الأحد، 23 يونيو 2019

• الفأر من الجحر إلى المسك إلى الكارتون


يختزن العقل الشعبي للفأر موقفاً تاريخيا: فعندما رست سفينة نوح- بعد الطوفان الشهير- على قمة جبل آرارات بالأناضول، قفزت كل مخلوقات السفينة إلى البر عدا الفيران، فقد كانت قد حفرت في متون السفينة وأضلاعها وهيكلها ما لم تقم به كل الحيوانات الأخرى...

غير أن أعداء الفيران- وأعداء الثورات العسكرية أيضا- لاحظوا أن نفس الفيران كانت تقفز من السفينة إلى الماء كلما هبت الأعاصير وأحس راكبوها بالخطر، وتعود إليها فور توقف الخطر، ذلك لأن الفأر يتنسم الأخطار أكثر مما يراها، ولا تزال فكان السفن- التي تكون أول ساكنيها- هي أول القافزين منها: تعبيرا مختصرا عن الذين لا يقفون معك في وقت الشدة، والخونة، والناكصين العائدين من منتصف طرق المجاهدة، وناكري المعروف، لكن القط- أعدى أعداء الفأر- يشاركه في اللعبة الدبلوماسية التي يدركها الجميع: اعتبارا من كراسات المدارس الابتدائية، وانتهاء بالمسلسلات التلفزيونية. والفأر يعم أرجاء المعمورة قديمها وحديثها، حقوها ومصانعها ومخازنها وبيوتها، وهناك أنواع يمكنها تسلق النخيل، وهي أول ما يواجهه الرحالة بمجرد الاستقرار طويلا في بقعة غير مأهولة، وأول خطر يواجه القناطر والكباري والأهوسة (جمع هويس)، ذلك أن قدرة هذه الحيوانات القارضة على إلحاق الخطر بالمباني تقلق بال مهندسي الإنشاءات، ويمكنها أن تصيب الأغصان المثمرة وسباطات النخيل بأذى كبير، وفي المناطق الشهيرة بصناعة الأثاث- مثل دمياط مصر- أو صناعة المراكب في مرسيليا فرنسا، تجد كثيرا من العائلات المتخصصة في إبادة الفئران بالوسائل القديمة: وضع السم في الطماطم، أو بالوسائل الحديثة: تبخير السراديب والشقوق والثنايا المظلمة بالغازات الخانقة. كذلك يواجه أصحاب المنشآت الميكانيكية: مثل طواحين الدقيق، أو صناديق توزيع الكهرباء، متاعب مع الفيران، حيث تتوقف الآلة فجأة لتتعطل محتفظة بين تروسها أو توصيلاتها الكهربية بجثة الفاعل الدامي، وهذا يتناقض مع ما عرف عن الفأر من قدرته المدهشة على إدراك الأخطار، (ويبدو أنه يقع في المأزق فجأة)، غير أن أصحاب المكتبات والوراقين يجاهدون كثيرا في سبيل المحافظة على المجلدات، ولا تنجو مكتبة من القوارض، كما أن أصحاب اصطبلات الخيول يشكون من قدرة الفئران على إحداث ضرر في حوافر الجياد، ولا سيما تلك التي تركن للرقاد بسبب ظروف المرض أو الولادة.
وللفيران واد أخضر شهير، في وسط شبه جزيرة سيناء، يبدأ من جنوب أبورديس على ذراع البحر الأحمر (خليج السويس) ويتجه شرقا مائلا للجنوب حتى يصل إلى سانت كاترين، وفيه غابات من نخيل وزيتون وخوف، وتقف الجبار الشاهقة على حافة وحدود هذا الوادي صانعة مشهداً نادراً، غير أني لا أستطيع أن أجزم بوفرة الفئران فيه. وقد أنشأ شتاينبك- الروائي الأمريكي- عملاً خالداً ومشهورا هو رجال وفيران، وقد نسجت أعمال لكثيرين من أدباء الدنيا على شاكلته: قوة العقل واصطراعها مع قوة الجسد، كما أن عبقري رسومات الكارتون والت ديزني استعار الفأر بطلا لمعظم أعمال مؤسسته وهو ميكي ماوس، وهناك مؤسسة أمريكية أخرى صنعت مجدها على التقاتل أو المطاردة الأبدية بين القط والفأر في (توم وجيري)، وتنتشر الفئران- ومعظمها مسالم وحكيم- في أعمال الدانمركي هندرسون، والفرنسي لافونتين، كما أن فأرا أو فأرين تحركا في سخرية داخل قصص مارك توين، وأشعار طاغور الهندي، وعثمان جلال المصري، كما أن الشاعر الحديث جدا نصار عبدالله له حكاياته المستنبطة نظما من أخلاق الفأر، ولألبير الفرنسي عمل أدبي جميل يقوم على الفأر دون أن نراه هو: الطاعون، ويطلق المنظرون السياسيون على أنواع من المباحثات المهمة غير الرسمية وغير المعلنة: مباحثات الفيران. والفأر- بعد ذلك- هو الفداء الإنساني البديل عند العلماء، ففأر التجارب يتلقى من التجارب المعملية ما يكون المقصود منه الإنسان، وحين تكتمل التجربة- قتلاً أو حياة - تبدأ دورتها الموجهة إلينا، لا يفلت من هذه المعمليات فأر أبيض ـ فأر الصحارى وفأر الشمال، أو أسود: فأر القصور وشونة الغلال، أو بني فاتح فأر الجبال والتلال، أو حتى الفأر النادر الذي يعيش في جنوب شرق آسيا: الفأر الأزرق، وكلها- هذه الفيران- تجد الجو المناسب لتكاثرها المروع، بعد الحروب وبين أنقاض المدن المنهارة، وبين مرابط الخيل، وفي السفارات الأجنبية، وفي عيون نهازي الفرص، والحمقى، وطالبي المجد دون أن يمتلكوا ما يؤهلهم للمجد.





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق