السبت، 15 يونيو 2019

• الورد هذا الأريج حول الأعناق



ظللت أتجول خلال السنوات الماضية بين مختلف الممالك، الإنس والجن والحيوان والأخلاق والزرع، فكيف فاتني أمر الورد؟، ذلك الذي ظل - على استحياء- يرنو إلى قلمي من خدره الشائك، مع أنه الوحيد المخلص الذي سيكون في مقدمة المودعين- دون أن يرث مني شيئا، هذا إذا كانت نهايتي ستتم في سلام يسمح للورد بأن ينتظم- حزنا- أو شعرا- أو أغنية يؤرقها الندى، أو النوى، أو المنون، أو النسيم.

والورد زهر نشط مشع، وليس أخطر ما فيه جاذبية اللون فقط، بل ملمس أوراقه المماثل لنعومة بشرة الأنثى، ولذا فقد ظل زهرا جليلا، يطوق الأعناق، ومساند مقاعد الفرسان، ورسائل العشاق وهامات الصبايا، وجراح المصلوبين، ونعوش أجداث الراحلين، ونصب الخالدين والشهداء- معروفين أو مجهولين- وقرون أبقار النذور الحية في الصعيد المصري، والأبقار الجليلة في الهند، وأول ما يقدم للمنتصر والفائز والقادم ضيفا عزيزا والمستكين في فراشه معتلا، ويحتل مساحة واسعة من عناوين الروايات والأفلام والإخلاص والمحبة والبوح الهامس الساحر.
وللورد طاقة من الجمال تصنع حوله هالة تألق، لو أمعنت فيها الدقائق الأولى من الصباح لانسابت إلى جوانحك، وحالت دونك والشراسة أو العنف أو الشر حتى آخر النهار، وأثارت فيك إحساساً دافقاً بالفأل الطيب، قد تحيلك إلى شاعر، أو ملاك، أو فراشة، أو تحيلك إنسانا خالصا.
وأعدى أعداء الورد أقدام الحفاة والجياع، وجنازير وبارود وأحذية وآلات العسكريين، ومعدات العلماء، والمرعوبون والجهلاء، والحيوانات، وعمال التعدين والإنشاءات والمباني، والأرض الجيرية والباحثون عن الآثار القديمة، والذين يصنعون الورد البلاستيك، والسفهاء والكلاب، والزوابع، وعمال الصباغة، والمتعصبون دينيا أو سياسيا أو اجتماعيا أو عرقيا، واللصوص.
وكلما تفككت حقول وبساتين الورد، أفرزت معنى جديدا، ففي تحريكها كمحصول فإنما هي تسعى لمصانع الروائح، وباقات: أعناق الفرحانين أينما وكيفما كانوا، وأفراد أو واحدات: فإنما هي الوردة التي تحمل رسالة واضحة وعاشقة بين فتى وفتاة وقد قامت الوردات المفردات بأكثف رسائل الغرام في القرون الوسطى، عصر كازانوفا وروميو، دعك من السلم الذي يلجأ إليه العاشق كي يصل- بالوردة- إلى أول شرفة تقف فيها معشوقته؟ وانتبه إلى أن الوردة ذاتها مقتطفة من حديقتهـا- إن لم تكن وردتها الخاصة، ولذا ستظل الطريقة التي تمسك بها الأصابع الوردة مختلفة عن الإمساك بالقلم والرايات والسكين والسيف والمدفع.
والورد بأنواعه يظل طوال الليل يتلمس وسائل الوصول إلى النهار، وبألوانه يتألق فرحا بمجرد تسلل وانسياب الفجر، ويعشق الأصوات الجميلة الخفيفة، وقد نشرت مجلة "الريدرز دايجست" الأمريكية الشهيرة أن وردا كان يذبل قبل استكمال دورة نموه، لوجوده قريبا من نافذة جماعة من الطبالين الذين يحدثون أصواتا يومية ضاجة، وفي المقابل يحكى أن حديقة فيفالدي الإيطالي- من أشهر عازفي وواضعي ألحان الكمان- كانت تنتج أكبر زهور وأطولها عمرا، ولذا فمن الميسور عليك أن تراقب نحلة تسعى نحو وردة: إنها تكاد تغلق أجنحتها قبل الهبوط على أوراقها، وتكاد تنحني عشقا أثناء سعيها لمركز الوردة، وبالتأكيد فإن النحلة تخفي زبانها داخل جسدها، لا مجال للقسوة أو الشر على وجه الوردة، وعندما يمتد خطم النحلة نحو وريقات جسد الوردة فإنما هو يحتويها ويصافحها ويقبلها، النحلة تمتص الرحيق الآن ثم تحمل حبوب اللقاح لوردة وحيدة أخرى، وخلال كل ذلك تحاول النحلة ألا تحرك أجنحتها، إنها لا تود من الوردة الثملة اليقظة أن تنفصل عن هذا الاندماج المرتاح، انظر إلى النحلة- بعد ذلك- وهي تسقط سنتيمترات خارج الوردة دون أن تحرك أجنحتها، إنها لا تود أن تصنع للوردة قلقا، بعدها ينفرج الجناحان بكل قوة الحياة، لتبدأ الوردة في الاهـتزاز الجميل.





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق