البشع كل ما يهدد البلاد والعباد من شرور".
ومما شد في عزائم المتآمرين، تسرب أنباء عن تقرير في منتهى الخطورة رفعه الماريشال رومل، الذي كان يقود مجموعة من الجيوش في الجبهة الغربية، إلى الفهرر بوصفه القائد الأعلى للقوات المسلحة، يشرح فيه الحالة السيئة التي تتخبط فيها قواته، وأوضح بجلاء أن كفة قوات الحلفاء أصبحت راجحة، وقد يكون الأوان قد فات، للحيلولة دون الاختراقات التي سوف تحدثها قوات العدو في تحصينات دفاعه. وقد هزت المعلومات التي تضمنها تقرير الماريشال الشهير مفاصل المتآمرين، خوفا على وطنهم الذي سوف يعاني الهزيمة والاحتلال والقهر والمجاعة،، واتخذوا قرارهم بلزوم المبادرة إلى عمل سريع.. وقد أصبحت آمالهم معقودة على جرأة زميلهم شتاوفنبرغ..
وتنفيذا للمخطط المعتمد، توجه شتاوفنبرغ إلى قصر المستشارية وهو يحمل حقيبته الجلدية، وفيها قنبلة شديدة التدمير، ودخل إلى قاعة الاجتماع، ووضع الحقيبة عند رجل الطاولة التي كان لمجلس هتلر قريبا منها، وكان على الطاولة خارطة عسكرية منشورة، تجول فيها عينا الفهرر ومعه عدسة مكبرة، وهو يستمع إلى شرح قادته العظام. وتذرع المتآمر الكبير بعذر، ليخرج من قاعة الاجتماع ويغادر المستشارية، وهو على يقين بأن مشكلة الوطن الكبرى قد حلت، بالقضاء على هتلر وكبار أعوانه..
غير أن كثيرا ما يدبر المدبرون، ولكن القضاء يعترض تدبيرهم، فقد ارتطمت رجل الجنرال برانت، Brandt بالحقيبة، فأبعدها من موضعها إلى زاوية بعيدة، فانفجرت القنبلة بعد لحظات، وكان الوقت ظهـرا، فاهتز البناء من شدة الانفجار وتطايرت الأشلاء وتبعثر كل شيء في القاعة، وانتشر فيها دخان أسود كثيف..
وفي الحال دخل إلى القاعة الماريشال كايتل، القائد العام للجيوش الألمانية، وراح يبحث عن "زعيمه" وسط الدخان والأشلاء وأنات الجرحى، فوجده في إحدى الزوايا في حالة تعيسة وقاده إلى خارج الغرفة، وهو لا يكاد يعرف من اسوداد وجهه.. وبين الأطباء أنه نجا من الموت وأنه لم يصب إلا بحروق بسيطة..
وكانت الخلايا المتآمرة تنتظر كلمة السر من الإذاعة، لتضع يدها على قواتها، وتعلن ولاءها للعهد الجديد، إلا أنها لم تسمع شيئا، فأسقط في يدها، وبات رجالها على وجل، لا يعرفون ما هو مصيرهم ومصير وطنهم.
وبعد ساعات من وقوع الانفجار، أذاعت الإذاعة الحكومية نبأ محاولة الاغتيال- "بان اعتداء آثما بالمتفجرات استهدف حياة الفهرر، قامت به مجموعة صغيرة من الخونة، ولكنها باءت بالفشل، وأن الزعيم في حالة صحية جيدة، ولم يصب ألا ببعض الحروق"..
لو تغير وجه التاريخ
ومن المؤكد، أن المؤامرة لو نجحت، لغيرت وجه التاريخ... وبدأت مطاردة المتآمرين، دون رحمة ولا إنسانية، وكان من أوائل الذين تم إعدامهم، شتاوفنبرغ وعدد من كبار قادة الجيش ومن المدنيين المتورطين في المؤامرة.
وقد أثبت "التحقيق" ضلوع الماريشال رومل في المؤامرة، فتقرر إعدامه، غير أن الزعيم خيره بين الانتحار وبين الرصاص فاختار أن ينتحر بمسدسه، تفاديا من إعدام مهين.
ومن أجل تخفيف وقع المؤامرة على مشاعر الشعب، أمر هتلر بأن تقام لرومل جنازة وطنية تليق بسمعته وقدراته العسكرية.
وتابع النظام النازي حربة "حتى آخر رجل"... فتخربت البلاد، ونهبت المصانع ونقلت إلى بعض البلاد المنتصرة، باعتبارها غنائم حرب... وسقطت برلين في يد الروس في الثامن من مايو عام 1945، واستسلمت ألمانيا إلى أعدائها في السابع من الشهر نفسه... بلا قيد أو شرط..
وانتحر هتلر في مقره، وانتحرت زوجته إيفا براون معه.. وقتل غوبلز أولاده السبعة بالسم، ثم انتحر هو وزوجته حتى لا يقعوا في يد أعدائهم..
وقبض الحلفاء على عدد من قادة الحزب النازي، وأقيمت لهم محاكم عسكرية لمحاسبتهم على جرائمهم، ومن أشهر هذه المحاكم، محكمة نورمبرغ العسكرية الحليفة، التي حكمت بالإعدام على عدد منهم...
وهكذا تكون صفحة دموية قد طويت من تاريخ ألمانيا، وقام على أنقاضها نظام ديمقراطي، ظل يزدهر سياسيا واقتصاديا، حتى أصبحت ألمانيا في كنفه، ولا تزال، أعظم، أو من أعظم القوى الاقتصادية في العالم...
وصدق تشرشل حين قال:
"وتظل الديمقراطية أقل الأنظمة عيوبا".





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق