الجمعة، 21 يونيو 2019

• الظاهرة الأخلاقية


الأخلاق ضرورة لازمة للثقافة والحضارة. فلا ثقافة بغير أخلاق. وهي ضرورية من أجل استمرار المجتمع وسلامته. فمن دونها يتحول المجتمع إلى غابة كبرى ونعود من جديد إلى حياة الحيوان.

سوف نحاول في الصفحات التالية أن نحدد أبعاد ما نسميه "الظاهرة الأخلاقية" وأن نكشف عن بعض سماتها وخصائصها، وسوف نفعل ذلك بالإشارة إلى المواقف الأخلاقية الفعلية التي نقابلها في حياتنا، سواء عندنا بالفعل أو عند الآخرين، في الحاضر أو في الماضي، على مستوى الواقع أو على مستوى التصور والخيال (ومثال هذه الحالة الأخيرة ما نراه في الخيال المسرحي والروائي).
ونبدأ بالمقارنة بين الإنسان والحيوان، لنتساءل : هل توجد الظاهرة الأخلاقية عند الحيوان؟ ربما تعجب أحيانا من مظاهر الأمومة عند بعض الحيوانات، ولكنها تعود في النهاية إلى سلوك غريزي، فضلا عن أن الأمومة ظاهرة حيوية وليست ظاهرة أخلاقية (عند الإنسان ينقلب السلوك المتعارض مع "واجبات" الأمومة، التي يختلف مداها ما بين ثقافة وأخرى، إلى سلوك أخلاقي سلبي، أي لا أخلاقي). وقد نلاحظ كذلك بعض التفاعلات من حول سلوك السيطرة والخضوع، والقيادة والتبعية، والدفاع عن المنطقة المحددة التي يعيش عليها الحيوان، وغير ذلك عند فصائل مختلفة من الكائنات الحية بوجه عام. ولكن هذا كله، إذا كان يقدم حالات أولية لتفاعلات اجتماعية إنسانية، فإنه لا يمكن أن يكون ذا صفة أخلاقية إيجابا أر سلبا. أخيرا، فإن ما يلاحظ من مظاهر، نصفها أحيانا "بالوفاء" و"الأمانة" و "الصداقة"، عند عدد من الحيوانات الأليفة، إنما يعود في النهاية إلى مبدأ "تشريط السلوك"، أي توالي تقديم الإثابة عند كل رد معين من الحيوان على فعل أو حدث معين، فيظهر الرد دائما عند حدوث الحدث الشرطي، حتى عندما لا تقدم الإثابة.
الحق أنه من الصعب جدا وصف أي سلوك حيواني بالصفة الأخلاقية. ولم هذا؟ أولا، لأن الظاهرة الأخلاقية تشترط "الوعي"، وهو ما لا يمكن نسبته إلى الحيوان، ليس فقط في حدود معارفنا العلمية عن السلوك الحيواني حتى اليوم، بل وكذلك من حيث المبدأ، لأن ملايين السنين من الحياة الحيوانية لم تظهر مظاهر للوعي إلا عند الإنسان. ثانيا، أن الوعي يشترط الحس الزماني وإدراك الماضي وتوقع المستقبل، بينما تدل الظواهر على أن الحيوان يعيش في الحاضر من حيث الأصل، وليس له حس زماني. ثالثا، أن السلوك الحيواني سلوك نمطي إلى درجة عالية، أي أن أشكال الاستجابات للمواقف الأساسية أشكال متشابهة محددة، على مثال ما يحدث في سلوك النمل والنحل، وهي محكومة من قبل المتطلبات الحيوية على نحو مباشر. هذا، بينما السلوك الأخلاقي غير نمطي، ويختلف من فرد إلى فرد، ومن حالة إلى أخرى، وحتى القاعدة التي تحكم هذا الموقف أو ذاك تفسر على أنحاء مختلفة، وقد تتعدل أو تتطور. كذلك، فإن القواعد الأخلاقية لا تخضع على نحو مباشر للمتطلبات الحيوية، فقد تجوع ليأكل أخرون، وقد يرضى الفرد بالاستشهاد في سبيل مبدأ أو جماعة يقدم حياته قربانا لهما. رابعا، أن السلوك لا يعرف المرونة، فلا يستطيع التعديل في ترتيب الخطوات ولا يعرف بعض التقديم أو بعض التأخير، ولا الصبر أو غيره من الصفات المصاحبة للظواهر الأخلاقية. وهل يعرف الحيوان الدم؟ أو التوبة أو عقاب الذات؟ أو التحول من طريق في الحياة إلى طريق مختلف تماما؟
الأخلاق والظاهرة الحضارية
توجد في الظاهرة الأخلاقية أهم نواحي الظاهرة الثقافية والحضارية التي تميز الإنسان تميزا مطلقا: ذلك إنها تنطلق من التعديل والتحوير للقدرات والحاجات الأساسية التي يتمتع بها كل وليد إنساني أو يولد بها: فنحن نحتاج إلى الطعام، ولكننا نأكل بعض المأكولات ولا نأكل البعض الآخر، وقد نصوم عن الطعام بالكلية فترة تقصر أو تطول، ونحن قادرون على التعبير بالكلمة، ولكننا نئد كلمة الإساءة إلى شخص آخر من قبل نطقها، ونحن ندافع عن حياتنا ونحافظ عليها محافظة مطلقة، ولكننا قد نقبل الاستشهاد عن روية وإقبال، إلى غير ذلك مما هو كثير. فالأخلاق الإنسانية هي إعادة تنظيم للحاجات والقدرات بحسب عدد من القواعد التي لا توجد لا في الطبيعة ولا في الغريزة، فالأخلاق تنظيم وإعادة تنظيم، حذف وإضافة، تقديم وتأخير أن تكون جزءا من الظاهرة الثقافية. نعم، أن الظاهرة الأخلاقية لا تقوم بغير ضبط للانفعال وكبت للرغبة ورفض للخاطر والتضحية ببعض الأشياء من أجل البعض الآخر. وربما أمكن أن يقال إن الأخلاق في النهاية طاعة لمبدأ الخير وخضوع للقواعد التي تحدد الصواب والواجب. ولكننا نطيع، طوعا أو كرها، بعض القواعد في حياتنا الاجتماعية، ومع ذلك فإن ذلك السلوك لا يدخل في إطار الظاهرة الأخلاقية. خذ مثلا مراعاة ارتداء أردية معينة في أوقات معينة، وتقديم صيغ معينة من الكلام في مناسبات محددة، وتحية البعض على طريقة مخصوصة، والأكل باستخدام أدوات دون أخرى وعلى نحو دون آخر، وتقديم أشياء أو هدايا أو أموال في مناسبات معينة، فكل هذه الأمثلة تدخل في باب الآداب العامة حينا، والعادات الاجتماعية والأعراف حينا آخر، ولكنها لا تدخل بالضرورة في نطاق الظاهرة الأخلاقية، وإن كان كل "تهذيب" يحمل طابعا أخلاقيا، ناتجا عما تحدثنا عنه منذ سطور عن الضبط والتحوير والتعديل للسلوك الإنساني.
عناصر الظاهرة الأخلاقية
ما هي عناصر الظاهرة الأخلاقية؟ يمكن أن نقول إنها كما يلي: الذات والوعي الأخلاقي، تنظيم المبادئ والقواعد، الآخر والجماعة. حينما تتفاعل هذه العناصر بسبب موقف أخلاقي أو مشكلة أخلاقية، نكون بإزاء "خبرة أخلاقية" يكون طرفاها الذات من جهة والآخر من جهة أخرى، أو الذات وحدها على الأقل في حالة المواقف الأخلاقية التي لا تتعين أمام الآخر، ولكني أمر بها أنا وحدي، وقد يكون ذلك الآخر، أو غيره، طرفا فيها على مستوى تأملاتي أن وحسب. عند تكرار الخبرات الأخلاقية الفردية، منذ الطفولة، يتكون عند الذات "الخلق"، وهو تكوين أخلاقي أقرب ما يكون إلى الجهاز المنظم الذي يوجد في إطار "الوعي الأخلاقي" ويوجهه في نفس الوقت. أما مجموع الخبرات الأخلاقية فإنه يسمى "الحياة الأخلاقية"، وقد يدل هذا التعبير كذلك على الحياة المعيشة وفقا للمبادئ والقواعد الأخلاقية.
"الموقف الأخلاقي" هو حالة عملية محددة تتطلب أن أتخذ في شأنها حكما وقرارا ينتج عنهما فعل معين أقوم به. مثال ذلك: فلنفرض أن جارك لا يحترم القواعد (الاجتماعية والقانونية) للجيرة، ويسبب لك إزعاجا مستمرا لأنانيته وإساءاته، ولكن ها هو يقع مريضا في منتصف الليل، وقد تسمع إشارات على ذلك تصل إليك من مسكنه حتى لتوقظك. فماذا أنت فاعل؟ أن الموقف يعرض بدائل عديدة:
- أن تعود إلى نومك وكأنك لم تسمع شيئا.
- وأن تدق بابه لمجرد السؤال وإبداء تعاطفك.
- أن تقوم بمبادرة لإحضار طبيب، أو لنقله بسيارتك، أو استدعاء أهل له... إلى غير ذلك.
إن الحكم الذي ستصدره يتوقف على تصورك لما هو خير لك، للقواعد التي تأخذ بها في صدد ما هو صواب وما هو واجب، أي لاختياراتك الأخلاقية الأساسية. وقد تقوم بتأويل هذه الاختيارات الأساسية لتبرير حكم أو آخر قد لا يكون مرضيا لك كل الإرضاء، حيث إنك ربما ملت إلى الأخذ بالبديل الأول، وتبرره "أخلاقيا" بمبدأ العين بالعين والبادي أظلم"، كما قد تتدخل اعتبارات ذهنية من أنواع أخرى، نفسية وتقديرية وتوقعية وغيرها، لتجعلك تقول لنفسك: "إنه كان يصيح هكذا مرات من قبل ثم يعود معافي في الصباح التالي ليوالي إظهار اللؤم والعدوان مرة أخرى". ولكنك قد تعود لتأخذ بقاعدة أخرى تقول: "العفو عند المقدرة"، وتسارع إلى نجدته، أو قد تأخذ بقاعدة أعمق تقول: "الحياة الإنسانية قيمة في ذاتها وتجب رعايتها عند كل كائن إنساني" خاصة أن بعض القوانين تجرم عدم مساعدة الشخص المعرض للخطر. يعقب الحكم الذي تصدره، بعد اختيار المبدأ والقواعد التي سترتكن إليها، اتخاذ قرار، وهو قد يتخذ هيئة: "علي أن افعل كذا" أو "ألا افعل كذا"، أو هيئة: "سأقوم بفعل كذا وكذا". هذا القرار يعقبه فعل أو تصرف، هو إما العودة إلى النوم أو الذهاب إلى باب الجار والقيام بمواساته أو بمساعدته على نحو ما من الأنحاء.
عناصر متفاعلة
في كل موقف هناك على الأقل أربعة عناصر متفاعلة: الذات، والمبادئ والقواعد، والآخر أو الآخرون، ومشكلة صغيرة أو كبيرة تتطلب حكما، وقرارا وتصرفا. والتصرف هو الذي يضع نهاية للموقف، وإن كان قد يخلق موقفا جديدا بسبب ظهور مشكلة مختلفة. أننا في الموقف الأخلاقي مدعوون إلى العمل بالضرورة، وأحيانا ما يكون عدم التصرف هو نفسه تصرفا. ولهذا، أي بسبب الطابع العملي للموقف الأخلاقي، فأننا نكتشف في كل موقف أخلاقي نوضع فيه، وعلى مر السنين، ومهما كان عدد المواقف التي مررنا بها، نكتشف أن علينا أن نعيد حساباتنا من جديد، وأن نحدد اختياراتنا الأخلاقية وأن نعيد ترتيب أولوياتها، وقد نتنازل عن بعضها ونضيف بعضا آخر. كذلك، فإن الموقف الأخلاقي يظهر لنا الفجوة القائمة دائما بين عالم المبادئ والقواعد، وهو عالم نموذجي، وعالم الوقائع، وأحيانا ما يصعب علينا الحكم والقرار والفعل، فنقع عندها في "أزمة أخلاقية". فتعريف الأزمة الأخلاقية أنها حالة عدم القدرة على اتخاذ حكم وقرار بحسب المبادئ والقواعد التي كنت ارتضيتها لتوجيه وعيي الأخلاقي ولتوجيه سلوكي.
إدراكي لما أقوم به في الموقف الأخلاقي، هو الذي يسمى "الخبرة الأخلاقية"، وكأني في الموقف فاعل منخرط، وفي الخبرة مدرك ومتابع لما أقوم به من تفكير وتأمل وموازنة واختيارات من أنواع شتى. وليست الخبرة الأخلاقية سارة دائما، بل لعل العكس هو الأصح، حيث إن كثيرا من الخبرات الأخلاقية تكون خبرة صراع، يختل فيها توازننا كذات، ونحاول مجابهة مشكلة الموقف بما يؤدي إلى الفعل المناسب، الذي يؤدى إلى رضائنا عن ذاتنا، وهو مظهر من مظاهر الخير. صحيح أننا في الخبرة الأخلاقية نستخدم رصيدا من الحلول النموذجية إما انتهينا إليها نحن أنفسنا من خلال خبراتنا السابقة، وإما تعلمناها من خبرات الآخرين الواقعية أو غيرها، ولكننا في كل موقف نجد أنفسنا موضوعين من جديد، وكأنها المرة الأولى، أمام مطلب الحكم والقرار الأخلاقيين. ومن نافلة القول إن الخبرة الأخلاقية تقوم بها الذات كلها وتستخدم في أثنائها سائر قدرات الذين من ذاكرة وخيال وفهم وتنبؤ وحساب. وتقوم التربية بإثراء الخبرة الأخلاقية بما تقدمه من مبادئ وقواعد، وتساعدنا على حل المواقف بالحلول النموذجية لمواقف منتقاة تتميز بوضوحها. ولكن الواقع يكون في العادة أكثر غموضا وتعقيدا من كل نموذج معروف.
على مر الخبرات الأخلاقية، وبفعل التربية وبفعل التوجيه الذاتي، يتكون لكل منا "خلق" سوف يتميز به، ويسمح للآخرين أن يتنبأوا إلى درجة معقولة بالسلوك الذي يمكن أن يصدر منه في حالة متخيلة أو واقعية. إن "الخلق" هو التكوين الأخلاقي الوجداني الذي يعمل كجهاز لإدارة عملية الشعور الأخلاقي بصفة عامة، وعملية التأمل الأخلاقي في حالة المواقف المتعينة بصفة خاصة.
عن الخلق والأخلاق
إن هناك عددا من الأسماء التي تستخدم في لغتنا العادية وفي اللغة الإصلاحية على السواء، والتي تدور من حول مصطلح "الخلق". من ذلك: الفطرة والطبع والمزاج. ونضع الاسم الأخير جانبا لأنه ذو طابع نفسي أكثر منه أخلاقيا. ولكن الاسمين الأولين يشيران بوضوح إلى ما هو ثابت، إما عند جميع البشر، وهذا ما يقوم به مصطلح "الفطرة" وإما عند فرد محدد، وهو ما يعنيه مصطلح "الطبع". ولا مشاحة في الاصطلاح، ولمن شاء أن يرى أن هناك فطرة أخلاقية في كل إنسان يولد معها، ويكون خلقه إما اقترابا من تلك الطبيعة أو ابتعادا عنها، فيكون أمامنا الخلق الطيب أو الخلق السماء. ويقع هذا الموضوع في دائرة مشكلة مهمة هي المشكلة المسماة باسم "الطبيعة الإنسانية". ولكن خطر ينتج عن إنها تنطلق من صحة كون الكائن البشري ذا "طبيعة" محددة ثابتة مشتركة دائمة، بينما هذا مجرد افتراض وحسب، أو هو رأي البعض، بل هو مذهب أخذت به تيارات مهمة في الفكر الإنساني ولكن تطور المعارف في شتى جوانب الحياة الإنسانية ينبه إلى ضرورة التعامل مع هذا الرأي بشيء من الحذر. ولهذا فإن من يقول بالطبيعة الإنسانية ويقصد بها الحد الأدنى من القدرات والحاجات والإمكانات التي تتشابه عن كل البشر لأنهم يولدون بها، من يقول بهذا يقف موقفا مقبولا ومعتدلا، لأنه يتحدث عن قدرات وحاجات وإمكانات وحسب، وليس عن مضمون محدد، فضلا عن أن يكون مضمونا أخلاقيا يحتوي على مبادئ وقواعد بعينها. بناء على هذا كله، فإن "الخلق" أمر مكتسب في معظم جوانبه، ولكنه يعتمد من غير شك من بعض النواحي على الموروث فينا، ولكنه موروث صوري وإطاري عام، هو موروث القدرات والحاجات والإمكانات. وعلى هذا، لا يكون هناك "خلق" أخلاقي ثابت نهائي، وبالتالي نموذجي، بل يتعدد الخلق بتعدد الأفراد، وأن كانت الثقافات تميل كل منها إلى تعميم نموذج تفضله من خلق الأفراد الذين ينتمون إليها. أن الخلق هو ما استقرت عليه الذات الأخلاقية من اختيارات. أما ما يكون الخلق من اتجاهات ثابتة نسبيا نحو القيام بسلوك معين في كل موقف أخلاقي مقابل، فإنه هو الذي يسمى "الفضيلة"، من مثل الاتجاه نحو الصدق ونحو الأمانة وغير ذلك.
لقد شبهنا الخلق بالجهاز الذي يدير عمليات الشعور الأخلاقي والتأمل وما يتصل بذلك. في هذه الحالة، نستطيع أن نقول أن "المدير" في ذلك الجهاز هو "الضمير". والضمير مستتر دائما، ولكنه موجود وفعال، وقد يعرفه البعض بأنه حديث النفس، ولكنه أقوى من ذلك بكثير، لأنه الحكم والقاضي الذي يقوم باتخاذ الجانب التشريعي وذلك الرقابي القضائي وذلك فيها الجانب التشريعي وذلك الرقابي القضائي وذلك التنفيذي معا في كل واحد. أما ما يتوسط بين حكم الضمير وتنفيذ الفعل المختار، فإنه الإرادة.





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق