الجمعة، 14 يونيو 2019

• الطبع والصنعة عند الشعراء


ميراث طويل من نقد الشعر يجعله يتأرجح دوما بين الشاعر المطبوع الذي ينطوي على كل معاني العفوية، وشاعر الصنعة الذي يعيد النظر دائما في أدواته الإبداعية.. وهذا المقال يلقي ضوءا جديدا على هذين المعنيين اللذين يبدوان قديمين.

حين قال البحتري ، في معرض هجومه على أقرانه المحدثين بأن الشعر "لمح تكفي إشارته" وإنه ينتسب إلى امرئ القيس (ذي القروح) الذي كان يقول بالشعر عفو الخاطر، دون مكابدة أو معاودة، كان البحتري يعبر بذلك عن انحيازه إلى "طريقة القدماء" التي كانت تؤثر الطبع على الصنعة، والنزعة الشفاهية على النزعة الكتابية، والبساطة على التعقيد، والوضوح على الغموض، والتشبيه على الاستعارة والاتباع على الابتداع، والتقليد على الاختراع، والسير على منوال القدماء في أشكال الإدراك وطرائق الصياغة. ومن اللافت للانتباه أن يعود البحتري إلى امرئ القيس تحديدا، في شكواه من خصومة - أبناء حرفته - المحدثين الذين كلفوه حدود منطقهم؟ مبتعدين عن طريقة امرئ القيس الذي يشير إليه البحتري في بيته الشعري:
ولم يكن ذو القروح يليهج بالـ
منطق ما نوعه وما سببه
والسر في هذه الإشارة أن امرا القيس كان يمثل قطب الطبع الجاهلي المقابل لقطب الصنعة الذي انطوى عليه شعر زهير بن أي سلمي الذي كان يوصف بأنه الشاعر المتكلف (نقيض الشاعر المطبوع) الذي يقول شعره بالثقاف، وينقحه بطول التفتيش ويعني ذلك أن خصومة البحتري الشاعر العباسي مع معاصريه المحدثين فرضت عليه العودة إلى الشعر الجاهلي، بوصفة أصل التقاليد والإطار المرجعي للقيمة الأدبية وفرضت عليمه في الوقت نفسه، أن يقوم بتأويل النزعتين المتقابلتين في الشعر الجاهلي، ويختار منهما، بعد تأويلهما، ما يدعم موقفه في خصومة الحاضر العباسي التي ارتدى فيها البحتري قناع امرئ القيس وخلع على أقرانه، في المسكوت عنه من أبياته قناعا شبيهـا بقناع زهير بن أبي سلمى.
التعارض بين الصنعة والطبع
هكذا أصبح التعارض بين طريقة زهير بن أبي سلمى وطريقة امرئ القيس، في العصر العباسي، تعارضا بين الصنعة والطبع، وبين النزعة الكتابية والنزعة الشفاهية أو بعبارة أخرى "خصومة بين القدماء والمحدثين"، خصومة جعلت من البحتري قطب طريقة القدماء، مقابل أبى تمام الذي أصبح قطب طريقة المحدثين، في سلسلة بدأت ببشار بن برد الذي ينتمي إلى جيل المحدثين الأول، وثنت بأبي نواس أبرز شعراء الجيل الثاني من المحدثين، وثلثت بأبي تمام الذي وصل بطريقة المحدثين إلى ذروتها. ولكن مصطلح "الخصومة بين القدماء والمحدثين" يتحول إلى مصطلح خادع لو قصرنا دلالته على مجرد الزمن، وصرفنا دلالة القديم إلى مجرد اتباع ما حدث في الزمن الماضي وتقليده، مقابل صرف دلالة المحدثين إلى الزمن الحاضر، فمصطلح "الحديث" المرتبط بالمحدثين، في هذا السياق أو الوجه الآخر من مصطلح الصنعة والكتابة، بالمعنى الذي يجعل منه أسلوب رؤية وطراز إدراك وحال وعي في آن.
وعندما نتحدث عن الوعي المحدث، في هذا السياق، فإنما نتحدث عن وعي يبدأ من الحاضر الذي يغدو حاضرا إشكاليا في عيني الشاعر، وعن الشعر الذي يتحول إلى كتابة تسعى إلى إدراك إشكال الحاضر في الوقت الذي تسعى فيه إلى إدراك وجودها الذاتي، وعن القصيدة التي تغدو صنعة تنطوي على وعي متميز بالأداة وإدراك مغاير لدورها في تحديد الغاية وصياغة الرؤية. ويعني ذلك أن الوعي المحدث ليس وعيا أحادي البعد، وإنما هو وعي ينقسم فعله على نفسه، فيغدو فعلا ثلاثي الأبعاد، فعلا تتزامن فيه حركة الوعي بالحاضر الإشكالي أولا، وحركة الوعي بالذات التي تعي هذا الحاضر ثانيا، وأخيرا حركة الوعي بالوسيلة - الأداة - الكتابة ـ الصنعة التي تكتشف بها الذات هذا الحاضر وتتعرفه في الوقت الذي تتعرف نفسها فيه.
وإذا كان مصطلح "الصنعة" يتحول إلى دال من دوال النزعة الكتابية، في هذا السياق، فإن دلالته تقترن بالبعد الإيجابي من هذه النزعة التي تقترن بنوع متميز من القيمة أشار إليه الحطيئة، قديما، حين قال: خير الشعر الحولي المحكك، في شعر الصنعة الذي لا يمكن أن يوصف بما وصف به الجاحظ فعل النزعة الشفاهية، عندها ذهب إلى أن كل شيء لعرب البداوة إنما هو بديهة وارتجال، دوق معاناة أو مكابدة، أو إجالة فكرة أو استعانة، فما هو إلا أن يصرف البدوي همه إلى الكلام وإلى رجز يوم الخصام، أو حين يمتح على رأس بئر، أو يحدو ببعير، أو عند المقارعة والمناقلة أو عند صراخ أو في حرلط فتأتيه المعاني أرسالا (أفواجا) وتنثال عليه الألفاظ انثيالا لا يقيدها على نفسها، ولا يفكر فيهـا، أو يتأمل حال ورودها عليه، أو حال وعيه بها، ومن ثم لا يعلمها. أحدا من ولده فيما يقول الجاحظ.
النظم الشفاهي
والواقع أن هذا الوصف الجاحظ ينطبق على ما أطلق عليه الدارسون المحدثون من المستعربين (أمثال مونرو وزيفتلر) اسم "النظم الشفاهي"، خاصة حين يميز هؤلاء الدارسون هذا النوع من النظم بالعفوية التي يتحول فيها الأداء إلى تأليف، والعكس صحيح بالقدر نفسه، والاعتماد الأساسي على أبنية الصيغ التي تقبل الإحلال والإبدال والتي تختزنها الذاكرة الفردية من الميراث الجمعي. هذا النظم الشفاهي، بدوره هو الوجه الآخر من الطبع الذي ينطوي على معنى العفوية، ولكن من الزاوية التي تتحول بها العفوية إلى جبرية تنتفي معها الإرادة وقدرة الاختيار، ويغدو معها النظم تدفقا جبريا لا شعوريا لمخزون يفيض على اللسان كما يفيض النبع، دون أن يكون للناظم نفسه دور في توجيه حركة التدفق أو الاختيار منهـا.
ولم يكن من قبيل المصادفة أن يشير "الطبع"، في سياقات الخصومة بين القدماء والمحدثين، إلى القضاء المقضي أو الجبر، والى النسخ والمحاكاة المتكررة التي تلازم التقليد، وإلى ما ركب في الإنسان من خصال لا تفارقه دون اختيار أو إرادة، عله نحو غدا معه الطبع قرين الجبلة أو السليقة أو الفطرة أو الغريزة أو السجية التي خلق الإنسان عليها، فالطبع مبدأ الحركة من غير تعمد، وما يقع للإنسان من غير إرادة، وما يفعله الإنسان حين يطبع على قوالب ليست من صنعه أو يحذو على أمثلة يحتمها عليه طبعه. وتلك دلالة تصل معنى التقليد بمعنى الجبر، على نحو يجعل منه الوجه الآخر للفعل الشفاهي الذي وصفه الجاحظ، أي الفعل الذي لا ينطوي صاحبه على وعي ذاتي به، ولا يجذب الانتباه إلى حضوره الخاص من حيث هو وجود متعدد الأبعاد.
وعلى النقيض من هذه الدلالة ينهـض مصطلح "الصنعة" نقيضا للدلالات التي ألصقهـا به نقاد الرومانسية وأصحاب نظرية التعبير، وعلى رأسهم المرحوم محمد مندور الذي ذهب إلى أن الشعر الجيد لا تستطيعه إلا النفوس الوحشية الغفل القوية، وأن الشعر لا يحتاج على معرفة كبيرة بالحياة ونظر فيهـا، وأن الجهل بها أكثر مواتاة للشاعر، فأجود الشعر أشده سذاجة. والواقع أن عبارة محمد مندور التي تقول إن أجود الشعر أكثره سذاجة لا تختلف كثيرا، من حيث الجوهر، عن المعنى الذي قصد إليه البحتري عندما وصف الشعر بأنه "لمح تكفي إشارته" وهي عبارة كان المراد بها في سياقها نفي المعرفة عن الشاعر، وجذب الشعر إلى نقيض الوعي المحدث، حيث مراح النفوس الوحشية، والجهل بالحياة والسذاجة التي تحولت إلى علامة من علامات القيمة.
الرومانسية في نقد الشعر
والواقع أن ميراثنا الرومانسي في نقد الشعر، الميراث الذي ارتبط بالحركة الليبرالية التي ردت كل شيء إلى الفرد الذي تحول إلى صانع للتاريخ ومحرك للوجود، هو الميراث الذي غذى في نفوسنا التعاطف مع عبارات البحتري، وتقبل الطبع بوصفه علامة النفوس الوحشية الساذجة التي كاد جيل محمد مندور والجيل السابق عليه مباشرة أن يقصرا عليها نبع الشعر.
وأحسب أن المحدثين في العصر العباسي وأحفادهم من أنصار الحداثة في هذا العصر هم الذين يقنعوا بتلك الأفكار التي تقرن الجودة بالطبع والتميز بالعفوية والشعرية بالسذاجة. ولذلك كان عليهم إبراز الوجه الآخر من الصورة، والتقاط البعد المناقض من الدلالة، ووضع "الصنعة" في سياق جديد، يقترن بتأكيد إرادة الإبداع لدى المبدع التي هي الوجه الآخر من إرادته في التاريخ وفعله في الواقع. في الوقت نفسه تأكيد الدور المتعدد للوعي من حيث هو وعي بالكتابة، ووعي بالعالم الذي تكتبه الكتابة، ووعي بالذات الصانعة للكتابة التي تصنع العالم على عينها أثناء فعل الكتابة ويؤكد هذا السياق الجديد للصنعة ما اقترنت به من وعي ذاتي بالقصيدة عند المحدثين الذين كانوا يعيدون النظر إلى العالم في الوقت الذي يعيدون النظر في أدواتهم الإبداعية التي حاولوا أن يقتنصوا بها العالم في شبكة الكتابة.
إن إحدى علامات الوعي المحدث المائزة عند أمثال بشار بن برد وأبي نواس وأبي تمام وغيرهم من المحدثين هي الوعي المتميز بقصيدتهم من ناحية، ودور هذه القصيدة في تغيير العالم من ناحية ثانية، ولذلك ألحوا أكثر من غيرهم على توجيه الأنظار إلى قصائدهم، على النحو الذي غدت قصائدهم تلفت العين إلى حضور العالم وإلى حضورها الذاتي في العالم بالقدر نفسه. وعندما يقول أبوتمام:
جذبت نداه غدوة السبت جذبة
فخر صريعا بين أيدي القصائد
فإنه يشير إلى الممدوح الذي يقع خارج القصيدة وإلى القصيدة من حيث هي حضور ذاتي في الوقت نفسه ويصل بين الحضورين بما يرد عجزهما على صدرهما، ويلفتنا إلى قدرة القصيدة على أن تفعل فعلها في الواقع الخارجي، وذلك من الزاوية التي لا تكتب أسطورة الواقع بل أسطورة القصيدة في الواقع.
والوعي المحدث بأسطورة القصيدة، من هذه الزاوية، يبدأ من إدراك مغايرة هذه القصيدة لما قبلها، وتأكيد تفردها بما يصلح أن يكون تفسيرا لعبارة أبي تمام التي تقول "كل شيء غث إذا عادا". وهو تفسير يدعمه ما قاله أبو تمام عن قصيدته التي يصفها بأنها "جديدة المعنى"و"بكر" يزيدها مر الليالي جدة، لا تشتبه على سامعها اشتباه البيد على رائيها، لأنها
مُنَزَّهَةٌ عن السرق المُوَرَّى
مُكُرَّمَةٌ عَن المعنى المعاد
فالوعي بالقصيدة المحدثة وعي بتفردها، ووعي ببلاغتها الخاصة التي أكدها النواسي تأكيدا مباشرا وغير مباشر عندما وصف بلاغة التقليد بأنها "بلاغة الفدم" والقصيدة التي تجسدها الكتابة وتتحقق بالصنعة هي التي تظل حمالة للمعنى، توصل من الدلالة ما يجعلها تبقى "بقاء الوحي في الصم الصلاب" فيفخر بها الشاعر الذي يقول عن نفسه:
ومالي ضيعةٌ إلا المطايا
وشعر لا يباع ولا يعار
وهو شاعر لم يصل إلى هذا المستوى من الفخر إلا بعد أن أدرك أن الشعر "صوب العقول" وأن القصيدة "ابنة الفكر المهـذب في الدجى"، وأن الشاعر الحق هو الذي لا يثق بكل ما يرى أو يسمع أو يجود به الطبع، لأنه يعرف أن الشعر صعب القوافي إلا لفارسه، وأن عليه أن يروضه، ويتأنى في كتابته، حتى يأسر العالم في بيت اللغة، ويحقق لذة الكتابة التي قصد إليها أبو تمام عندما قال:
والشعر فرج ليست خصيصته
طول الليالي إلا لمفترعه
ولم يكن هذا الوعي بالصنعة (أو لذة الكتابة) سوى الوجه الأخر من الوعي بقدرة الشعر على تغيير العالم ع والانتقال به من مستوى الضرورة إلى أفق قريب من مستوى الحرية. هذا الوعي هو ما نراه عند المحدثين الذين لم يكن الشعر عندهم متجرا يدورون به على الملوك، بل كان إلى جانب ذلك، وقبل ذلك - صنعة وجهها الفردي قرين لذة الكتابة، ووجهها الجمعي قرين الوعي الفردي الذي لا يتردد في أن يقول ما قاله أبوتمام:
ولم أر كالمعروف تُدْعَى حُقوقُه
مَغارم في الأقوام وهي غَوَانِم
ولا كالعُلى ما لم يُر الشعر بينها
فكالأرض غُفْلاً ليسن فيها مَعَالم






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق